تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 228 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 228

227

54- "إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء" أي ما نقول إلا أنه أصابك بعض آلهتنا التي تعيبها وتسفه رأينا في عبادتها بسوء بجنون، حتى نشأ عن جنونك ما تقوله لنا وتكرره علينا من التنفير عنها، يقال: عراه الأمر واعتراه: إذا ألم به، فأجابهم بما يدل على عدم مبالاته بهم وعلى وثوقه بربه وتوكله عليه، وأنهم لا يقدرون على شيء مما يريده الكفار به، بل الله سبحانه هو الضار النافع فـ "قال إني أشهد الله واشهدوا" أنتم "أني بريء مما تشركون" به.
55- "من دونه" أي من إشراككم من دون الله من غير أن ينزل به سلطاناً "فكيدوني جميعاً" أنتم وآلهتكم إن كانت كما تزعمون من أنها تقدر على الإضرار بي وأنها اعترتني بسوء "ثم لا تنظرون" أي لا تمهلوني، بل عاجلوني واصنعوا ما بدا لكم، وفي هذا من إظهار عدم المبالاة بهم وبأصنامهم التي يعبدونها ما يصك مسامعهم، ويوضح عجزهم وعدم قدرتهم على شيء.
56- "إني توكلت على الله ربي وربكم" فهو يعصمني من كيدكم، وإن بلغتم في تطلب وجوه الإضرار بي كل مبلغ، فمن توكل على الله كفاه. ثم لما بين لهم توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته وصفه بما يوجب التوكل عليه والتفويض إليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم، وأنه مالك للجميع، وأن ناصية كل دابة من دواب الأرض بيده، وفي قبضته وتحت قهره، وهو تمثيل لغاية التسخير ونهاية التذليل، وكانوا إذا أسروا الأسير وأرادوا إطلاقه، والمن عليه جزوا ناصيته فجعلوا ذلك علامة لقهره. قال الفراء: معنى آخذ بناصيتها مالكها والقادر عليها، وقال القتيبي: قاهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته، والناصية قصاص الشعر من مقدم الرأس، ثم علل ما تقدم بقوله: "إن ربي على صراط مستقيم" أي هو على الحق والعدل فلا يكاد يسلطكم علي.
57- "فإن تولوا" أي تتولوا فحذفت إحدى التاءين، والمعنى فإن تستمروا على الإعراض عن الإجابة والتصميم على ما أنتمن عليه من الكفر "فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم" ليس علي إلا ذلك، وقد لزمتكم الحجة "ويستخلف ربي قوماً غيركم" جملة مستأنفة لتقرير الوعيد بالهلاك: أي يستخلف في دياركم وأموالكم قوماً آخرين، ويجوز أن يكون عطفاً على فقد أبلغتكم. وروى حفص عن عاصم أنه قرأ ويستخلف بالجزم حملاً على موضع فقد أبلغتكم "ولا تضرونه شيئاً" أي بتوليكم، ولا تقدرون على كثير من الضرر ولا حقير "إن ربي على كل شيء حفيظ" أي رقيب مهيمن عليه يحفظه من كل شيء، قيل: وعلى بمعنى اللام، فيكون المعنى: لكل شيء حفيظ فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء.
58- "ولما جاء أمرنا" أي عذابنا الذي هو إهلاك عاد "نجينا هوداً والذين آمنوا معه" من قومه "برحمة منا" أي برحمة عظيمة كائنة منا لأنه لا ينجو أحد إلا برحمة الله، وقيل هي الإيمان "من عذاب غليظ" أي شديد وقيل وهو السموم التي كانت تدخل أنوفهم.
