تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 227 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 227

226

معنى: 45- "ونادى نوح ربه" دعاه، والمراد أراد دعاءه بدليل الفاء في "فقال رب إن ابني من أهلي" وعطف الشيء على نفسه غير سائغ، فلا بد من التقدير المذكور، ومعنى قوله: "إن ابني من أهلي" أنه من الأهل الذين وعدتني بتنجيتهم بقولك: "وأهلك". فإن قيل: كيف طلب نوح عليه السلام إنجاز ما وعده الله بقوله: "وأهلك" وهو المستثنى منه، وترك ما يفيده الاستثناء، وهو "إلا من سبق عليه القول"؟ فيجاب: بأنه لم يعلم إذ ذاك أنه ممن سبق عليه القول، فإنه كان يظنه من المؤمنين "وإن وعدك الحق" الذي لا خلف فيه، وهذا منه "وأنت أحكم الحاكمين" أي أتقن المتقنين لما يكون به الحكم، فلا يتطرق إلى حكمك نقض، وقيل: أراد بأحكم الحاكمين أعلمهم وأعدلهم: أي أنت أكثر علماً وعدلاً من ذوي الحكم، وقيل: إن الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدارع.
ثم أجاب الله سبحانه عن نوح ببيان أن ابنه غير داخل في عموم الأهل، وأنه خارج بقيد الاستثناء فـ "قال يا نوح إنه ليس من أهلك" الذين آمنوا بك وتابعوك وإن كان من أهلك باعتبار القرابة، ثم صرح بالعلة الموجبة لخروجه من عموم الأهل المبينة له بأن المراد بالقرابة الدين لا قرابة النسب وحده فقال: "إنه عمل غير صالح". قرأ الجمهور عمل على لفظ المصدر. وقرأ ابن عباس وعكرمة والكسائي ويعقوب عمل على لفظ الفعل، ومعنى القراءة الأولى المبالغة في ذمه كأنه جعل نفس العمل، وأصله ذو عمل غير صالح ثم حذف المضاف وجعل نفس العمل، كذا قال الزجاج وغيره. ومعنى القراءة الثانية ظاهر: أي إنه عمل عملاً غير صالح، وهو كفره وتركه لمتابعة أبيه، ثم نهاه عن مثل هذا السؤال، فقال: "فلا تسألن ما ليس لك به علم" لما بين له بطلان ما اعتقده من كونه من أهله فرع على ذلك النهي عن السؤال، وهو وإن كان نهياً عاماً بحيث يشمل كل سؤال لا يعلم صاحبه أن حصول مطلوبه منه صواب، فهو يدخل تحته سؤاله هذا دخولاً أولياً، وفيه عدم جواز الدعاء بما لا يعلم الإنسان مطابقته للشرع، وسمي دعاءه سؤالاً لتضمنه معنى السؤال "إني أعظك أن تكون من الجاهلين" أي أحذرك أن تكون من الجاهلين كقوله: "يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً" وقيل المعنى: أرفعك أن تكون من الجاهلين. قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحاً عن مقام الجاهلين ويعليه بها إلى مقام العلماء العاملين.
ثم لما علم نوح بأن سؤاله لم يطابق الواقع، وأن دعاءه ناشئ عن وهم كان يتوهمه بادر إلى الاعتراف بالخطأ وطلب والمغفرة والرحمة، فـ 47- "قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم" أي أعوذ بك أن أطلب منك ما لا علم لي بصحته وجوازه، " وإلا تغفر لي " ذنب ما دعوت به على غير علم مني "وترحمني" برحمتك التي وسعت كل شيء فتقبل توبتي "أكن من الخاسرين" في أعمالي فلا أربح فيها.
القائل هو الله، أو الملائكة 48- "قيل يا نوح اهبط" أي انزل من السفينة إلى الأرض، أو من الجبل إلى المنخفض من الأرض فقد بلعت الأرض ماءها وجفت "بسلام منا" أي بسلامة وأمن، وقيل: بتحية "وبركات" أي نعم ثابتة، مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته، ومنه البركة لثبوت الماء فيها، وفي هذا الخطاب له دليل على قبول توبته ومغفرة زلته "وعلى أمم ممن معك" أي ناشئة ممن معك، وهم المتشعبون من ذرية من كان معه في السفينة، وقيل: أراد من في السفينة، فإنهم أمم مختلفة وأنواع من الحيوانات متباينة. قيل: أراد الله سبحانه بهؤلاء الأمم الذين كانوا معه من صار مؤمناً من ذريتهم، وأراد بقوله: "وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم" من صار كافراً من ذريتهم إلى يوم القيامة، وارتفاع أمم في قوله: "وأمم سنمتعهم" على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي ومنهم أمم، وقيل على تقدير: ويكون أمم. وقال الأخفش: هو كما تقول: كلمت زيداً وعمرو جالس، وأجاز الفراء في غير القراءة وأمماً سنمتعهم: أي ونمتع أمماً، ومعنى الآية: وأمم سنمتعهم في الدنيا بما فيها من المتاع، ونعطيهم منها ما يعيشون به، ثم يمسهم منا في الآخرة عذاب أليم، وقيل: يمسهم إما في الدنيا أو في الآخرة.
