تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 237 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 237

236

15- "فلما ذهبوا به" من عند يعقوب "وأجمعوا" أمرهم "أن يجعلوه في غيابة الجب" قد تقدم تفسير الغيابة والجب قريباً، وجواب لما محذوف لظهوره ودلالة المقام عليه، والتقدير: فعلوا به ما فعلوا، وقيل جوابه "قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق" وقيل الجواب المقدر جعلوه فيها، وقيل الجواب أوحينا والواو مقحمة، ومثله قوله تعالى: " فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه " أي ناديناه "وأوحينا إليه" أي إلى يوسف تيسيراً له وتأنيساً لوحشته مع كونه صغيراً اجتمع على إنزال الضرر به عشرة رجال من إخوته، بقلوب غليظة فقد نزعت عنها الرحمة وسلبت منها الرأفة، فإن الطبع البشري، دع عنك الدين، يتجاوز عن ذنب الصغير ويغتفره لضعفه عن الدفع وعجزه عن أيسر شيء يراد منه، فكيف بصغير لا ذنب له، بل كيف بصغير هو أخ وله ولهم أب مثل يعقوب، فلقد أبعد من قال إنهم كاوا أنبياء في ذلك الوقت، فما هكذا عمل الأنبياء ولا فعل الصالحين. وفي هذا دليل على أنه يجوز أن يوحي الله إلى من كان صغيراً ويعطيه النبوة حينئذ كما وقع في عيسى ويحيى بن زكريا، وقد قيل إنه كان في ذلك الوقت قد بلغ مبلغ الرجال، وهو بعيد جداً، فإن من كان قد بلغ مبالغ الرجال لا يخاف عليه أن يأكله الذئب " لتنبئنهم بأمرهم هذا " أي لتخبرن إخوتك بأمرهم هذا الذي فعلوه معك بعد خلوصك مما أرادوه بك من الكيد وأنزلوه عليك من الضرر، وجملة "وهم لا يشعرون" في محل نصب على الحال: أي لا يشعرون بأنك أخوهم يوسف لاعتقادهم هلاكك بإلقائهم لك في غيابة الجب، ولبعد عهدهم بك، ولكونك قد صرت عند ذلك في حال غير ما كنت عليه وخلاف ما عهدوه منك، وسيأتي ما قاله لهم عند دخولهم عليه بعد أن صار إليه ملك مصر.
16- قوله: " وجاؤوا أباهم عشاء يبكون " عشاء منتصب على الظرفية، وهو آخر النهار، وقيل في الليل، ويبكون في محل نصب على الحال: أي باكين أو متباكين لأنهم لم يبكوا حقيقة، بل فعلوا فعل من يبكي ترويجاً لكذبهم وتنفيقاً لمكرهم وغدرهم.
فلما وصلوا إلى أبيهم 16- "قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق" أي نتسابق في العدو أو في الرمي، وقيل ننتضل، ويؤيده قراءة ابن مسعود ننتضل قال الزجاج: وهو نوع من المسابقة. وقال الزهري: النضال في السهام، والرهان في الخيل، والمسابقة تجمعهما. قال القشيري: نستبق، أي في الرمي أو على الفرس أو على الأقدام. والغرض من المسابقة التدرب بذلك في القتال "وتركنا يوسف عند متاعنا" أي عند ثيابنا ليحرسها "فأكله الذئب" الفاء للتعقيب: أي أكله عقب ذلك. وقد اعتذروا عليه بما خافه سابقاً عليه، ورب كلمة تقول لصاحبها دعني "وما أنت بمؤمن لنا" بمصدق لنا في هذا العذر الذي أبدينا، والكلمة التي قلناها "ولو كنا" عندك أو في الواقع "صادقين" لما قد علق بقلبك من التهمة لنا في ذلك مع شدة محبتك له. قال الزجاج: والمعنى: ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا في هذه القضية لشدة محبتك ليوسف.