59- "وتلك عاد" مبتدأ وخبر، وأنث الإشارة اعتباراً بالقبيلة. قال الكسائي: إن من العرب من لا يصرف عاد ويجعله اسماً للقبيلة "جحدوا بآيات ربهم" أي كفروا بها وكذبوها وأنكروا المعجزات "وعصوا رسله" أي هوداً وحده، لأنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هنا لأن من كذب رسولاً فقد كذب جميع الرسل، وقيل: إنهم عصوا هوداً ومن كان قبله من الرسل، أو كانوا بحيث لو بعث الله إليهم رسلاً متعددين لكذبوهم "واتبعوا أمر كل جبار عنيد" الجبار المتكبر، والعنيد: الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له. قال أبو عبيدة: العنيد العنود والعاند والمعاند، وهو المعارض بالخلاف منه، ومنه قيل للعرق الذي يتفجر بالدم عاند. قال الراجز: إني كبير لا أطيق العندا
60- "وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة" أي: ألحقوها، وهي الإبعاد من الرحمة والطرد من الخير، والمعنى أنها لازمة لهم لا تفارقهم ما داموا في الدنيا "و" أتبعوها "يوم القيامة" فلعنوا هنالك كما لعنوا في الدنيا "ألا إن عاداً كفروا ربهم" أي بربهم. وقال الفراء: كفروا نعمة ربهم، يقال: كفرته وكفرت به: مثل شكرته وشكرت له "ألا بعداً لعاد قوم هود" أي لا زالوا مبعدين من رحمة الله، والبعد: الهلاك، والبعد: التباعد من الخير، يقال: بعد يبعد بعداً: إذا تأخر وتباعد، وبعد يبعد بعداً: إذا هلك، ومنه قول الشاعر: لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر وقال النابغة: فلا تبعدن إن المنية منهل وكل امرئ يوماً به الحال زائل ومنه قول الشاعر: ما كان ينفعني مقال نسائهم وقتلت دون رجالهم لا تبعد وقد تقدم أن العرب تستعمله في الدعاء بالهلاك. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة "إلا على الذي فطرني" أي خلقني. وأخرج ابن عساكر عن الضحاك قال: أمسك الله عن عاد القطر ثلاث سنين، فقال لهم هود: "استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً" فأبوا إلا تمادياً. وأخرج أبو الشيخ عن هارون التيمي في قوله: "يرسل السماء عليكم مدراراً" قال: المطر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ويزدكم قوة إلى قوتكم" قال: شدة إلى شدتكم. أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: "ويزدكم قوة إلى قوتكم" قال: ولد الولد. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء" قال: أصابتك بالجنون. وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن سعيد قال: ما من أحد يخاف لصاً عادياً، أو سبعاً ضارياً، أو شيطاناً مارداً فيتلو هذه الآية إلا صرفه الله عنه. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد: "إن ربي على صراط مستقيم" قال: الحق. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "عذاب غليظ" قال: شديد. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "كل جبار عنيد" قال: المشرك. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: العنيد المشاق. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة" قال: لم يبعث نبي بعد عاد إلا لعنت على لسانه. وأخرج ابن المنذر عن قتادة في الآية قال: تتابعت عليهم لعنتان من الله: لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة.
قوله: 61- "وإلى ثمود أخاهم صالحاً" معطوف على ما تقدم، والتقدير: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً، والكلام فيه، وفي قوله: "يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" كما تقدم في قصة هود. وقرأ الحسن ويحيى بن وثاب وإلى ثمود بالتنوين في جميع المواضع. واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع، فالصرف باعتبار التأويل بالحي، والمنع باعتبار التأويل بالقبيلة، وهكذا سائر ما يصح فيه التأويلان، وأنشد سيبويه في التأنيث باعتبار التأويل بالقبيلة: غلب المساميح الوليد جماعة وكفى قريش المعضلات وسادها "هو أنشأكم من الأرض" أي ابتدأ خلقكم من الأرض، لأن كل بني آدم من صلب آدم، وهو مخلوق من الأرض "واستعمركم فيها" أي جعلكم عمارها وسكانها، من قولهم: أعمر فلان فلاناً داره فهي له عمرى، فيكون استفعل بمعنى أفعل: مثل استجاب بمعنى أجاب. وقال الضحاك: معناه أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ثلثمائة إلى ألف، وقيل معناه: أمركم بعمارتها من بناء المساكن وغرس الأشجار "فاستغفروه" أي سلوه المغفرة لكم من عبادة الأصنام "ثم توبوا إليه" أي ارجعوا إلى عبادته "إن ربي قريب مجيب" أي قريب الإجابة لمن دعاه، وقد تقدم القول فيه في البقرة عند قوله تعالى: "فإني قريب أجيب دعوة الداع".
62- "قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا" أي كنا نرجو أن تكون فينا سيداً مطاعاً ننتفع برأيك، ونسعد بسيادتك قبل هذا الذي أظهرته من ادعائك النبوة ودعوتك إلى التوحيد، وقيل: كان صالح يعيب آلهتهم وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم، فلما دعاهم إلى الله قالوا انقطع رجاؤها منك، والاستفهام في قوله: "أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا" للإنكار أنكروا عليه هذا النهي، وأن نعبد في محل نصب بحذف الجار: أي بأن نعبد، ومعنى ما يعبد آباؤنا: ما كان يعبد آباؤنا، فهو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة "وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب" من أربته فأنا أريبه: إذا فعلت به فعلاً يوجب له الريبة، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة، أو من أراب الرجل: إذا كان ذا ريبة، والمعنى: إننا لفي شك مما تدعونا إليه من عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان موقع في الريب.