والإشارة بقوله: 49- "تلك" إلى قصة نوح، وهي مبتدأ والجمل بعده أخبار "من أنباء الغيب" من جنس أنباء الغيب، والأنباء جمع نبأ وهو الخبر: أي من أخبار الغيب التي مرت بك في هذه السورة، والضمير في "نوحيها إليك" راجع إلى القصة، والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة "ما كنت" يا محمد "تعلمها أنت ولا" يعلمها "قومك" بل هي مجهولة عندكم من قبل الوحي، أو من قبل هذا الوقت "فاصبر" على ما تلاقيه من كفار زمانك، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها "إن العاقبة" المحمودة في الدنيا والآخرة "للمتقين" لله المؤمنين بما جاءت به رسله، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبشير له بأن الظفر للمتقين في عاقبة الأمر، ولا اعتبار بمباديه. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال: نادى نوح ربه فقال: رب إن ابني من أهلي، وإنك قد وعدتني أن تنجي لي أهلي، وإن ابني من أهلي. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن ابن عباس قال: ما بغت امرأة نبي قط، وقوله: "إنه ليس من أهلك" يقول: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال: إن نساء الأنبياء لا يزنين، وكان يقرؤها "إنه عمل غير صالح" يقول: مسألتك إياي يا نوح عمل غير صالح لا أرضاه لك. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فلا تسألن ما ليس لك به علم" قال: بين الله لنوح أنه ليس بابنه. وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: "يا نوح اهبط بسلام منا" قال: أهبطوا والله عنهم راض. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال: دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في ذلك العذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة. وأخرج ابن جرير عن الضحاك " وعلى أمم ممن معك " يعني ممن لم يولد، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة "وأمم سنمتعهم" يعني متاع الحياة الدنيا "ثم يمسهم منا عذاب أليم" لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة. وأخرج أبو الشيخ قال: ثم رجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك" يعني العرب "من قبل هذا" القرآن.
قوله: 50- "وإلى عاد أخاهم هوداً" معطوف على وأرسلنا نوحاً: أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم: أي واحداً منهم، وهوداً عطف بيان وقوم عاد كانوا عبدة أوثان وقد تقدم مثل هذا في الأعراف. وقيل: هم عاد الأولى وعاد الأخرى، فهؤلاء هم عاد الأولى وعاد الأخرى هم شداد ولقمان وقومهما المذكورون في قوله: "إرم ذات العماد"، وأصل عاد: اسم رجل ثم صار اسماً للقبيلة كتميم وبكر ونحوهما "ما لكم من إله غيره" قرئ غيره بالجر على اللفظ، وبالرفع على محل من إله، وقرئ بالنصب على الاستثناء "إن أنتم إلا مفترون" أي ما أنتم باتخاذ إله غير الله إلا كاذبون على الله عز وجل.
ثم خاطبهم فقال: 51- "يا قوم لا أسألكم عليه أجراً" أي لا أطلب منكم أجراً على ما أبلغه إليكم وأنصحكم به من الإرشاد إلى عبادة الله وحده وأنه لا إله لكم سواه، فالضمير راجع إلى مضمون هذا الكلام. وقد تقدم معنى هذا في قصة نوح "إن أجري إلا على الذي فطرني" أي ما أجري الذي أطلب إلا من الذي فطرني: أي خلقني فهو الذي يثيبني على ذلك "أفلا تعقلون" أن أجر الناصحين إنما هو من رب العالمين، قيل: إنما قال فيما تقدم في قصة نوح: مالاً، وهنا قال: أجراً لذكر الخزائن بعده في قصة نوح، ولفظ المال بها أليق.
ثم أرشدهم إلى الاستغفار والتوبة. والمعنى: اطلبوا مغفرته لما سلف من ذنوبكم ثم توسلوا إليه بالتوبة. وقد تقدم زيادة بيان لمثل هذا في قصة نوح، ثم رغبهم في الإيمان بالخير العاجل، فقال: 52- "يرسل السماء" أي المطر "عليكم مدراراً" أي كثير الدرور، وهو منصوب على الحال، درت السماء تدر وتدر فهي مدرار، وكان قوم هود أهل بساتين وزرع وعمارة، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن "ويزدكم قوة إلى قوتكم" معطوف على يرسل: أي شدة مضافة إلى شدتكم، أو خصباً إلى خصبكم، أو عزاً إلى عزكم. قال الزجاج: المعنى يزدكم قوة في النعم "ولا تتولوا مجرمين" أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه وتقيموا على الكفر مصرين عليه، والإجرام: الآثام كما تقدم.
ثم أجابه قومه بما يدل على فرط جهالتهم، وعظيم غباوتهم، فـ "قالوا يا هود ما جئتنا ببينة" أي بحجة واضحة نعمل عليها، ونؤمن لك بها غير معترفين بما جاءهم من حجج الله وبراهينه عناداً وبعداً عن الحق "وما نحن بتاركي آلهتنا" التي نعبدها من دون الله. ومعنى "عن قولك" صادرين عن قولك، فالظرف في محل نصب على الحال "وما نحن لك بمؤمنين" أي بمصدقين في شيء مما جئت به.