سورة يوسف | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 236 من المصحف
5- "قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك" الرؤيا مصدر رأى في المنام رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى، وألفه للتأنيث ولذلك لم يصرف، نهى يعقوب عليه السلام ابنه يوسف عن أن يقص رؤياه على إخوته، لأنه قد علم تأويلها وخاف أن يقصها على إخوته فيفهمون تأويلها ويحصل منهم الحسد له، ولهذا قال: "فيكيدوا لك كيداً" وهذا جواب النهي وهو منصوب بإضمار أن: أي فيفعلوا لك: أي لأجلك كيداً مثبتاً راسخاً لا تقدر على الخلوص منه، أو كيداً خفياً عن فهمك، وهذا المعنى الحاصل بزيادة اللام آكد من أن يقال فيكيدوا كيداً، وقيل إنما جيء باللام لتضمينه معنى الاحتيال المتعدي باللام، فيفيد هذا التضمين معنى الفعلين جميعاً الكيد والاحتيال كما هو القاعدة في التضمين أن يقدر أحدهما أصلاً والآخر حالاً، وجملة "إن الشيطان للإنسان عدو مبين" مستأنفة، كأن يوسف عليه السلام قال: كيف يقع منهم، فنبهه بأن الشيطان يحملهم على ذلك، لأنه عدو للإنسان مظهر للعداوة مجاهر بها.
6- قوله "وكذلك يجتبيك ربك" أي مثل ذلك الاجتباء البديع الذي رأيته في النوم من سجود الكواكب والشمس والقمر يجتبيك ربك، ويحقق فيك تأويل تلك الرؤيا، فيجعلك نبياً ويصطفيك على سائر العباد، ويسخرهم لك كما تسخرت لك تلك الأجرام التي رأيتها في منامك فصارت ساجدة لك، قال النحاس: والاجتباء أصله من جبيت الشيء حصلته، ومنه جبيت الماء في الحوض جمعته، ومعنى الاجتباء: الاصطفاء، وهذا يتضمن الثناء على يوسف وتعديد نعم الله عليه، ومنها "ويعلمك من تأويل الأحاديث" أي تأويل الرؤيا. قال القرطبي: وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا، وقد كان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها، وقيل المراد: ويعلمك من تأويل أحاديث الأمم والكتب، وقيل المراد به إحواج إخوته إليه، وقيل إنجاؤه من كل مكروه، وقيل إنجاؤه من القتل خاصة "ويتم نعمته عليك" فيجمع لك بين النبوة والملك كما تدل عليه هذه الرؤيا التي أراك الله، أو يجمع لك بين خيري الدنيا والآخرة "وعلى آل يعقوب" وهم قرابته من إخوته وأولاده ومن بعدهم، وذلك أن الله سبحانه أعطاهم النبوة كما قاله جماعة من المفسرين، ولا يبعد أن يكون إشارة إلى ما حصل لهم بعد دخولهم مصر من النعم التي من جملتها كون الملك فيهم مع كونهم أنبياء "كما أتمها على أبويك"، أي إتماماً مثل إتمامها على أبويك: وهي نعمة النبوة عليهما، مع كون إبراهيم اتخذه الله خليلاً، ومع كون اسحاق نجاه الله سبحانه من الذبح وصار لهما الذرية الطيبة: وهم يعقوب، ويوسف، وسائر الأسباط، ومعنى "من قبل" من قبل هذا الوقت الذي أنت فيه، أو من قبلك، وإبراهيم وإسحاق عطف بيان لأبويك، وعبر عنهما بالأبوين مع كون أحدهما جداً: وهو إبراهيم، لأن الجد أب " إن ربك عليم " بكل شيء " حكيم " في كل أفعاله، والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها تعليلاً له: أي فعل ذلك لأنه عليم حكيم، وكان هذا كلام من يعقوب مع ولده يوسف تعبيراً لرؤياه على طريق الإجمال، أو علم ذلك من طريق الوحي، أو عرفه بطريق الفراسة وما تقتضيه المخايل اليوسفية. وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "تلك آيات الكتاب المبين" قال: بين الله حلاله وحرامه. وأخرج ابن جرير عن معاذ قال: بين الله [الحروف] التي سقطت عن ألسن الأعاجم، وهي ستة أحرف. وأخرج الحاكم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قرآناً عربياً ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهاماً". وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزل القرآن بلسان قريش، وهو كلامهم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله لو قصصت علينا، فنزلت "نحن نقص عليك أحسن القصص". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مثله، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "نحن نقص عليك أحسن القصص" قال: من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في الأمم، "وإن كنت من قبله" أي من قبل هذا القرآن "لمن الغافلين". وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك "نحن نقص عليك أحسن القصص" قال: القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس. في قوله:"إني رأيت أحد عشر كوكباً" قال: رؤيا الأنبياء وحي. وأخرج سعيد بن منصور والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي وابن حبان في الضعفاء وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال: "جاء بستاني اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشيء، فنزل عليه جبريل فأخبره بأسمائها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البستاني اليهودي فقال: هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟ قال نعم، قال: خرثان، والطارق، والذيال، وذوالكتفان، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرغ، والضياء والنور: رآها في أفق السماء ساجدة له، فلما قص يوسف على يعقوب قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله من بعد، فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها" هكذا ساقه السيوطي في الدر المنثور، وأما ابن كثير فجعل قوله: فلما قص إلخ رواية منفردة وقال: تفرد بها الحكم بن ظهيرة الفزاري: وقد ضعفوه وتركه الأكثرون. وقال الجوزجاني: ساقط. وقال ابن الجوزي: هو موضوع. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "أحد عشر كوكباً" قال: إخوته، والشمس قال: أمه، والقمر قال: أبوه، وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس "وكذلك يجتبيك ربك" قال: يصطفيك. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة مثله، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "ويعلمك من تأويل الأحاديث" قال: عبارة الرؤيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد "ويعلمك من تأويل الأحاديث" قال: تأويل العلم والحلم، وكان يوسف من أعبر الناس. وأخرج ابن جرير عن عكرمة "كما أتمها على أبويك" قال: فنعمته على إبراهيم: أن نجاه من النار، وعلى إسحاق: أن نجاه من الذبح.
7- أي "لقد كان" في قصتهم علامات دالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه "للسائلين" من الناس عنها، وقرأ أهل مكة آية على التوحيد، وقرأ الباقون على الجمع، واختار قراءة الجمع أبو عبيد. قال النحاس: وآية ها هنا قراءة حسنة، وقيل المعنى: لقد كان في يوسف وإخوته آيات دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للسائلين له من اليهود، فإنه روى أنه قال له جماعة من اليهود وهو بمكة: أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمي، ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ولا من يعرف خبر الأنبياء، وإنما وجهوا إليه من أهل المدينة من يسأله عن هذا، فأنزل الله سورة يوسف جملة واحدة كما في التوراة. وقيل معنى "آيات للسائلين" عجب لهم، وقيل بصيرة، وقيل عبرة. قال القرطبي: وأسماؤهم يعني إخوة يوسف: روبيل، وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وريالون، ويشجر، وأمهم ليا بنت ليان وهي بنت خال يعقوب، وولد له من سريتين أربعة، وهم: دان، ونفتالي، وجاد، وآشر، ثم ماتت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له يوسف، وبنيامين، وقال السهيلي: إن أم يوسف اسمها وقفا، وراحيل ماتت من نفاس بنيامين وهو أكبر من يوسف.
8- "إذ قالوا ليوسف وأخوه" أي وقت قالوا، والظرف متعلق بكان "أحب إلى أبينا منا" والمراد بقوله "وأخوه" هو بنيامين، وخصوه بكونه أخاه مع أنهم جميعاً إخوته، لأنه أخوه لأبويه كما تقدم، ووحد الخبر فقال: أحب مع تعدد المبتدأ، لأن أفعل التفضيل يستوي فيه الواحد وما فوقه إذا لم يعرف، واللام في ليوسف هي الموطئة للقسم، وإنما قالوا هذه لأنه بلغهم خبر الرؤيا فأجمع رأيهم على كيده، وجملة "ونحن عصبة " في محل نصب على الحال، والعصبة: الجماعة، قيل وهي ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل إلى الخمسة عشر، وقيل من العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها بل هي كالنفر والرهط، وقد كانوا عشرة "إن أبانا لفي ضلال مبين" أي لفي ذهاب عن وجه التدبير بالترجيح لهما علينا وإيثارهما دوننا مع استوائنا في الانتساب إليه ولا يصح أن يكون مرادهم أنه في دينه في ضلال مبين.