وكذا ذكره ابن جرير وغيره 18- " وجاؤوا على قميصه بدم كذب " على قميصه في محل نصب على الظرفية: أي جاءوا فوق قميصه بدم، ووصف الدم بأنه كذب مبالغة كما هو معروف في وصف اسم العين باسم المعنى، وقيل المعنى: بدم ذي كذب أو بدم مكذوب فيه. وقرأ الحسن وعائشة بدم كدب بالدال المهملة: أي بدم طري، يقال للدم الطري كدب. وقال الشعبي: إنه المتغير، والكذب أيضاً البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث، فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اللونين. وقد استدل يعقوب على كذبهم بصحة القميص، وقال لهم: متى كان هذا الذئب حكيماً يأكل يوسف ولا يخرق القميص؟ ثم ذكر الله سبحانه ما أجاب به يعقوب عليهم فقال "قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً" أي زينت وسهلت. قال النيسابوري: التسويل تقرير في معنى النفس مع الطمع في تمامه. وهو تفعيل من السول وهو الأمنية. قال الأزهري: وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة " فصبر جميل " قال الزجاج: أي فشأني أو الذي أعتقده صبر جميل. وقال قطرب: أي فصبري صبر جميل، وقيل فصبر جميل أولى بي. قيل والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه. قال الزجاج: قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف فصبراً جميلاً قال: وكذا في مصحف أنس. قال المبرد: فصبر جميل بالرفع أولى من النصب. لأن المعنى: قال رب عندي صبر جميل، وإنما النصب على المصدر أي فلأصبرن صبراً جميلاً. قال الشاعر: شكا إلي جملي طول السرى صبراً جميلاً فكلانا مبتلى "والله المستعان" أي المطلوب منه العون "على ما تصفون" أي على إظهار حال ما تصفون، أو على احتمال ما تصفون، وهذا منه عليه السلام إنشاء لا إخبار. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " أرسله معنا غدا يرتع ويلعب " قال: نسعى وننشط ونلهو. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والسلفي في الطيوريات عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقنوا الناس فيكذبوا، فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس، فلما لقنهم أبوهم كذبوا، فقالوا أكله الذئب". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وأوحينا إليه" الآية قال: أوحي إلى يوسف وهو في الجب لتنبئن إخوتك بما صنعوا وهم لا يشعرون بذلك الوحي. وأخرج هؤلاء عن قتادة قال: أوحى الله إليه وحياً وهو في الجب أن سينبئهم بما صنعوا وهم: أي إخوته لا يشعرون بذلك الوحي، فهون ذلك الوحي عليه ما صنع به. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وهم لا يشعرون" قال: لم يعلموا بوحي الله إليه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون جيء بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فطن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كذب، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم، فقال ابن عباس: فلا نرى هذه الآية نزلت إلا في ذلك لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بكر بن عياش قال: كان يوسف في الجب ثلاثة أيام. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك "وما أنت بمؤمن لنا" قال: بمصدق لنا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس " وجاؤوا على قميصه بدم كذب " قال: كان دم سخلة. وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله، وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس " وجاؤوا على قميصه بدم كذب " قال: لما أتي يعقوب بقميص يوسف فلم ير فيه خرقاً قال: كذبتم لو كان كما تقولون أكله الذئب لخرق القميص. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "بل سولت لكم أنفسكم أمراً" قال: أمرتكم أنفسكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله "بل سولت لكم أنفسكم أمراً" يقول: بل زينت لكم أنفسكم أمراً " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " أي على ما تكذبون، وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبان بن أبي حبلة قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: " فصبر جميل " قال: لا شكوى فيه، من بث لم يصبر" وهو من طريق هشيم عن عبد الرحمن عن حبان بن أبي حبلة، وهو مرسل. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: " فصبر جميل " قال: ليس في جزع.