9- "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً" أي قالوا: افعلوا به أحد الأمرين: إما القتل، أو الطرح في أرض، أو المشير بالقتل بعضه والمشير بالطرح البعض الآخر، أو كان المتكلم بذلك واحد منهم فوافقه الباقون، فكانوا كالقائل في نسبة هذا المقول إليهم، وانتصاب أرضاً على الظرفية، والتنكير للإبهام: أي أرضاً مجهولة، وجواب الأمر "يخل لكم وجه أبيكم" أي يصف ويخلص فيقبل عليكم ويحبكم حباً كاملاً "وتكونوا" معطوف على يخل، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أن "من بعده" أي من بعد يوسف، والمراد بعد الفراغ من قتله أو طرحه، وقيل من بعد الذنب الذي اقترفوه في يوسف "قوماً صالحين" في أمور دينكم وطاعة أبيكم، أو صالحين في أمور دنياكم لذهاب ما كان يشغلكم عن ذلك، وهو الحسد ليوسف وتكدر خواطركم بتأثيره عليكم هو وأخوه، أو المراد بالصالحين: التائبون من الذنب.
10- "قال قائل منهم" أي من الإخوة، قيل هو يهوذا، وقيل روبيل، وقيل شمعون " لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب " قيل ووجه الإظهار في لا تقتلوا يوسف استجلاب شفقتهم عليه. قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام في غيابة الجب بالإفراد. وقرأ أهل المدينة في غيابات بالجمع، واختار أبو عبيد الإفراد وأنكر الجمع، لأن الموضع الذي ألقوه فيه واحد، قال النحاس: وهذا تضييق في اللغة، وغيابات على الجمع تجوز، والغيابة كل شيء غيب عنك شيئاً، وقيل للقبر غيابة، والمراد بها هنا غور البئر الذي لا يقع البصر عليه، أو طاقة فيه، قال الشاعر: ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث إلى ذا كما قد غيبتني غيابيــا والجب: البئر التي لم تطو، ويقال لها قبل الطي ركية، فإذا طويت قيل لها بئر، سميت جباً لأنها قطعت في الأرض قطعاً، وجمع الجب جبب وجباب وأجباب، وجمع بين الغيابة والجب مبالغة في أن يلقوه في مكان من الجب شديد الظلمة حتى لا يدركه نظر الناظرين، قيل وهذه البئر ببيت المقدس، وقيل بالأردن، وجواب الأمر "يلتقطه بعض السيارة" قرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة تلتقطه بالمثناة الفوقية، ووجهه أن بعض السيارة سيارة. وحكي عن سيبويه سقطت بعض أصابعه، ومنه قول الشاعر: أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ الســــــرار من الهلال وقرأ الباقون يلتقطه بالتحتية، والسيارة: الجمع الذي يسيرون في الطريق، والالتقاط: هو أخذ شيء مشرف على الضياع، وكأنهم أرادوا أن بعض السيارة إذا التقطه حمله إلى مكان بعيد بحيث يخفى عن أبيه ومن يعرفه، ولا يحتاجون إلى الحركة بأنفسهم إلى المكان البعيد، فربما أن والدهم لا يأذن لهم بذلك، ومعنى "إن كنتم فاعلين" إن كنتم عاملين بما أشرت به عليكم في أمره، كأنه لم يجزم بالأمر، وبل وكله إلى ما يجمعون عليه كما يفعله المشير مع من استشاره. وفي هذا دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء، فإن الأنبياء لا يجوز عليهم التواطؤ على القتل لمسلم ظلماً وبغياً، وقيل كانوا أنبياء، وكان ذلك منهم زلة قدم وأوقعهم فيها التهاب نار الحسد في صدورهم واضطرام جمرات الغيظ في قلوبهم. ورد بأن الأنبياء معصومون عن مثل هذه المعصية الكثيرة المتبالغة في الكبر، مع ما في ذلك من قطع الرحم وعقوق الوالد وافتراء الكذب، وقيل إنهم لم يكونوا في ذلك الوقت أنبياء، بل صاروا أنبياء من بعد. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "آيات للسائلين" قال عبرة، وأخرج أيضاً عن قتادة في الآية يقول: من سأل عن ذلك فهو هكذا ما قص الله عليكم وأنبأكم به، وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك نحوه، وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال: إنما قص الله على محمد صلى الله عليه وسلم خبر يوسف وبغي إخوته عليه وحسدهم إياه حين ذكر رؤياه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي قومه عليه وحسدهم إياه حين أكرمه الله بنبوته ليتأسى به. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "إذ قالوا ليوسف وأخوه" يعني بنيامين هو أخوه لأبيه وأمه، وفي قوله "ونحن عصبة" قال: العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد قال: العصبة الجماعة "إن أبانا لفي ضلال مبين" قال: لفي خطأ من رأيه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في قوله: "قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف" قال: قاله كبيرهم الذي تخلف، قال: والجب بئر بالشام "يلتقطه بعض السيارة" قال: التقطه ناس من الأعراب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وألقوه في غيابة الجب" يعني الركية. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال الجب البئر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ قال: هي بئر ببيت المقدس، يقول في بعض نواحيها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: الجب بحذاء طبرية بينه وبينها أميال.
لما أجمع رأيهم على أن يلقوه في غيابات الجب جاءوا إلى أبيهم وخاطبوه بلفظ الأبوة استعطافاً له وتحريكاً للحنو الذي جبلت عليه طبائع الآباء للأبناء، وتوسلاً بذلك إلى تمام ما يريدونه من الكيد الذي دبروه، واستفهموه استفهام المنكر لأمر ينبغي أن يكون الواقع على خلافه، فـ 11- " قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف " أي أي شيء لك لا تجعلنا أمناء عليه، وكأنهم قد كانوا سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبى، وقرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري "لا تأمنا" بالادغام بغير إشمام. وقرأ طلحة بن مصرف لا تأمننا بنونين ظاهرتين على الأصل: وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين والأعمش لا تيمنا وهو لغة تميم كما تقدم، وقرأ سائر القراء بالإدغام والإشمام ليدل على حال الحرف قبل إدغامه "وإنا له لناصحون" في حفظه وحيطته حتى نرده إليك.
12- "أرسله معنا غداً" أي إلى الصحراء التي أرادوا الخروج إليها، وغدا ظرف، والأصل عند سيبويه غدوة. قال النضر بن شميل: ما بين الفجر وطلوع الشمس، يقال له غدوة، وكذا يقال له بكرة "يرتع ويلعب" هذا جواب الأمر. قرأ أهل البصرة وأهل مكة وأهل الشام بالنون وإسكان العين كما رواه البعض عنهم. وقرأوا أيضاً بالاختلاس، وقرأ الباقون بالنون وكسر العين، والقراءة الأولى مأخوذة من قول العرب رتع الإنسان أو البعير: إذا أكل كيف شاء، أو المعنى: نتسع في الخصب، وكل مخصب راتع: قال الشاعر فارعى فزارة لا هنـــاك المرتع ومنه قول الشاعر: ترتفع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبـــــال وإدبــــار والقراءة الثانية مأخوذة من رعي الغنم. وقرأ مجاهد وقتادة " يرتع ويلعب " بالتحتية فيهما، ورفع يلعب على الاستئناف، والضمير ليوسف. وقال القتيبي: معنى نرتع نتحارس ونتحافظ ويرعى بعضنا بعضاً، من قولهم رعاك الله: أي حفظك، ونلعب من اللعب. قيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا ونلعب وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء، وقيل المراد به اللعب المباح من الأنبياء، وهو مجرد الانبساط، وقيل هو اللعب الذي يتعلمون به الحرب ويتقوون به عليه كما في قولهم: "إنا ذهبنا نستبق" لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق، ولذلك لم ينكر يعقوب عليهم لما قالوا ونلعب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لجابر "فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك".
فأجابهم يعقوب بقوله: 13- "إني ليحزنني أن تذهبوا به" أي ذهابكم به، واللام في "ليحزنني" لام الابتداء للتأكيد ولتخصيص المضارع بالحال، أخبرهم أنه يحزن لغيبة يوسف عنه لفرط محبته له وخوفه عليه "وأخاف أن يأكله الذئب" أي ومع ذلك أخاف أن يأكله الذئب. قال يعقوب هذا تخوفاً عليه منهم، فكنى عن ذلك بالذئب. وقيل إنه خاف أن يأكله الذئب حقيقة، لأن ذلك المكان كان كثير الذئاب، ولو خاف منهم عليه أن يقتلوه لأرسل معهم من يحفظه. قال ثعلب: والذئب مأخوذ من تذأبت الريح: إذا هاجت من كل وجه. قال: والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه. وقد قرأ ابن كثير ونافع في رواية عنه بالهمز عن الأصل، وكذلك أبو عمرو في رواية عنه وابن عامر وعاصم وحمزة. وقرأ الباقون بالتخفيف "وأنتم عنه غافلون" لاشتغالكم بالرتع واللعب، أو لكونهم غير مهتمين بحفظه.
14- "قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة" اللام هي الموطئة للقسم. والمعنى: والله لئن أكله الذئب والحال إن نحن عصبة: أي جماعة كثيرة عشرة "إنا إذاً لخاسرون" أي إنما في ذلك الوقت، وهو أكل الذئب له لخاسرون هالكون ضعفاً وعجزاً، أو مستحقون للهلاك لعدم الاعتداد بنا، وانتفاء القدرة على أيسر شيء وأقله، أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسار والدمار، وقيل لخاسرون لجاهلون حقه، وهذه الجملة جواب القسم المقدر في الجملة التي قبلها.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 236
2355- "قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك" الرؤيا مصدر رأى في المنام رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى، وألفه للتأنيث ولذلك لم يصرف، نهى يعقوب عليه السلام ابنه يوسف عن أن يقص رؤياه على إخوته، لأنه قد علم تأويلها وخاف أن يقصها على إخوته فيفهمون تأويلها ويحصل منهم الحسد له، ولهذا قال: "فيكيدوا لك كيداً" وهذا جواب النهي وهو منصوب بإضمار أن: أي فيفعلوا لك: أي لأجلك كيداً مثبتاً راسخاً لا تقدر على الخلوص منه، أو كيداً خفياً عن فهمك، وهذا المعنى الحاصل بزيادة اللام آكد من أن يقال فيكيدوا كيداً، وقيل إنما جيء باللام لتضمينه معنى الاحتيال المتعدي باللام، فيفيد هذا التضمين معنى الفعلين جميعاً الكيد والاحتيال كما هو القاعدة في التضمين أن يقدر أحدهما أصلاً والآخر حالاً، وجملة "إن الشيطان للإنسان عدو مبين" مستأنفة، كأن يوسف عليه السلام قال: كيف يقع منهم، فنبهه بأن الشيطان يحملهم على ذلك، لأنه عدو للإنسان مظهر للعداوة مجاهر بها.
6- قوله "وكذلك يجتبيك ربك" أي مثل ذلك الاجتباء البديع الذي رأيته في النوم من سجود الكواكب والشمس والقمر يجتبيك ربك، ويحقق فيك تأويل تلك الرؤيا، فيجعلك نبياً ويصطفيك على سائر العباد، ويسخرهم لك كما تسخرت لك تلك الأجرام التي رأيتها في منامك فصارت ساجدة لك، قال النحاس: والاجتباء أصله من جبيت الشيء حصلته، ومنه جبيت الماء في الحوض جمعته، ومعنى الاجتباء: الاصطفاء، وهذا يتضمن الثناء على يوسف وتعديد نعم الله عليه، ومنها "ويعلمك من تأويل الأحاديث" أي تأويل الرؤيا. قال القرطبي: وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا، وقد كان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها، وقيل المراد: ويعلمك من تأويل أحاديث الأمم والكتب، وقيل المراد به إحواج إخوته إليه، وقيل إنجاؤه من كل مكروه، وقيل إنجاؤه من القتل خاصة "ويتم نعمته عليك" فيجمع لك بين النبوة والملك كما تدل عليه هذه الرؤيا التي أراك الله، أو يجمع لك بين خيري الدنيا والآخرة "وعلى آل يعقوب" وهم قرابته من إخوته وأولاده ومن بعدهم، وذلك أن الله سبحانه أعطاهم النبوة كما قاله جماعة من المفسرين، ولا يبعد أن يكون إشارة إلى ما حصل لهم بعد دخولهم مصر من النعم التي من جملتها كون الملك فيهم مع كونهم أنبياء "كما أتمها على أبويك"، أي إتماماً مثل إتمامها على أبويك: وهي نعمة النبوة عليهما، مع كون إبراهيم اتخذه الله خليلاً، ومع كون اسحاق نجاه الله سبحانه من الذبح وصار لهما الذرية الطيبة: وهم يعقوب، ويوسف، وسائر الأسباط، ومعنى "من قبل" من قبل هذا الوقت الذي أنت فيه، أو من قبلك، وإبراهيم وإسحاق عطف بيان لأبويك، وعبر عنهما بالأبوين مع كون أحدهما جداً: وهو إبراهيم، لأن الجد أب " إن ربك عليم " بكل شيء " حكيم " في كل أفعاله، والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها تعليلاً له: أي فعل ذلك لأنه عليم حكيم، وكان هذا كلام من يعقوب مع ولده يوسف تعبيراً لرؤياه على طريق الإجمال، أو علم ذلك من طريق الوحي، أو عرفه بطريق الفراسة وما تقتضيه المخايل اليوسفية. وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "تلك آيات الكتاب المبين" قال: بين الله حلاله وحرامه. وأخرج ابن جرير عن معاذ قال: بين الله [الحروف] التي سقطت عن ألسن الأعاجم، وهي ستة أحرف. وأخرج الحاكم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قرآناً عربياً ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهاماً". وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزل القرآن بلسان قريش، وهو كلامهم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله لو قصصت علينا، فنزلت "نحن نقص عليك أحسن القصص". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مثله، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "نحن نقص عليك أحسن القصص" قال: من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في الأمم، "وإن كنت من قبله" أي من قبل هذا القرآن "لمن الغافلين". وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك "نحن نقص عليك أحسن القصص" قال: القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس. في قوله:"إني رأيت أحد عشر كوكباً" قال: رؤيا الأنبياء وحي. وأخرج سعيد بن منصور والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي وابن حبان في الضعفاء وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال: "جاء بستاني اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشيء، فنزل عليه جبريل فأخبره بأسمائها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البستاني اليهودي فقال: هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟ قال نعم، قال: خرثان، والطارق، والذيال، وذوالكتفان، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرغ، والضياء والنور: رآها في أفق السماء ساجدة له، فلما قص يوسف على يعقوب قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله من بعد، فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها" هكذا ساقه السيوطي في الدر المنثور، وأما ابن كثير فجعل قوله: فلما قص إلخ رواية منفردة وقال: تفرد بها الحكم بن ظهيرة الفزاري: وقد ضعفوه وتركه الأكثرون. وقال الجوزجاني: ساقط. وقال ابن الجوزي: هو موضوع. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "أحد عشر كوكباً" قال: إخوته، والشمس قال: أمه، والقمر قال: أبوه، وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس "وكذلك يجتبيك ربك" قال: يصطفيك. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة مثله، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "ويعلمك من تأويل الأحاديث" قال: عبارة الرؤيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد "ويعلمك من تأويل الأحاديث" قال: تأويل العلم والحلم، وكان يوسف من أعبر الناس. وأخرج ابن جرير عن عكرمة "كما أتمها على أبويك" قال: فنعمته على إبراهيم: أن نجاه من النار، وعلى إسحاق: أن نجاه من الذبح.
7- أي "لقد كان" في قصتهم علامات دالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه "للسائلين" من الناس عنها، وقرأ أهل مكة آية على التوحيد، وقرأ الباقون على الجمع، واختار قراءة الجمع أبو عبيد. قال النحاس: وآية ها هنا قراءة حسنة، وقيل المعنى: لقد كان في يوسف وإخوته آيات دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للسائلين له من اليهود، فإنه روى أنه قال له جماعة من اليهود وهو بمكة: أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمي، ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ولا من يعرف خبر الأنبياء، وإنما وجهوا إليه من أهل المدينة من يسأله عن هذا، فأنزل الله سورة يوسف جملة واحدة كما في التوراة. وقيل معنى "آيات للسائلين" عجب لهم، وقيل بصيرة، وقيل عبرة. قال القرطبي: وأسماؤهم يعني إخوة يوسف: روبيل، وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وريالون، ويشجر، وأمهم ليا بنت ليان وهي بنت خال يعقوب، وولد له من سريتين أربعة، وهم: دان، ونفتالي، وجاد، وآشر، ثم ماتت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له يوسف، وبنيامين، وقال السهيلي: إن أم يوسف اسمها وقفا، وراحيل ماتت من نفاس بنيامين وهو أكبر من يوسف.
8- "إذ قالوا ليوسف وأخوه" أي وقت قالوا، والظرف متعلق بكان "أحب إلى أبينا منا" والمراد بقوله "وأخوه" هو بنيامين، وخصوه بكونه أخاه مع أنهم جميعاً إخوته، لأنه أخوه لأبويه كما تقدم، ووحد الخبر فقال: أحب مع تعدد المبتدأ، لأن أفعل التفضيل يستوي فيه الواحد وما فوقه إذا لم يعرف، واللام في ليوسف هي الموطئة للقسم، وإنما قالوا هذه لأنه بلغهم خبر الرؤيا فأجمع رأيهم على كيده، وجملة "ونحن عصبة " في محل نصب على الحال، والعصبة: الجماعة، قيل وهي ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل إلى الخمسة عشر، وقيل من العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها بل هي كالنفر والرهط، وقد كانوا عشرة "إن أبانا لفي ضلال مبين" أي لفي ذهاب عن وجه التدبير بالترجيح لهما علينا وإيثارهما دوننا مع استوائنا في الانتساب إليه ولا يصح أن يكون مرادهم أنه في دينه في ضلال مبين.
9- "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً" أي قالوا: افعلوا به أحد الأمرين: إما القتل، أو الطرح في أرض، أو المشير بالقتل بعضه والمشير بالطرح البعض الآخر، أو كان المتكلم بذلك واحد منهم فوافقه الباقون، فكانوا كالقائل في نسبة هذا المقول إليهم، وانتصاب أرضاً على الظرفية، والتنكير للإبهام: أي أرضاً مجهولة، وجواب الأمر "يخل لكم وجه أبيكم" أي يصف ويخلص فيقبل عليكم ويحبكم حباً كاملاً "وتكونوا" معطوف على يخل، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أن "من بعده" أي من بعد يوسف، والمراد بعد الفراغ من قتله أو طرحه، وقيل من بعد الذنب الذي اقترفوه في يوسف "قوماً صالحين" في أمور دينكم وطاعة أبيكم، أو صالحين في أمور دنياكم لذهاب ما كان يشغلكم عن ذلك، وهو الحسد ليوسف وتكدر خواطركم بتأثيره عليكم هو وأخوه، أو المراد بالصالحين: التائبون من الذنب.
10- "قال قائل منهم" أي من الإخوة، قيل هو يهوذا، وقيل روبيل، وقيل شمعون " لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب " قيل ووجه الإظهار في لا تقتلوا يوسف استجلاب شفقتهم عليه. قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام في غيابة الجب بالإفراد. وقرأ أهل المدينة في غيابات بالجمع، واختار أبو عبيد الإفراد وأنكر الجمع، لأن الموضع الذي ألقوه فيه واحد، قال النحاس: وهذا تضييق في اللغة، وغيابات على الجمع تجوز، والغيابة كل شيء غيب عنك شيئاً، وقيل للقبر غيابة، والمراد بها هنا غور البئر الذي لا يقع البصر عليه، أو طاقة فيه، قال الشاعر: ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث إلى ذا كما قد غيبتني غيابيــا والجب: البئر التي لم تطو، ويقال لها قبل الطي ركية، فإذا طويت قيل لها بئر، سميت جباً لأنها قطعت في الأرض قطعاً، وجمع الجب جبب وجباب وأجباب، وجمع بين الغيابة والجب مبالغة في أن يلقوه في مكان من الجب شديد الظلمة حتى لا يدركه نظر الناظرين، قيل وهذه البئر ببيت المقدس، وقيل بالأردن، وجواب الأمر "يلتقطه بعض السيارة" قرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة تلتقطه بالمثناة الفوقية، ووجهه أن بعض السيارة سيارة. وحكي عن سيبويه سقطت بعض أصابعه، ومنه قول الشاعر: أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ الســــــرار من الهلال وقرأ الباقون يلتقطه بالتحتية، والسيارة: الجمع الذي يسيرون في الطريق، والالتقاط: هو أخذ شيء مشرف على الضياع، وكأنهم أرادوا أن بعض السيارة إذا التقطه حمله إلى مكان بعيد بحيث يخفى عن أبيه ومن يعرفه، ولا يحتاجون إلى الحركة بأنفسهم إلى المكان البعيد، فربما أن والدهم لا يأذن لهم بذلك، ومعنى "إن كنتم فاعلين" إن كنتم عاملين بما أشرت به عليكم في أمره، كأنه لم يجزم بالأمر، وبل وكله إلى ما يجمعون عليه كما يفعله المشير مع من استشاره. وفي هذا دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء، فإن الأنبياء لا يجوز عليهم التواطؤ على القتل لمسلم ظلماً وبغياً، وقيل كانوا أنبياء، وكان ذلك منهم زلة قدم وأوقعهم فيها التهاب نار الحسد في صدورهم واضطرام جمرات الغيظ في قلوبهم. ورد بأن الأنبياء معصومون عن مثل هذه المعصية الكثيرة المتبالغة في الكبر، مع ما في ذلك من قطع الرحم وعقوق الوالد وافتراء الكذب، وقيل إنهم لم يكونوا في ذلك الوقت أنبياء، بل صاروا أنبياء من بعد. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "آيات للسائلين" قال عبرة، وأخرج أيضاً عن قتادة في الآية يقول: من سأل عن ذلك فهو هكذا ما قص الله عليكم وأنبأكم به، وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك نحوه، وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال: إنما قص الله على محمد صلى الله عليه وسلم خبر يوسف وبغي إخوته عليه وحسدهم إياه حين ذكر رؤياه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي قومه عليه وحسدهم إياه حين أكرمه الله بنبوته ليتأسى به. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "إذ قالوا ليوسف وأخوه" يعني بنيامين هو أخوه لأبيه وأمه، وفي قوله "ونحن عصبة" قال: العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد قال: العصبة الجماعة "إن أبانا لفي ضلال مبين" قال: لفي خطأ من رأيه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في قوله: "قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف" قال: قاله كبيرهم الذي تخلف، قال: والجب بئر بالشام "يلتقطه بعض السيارة" قال: التقطه ناس من الأعراب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وألقوه في غيابة الجب" يعني الركية. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال الجب البئر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ قال: هي بئر ببيت المقدس، يقول في بعض نواحيها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: الجب بحذاء طبرية بينه وبينها أميال.
لما أجمع رأيهم على أن يلقوه في غيابات الجب جاءوا إلى أبيهم وخاطبوه بلفظ الأبوة استعطافاً له وتحريكاً للحنو الذي جبلت عليه طبائع الآباء للأبناء، وتوسلاً بذلك إلى تمام ما يريدونه من الكيد الذي دبروه، واستفهموه استفهام المنكر لأمر ينبغي أن يكون الواقع على خلافه، فـ 11- " قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف " أي أي شيء لك لا تجعلنا أمناء عليه، وكأنهم قد كانوا سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبى، وقرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري "لا تأمنا" بالادغام بغير إشمام. وقرأ طلحة بن مصرف لا تأمننا بنونين ظاهرتين على الأصل: وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين والأعمش لا تيمنا وهو لغة تميم كما تقدم، وقرأ سائر القراء بالإدغام والإشمام ليدل على حال الحرف قبل إدغامه "وإنا له لناصحون" في حفظه وحيطته حتى نرده إليك.
12- "أرسله معنا غداً" أي إلى الصحراء التي أرادوا الخروج إليها، وغدا ظرف، والأصل عند سيبويه غدوة. قال النضر بن شميل: ما بين الفجر وطلوع الشمس، يقال له غدوة، وكذا يقال له بكرة "يرتع ويلعب" هذا جواب الأمر. قرأ أهل البصرة وأهل مكة وأهل الشام بالنون وإسكان العين كما رواه البعض عنهم. وقرأوا أيضاً بالاختلاس، وقرأ الباقون بالنون وكسر العين، والقراءة الأولى مأخوذة من قول العرب رتع الإنسان أو البعير: إذا أكل كيف شاء، أو المعنى: نتسع في الخصب، وكل مخصب راتع: قال الشاعر فارعى فزارة لا هنـــاك المرتع ومنه قول الشاعر: ترتفع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبـــــال وإدبــــار والقراءة الثانية مأخوذة من رعي الغنم. وقرأ مجاهد وقتادة " يرتع ويلعب " بالتحتية فيهما، ورفع يلعب على الاستئناف، والضمير ليوسف. وقال القتيبي: معنى نرتع نتحارس ونتحافظ ويرعى بعضنا بعضاً، من قولهم رعاك الله: أي حفظك، ونلعب من اللعب. قيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا ونلعب وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء، وقيل المراد به اللعب المباح من الأنبياء، وهو مجرد الانبساط، وقيل هو اللعب الذي يتعلمون به الحرب ويتقوون به عليه كما في قولهم: "إنا ذهبنا نستبق" لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق، ولذلك لم ينكر يعقوب عليهم لما قالوا ونلعب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لجابر "فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك".
فأجابهم يعقوب بقوله: 13- "إني ليحزنني أن تذهبوا به" أي ذهابكم به، واللام في "ليحزنني" لام الابتداء للتأكيد ولتخصيص المضارع بالحال، أخبرهم أنه يحزن لغيبة يوسف عنه لفرط محبته له وخوفه عليه "وأخاف أن يأكله الذئب" أي ومع ذلك أخاف أن يأكله الذئب. قال يعقوب هذا تخوفاً عليه منهم، فكنى عن ذلك بالذئب. وقيل إنه خاف أن يأكله الذئب حقيقة، لأن ذلك المكان كان كثير الذئاب، ولو خاف منهم عليه أن يقتلوه لأرسل معهم من يحفظه. قال ثعلب: والذئب مأخوذ من تذأبت الريح: إذا هاجت من كل وجه. قال: والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه. وقد قرأ ابن كثير ونافع في رواية عنه بالهمز عن الأصل، وكذلك أبو عمرو في رواية عنه وابن عامر وعاصم وحمزة. وقرأ الباقون بالتخفيف "وأنتم عنه غافلون" لاشتغالكم بالرتع واللعب، أو لكونهم غير مهتمين بحفظه.
14- "قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة" اللام هي الموطئة للقسم. والمعنى: والله لئن أكله الذئب والحال إن نحن عصبة: أي جماعة كثيرة عشرة "إنا إذاً لخاسرون" أي إنما في ذلك الوقت، وهو أكل الذئب له لخاسرون هالكون ضعفاً وعجزاً، أو مستحقون للهلاك لعدم الاعتداد بنا، وانتفاء القدرة على أيسر شيء وأقله، أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسار والدمار، وقيل لخاسرون لجاهلون حقه، وهذه الجملة جواب القسم المقدر في الجملة التي قبلها.
الصفحة رقم 236 من المصحف تحميل و استماع mp3