هذا شروع في حكاية خلاص يوسف وما بعد ذلك من خبره، وقد تقدم تفسير السيارة، والمراد بها هنا رفقة مارة تسير من الشام إلى مصر، فأخطأوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريباً من الجب، وكان في قفرة بعيدة عن العمران، والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم، وكان اسمه فيما ذكر المفسرون مالك بن ذعر من العرب العاربة "فأدلى دلوه" أي أرسله، يقال أدلى دلوه: أذا أرسلها ليملأها، ودلاها: إذا أخرجها قاله الأصمعي وغيره. فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج الدلو من البئر أبصره الوارد فـ " قال يا بشرى " هكذا قرأ أهل المدينة وأهل مكة وأهل البصرة، وأهل الشام بإضافة البشرى إلى الضمير، وقرأ أهل الكوفة "يا بشرى" غير مضاف، ومعنى مناداته للبشرى: أنه أراد حضورها في ذلك الوقت، فكأنه قال: هذا وقت مجيئك وأوان حضورك، وقيل إنه نادى رجلاً اسمه بشرى. والأول أولى. قال النحاس: والمعنى من نداء البشرى التبشير لمن حضر، وهو أوكد من قولك بشرته كما تقول يا عجباً: أي يا عجب هذا من أيامك فاحضر. قال: وهذا مذهب سيبويه "وأسروه" أي أسر الوارد وأصحابه الذين كانوا معه يوسف فلم يظهروه لهم، وقيل إنهم لم يخفوه، بل أخفوا وجدانه لهم في الجب، وزعموا أنه دفعه إليهم أهل الماء ليبيعوه لهم بمصر، وقيل ضمير الفاعل في أسروه لإخوة يوسف، وضمير المفعول ليوسف، وذلك أنه كان يأتيه أخوه يهوذا كل يوم بطعام، فأتاه يوم خروجه من البئر فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا: هذا غلام ابق منا فاشتروه منهم، وسكت يوسف مخافة أن يأخذوه فيقتلوه. والأول أولى. وانتصاب بضاعة على الحال: أي أخفوه حال كونه بضاعة: أي متاعاً للتجارة، والبضاعة: ما يبضع من المال: أي يقطع منه لأنها قطعة من المال الذي يتجر به، قيل قاله لهم الوارد وأصحابه أنه بضاعة استبضعناها من الشام مخافة أن يشاركوهم فيه، وفي قوله: " والله عليم بما يعملون " وعيد شديد لمن كان فعله سبباً لما وقع فيه يوسف من المحن وما صار فيه من الابتذال بجري البيع والشراء فيه، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في وصفه بذلك.
قوله: 20- "وشروه بثمن بخس دراهم معدودة" يقال شراه بمعنى اشتراه، وشراه بمعنى باعه. قال الشاعر: وشريت بـــرداه ليتني من بعد برد كنت هامه أي بعته. وقال آخر: فلما شراها فاضت العين عبرة أي اشتراها، والمراد هنا: وباعوه: أي باعه الوارد وأصحابه "بثمن بخس" أي ناقص أو زائف، وقيل يعود إلى إخوة يوسف على القول السابق، وقيل عائد إلى الرفقة، والمعنى: اشتروه، وقيل بخس: ظلم، وقيل حرام. قيل باعوه بعشرين درهماً، وقيل بأربعين، ودراهم بدل من ثمن: أي دنانير، ومعدودة وصف لدراهم، وفيه إشارة إلى أنها قليلة تعد ولا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون ما دون أوقية وهي أربعون درهماً "وكانوا فيه من الزاهدين" يقال زهدت وزهدت بفتح الهاء وكسرها، قال سيبويه والكسائي: قال أهل اللغة: يقال زهد فيه: أي رغب عنه، وزهد عنه: أي رغب فيه، والمعنى: أنهم كانوا فيه من الراغبين عنه الذين لا يبالون به فلذلك باعوه بذلك الثمن البخس، وذلك لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء: متهاون به، والضمير من كانوا يرجع إلى ما قبله على حسب اختلاف الأقوال فيه.
21- "وقال الذي اشتراه من مصر" هو العزيز الذي كان على خزائن مصر، وكان وزيراً لملك مصر، وهو الريان بن الوليد من العمالقة، وقيل إن الملك هو فرعون موسى، قيل اشتراه بعشرين ديناراً وقيل تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكاً وعنبراً وحريراً وورقاً وذهباً ولآلىء وجواهر، فلما اشتراه العزيز قال لامرأته واللام متعلقة باشتراه "أكرمي مثواه" أي منزله الذي يثوى فيه بالطعام الطيب واللباس الحسن، يقال ثوى بالمكان: أي أقام به "عسى أن ينفعنا" أي يكفينا بعض المهمات مما نحتاج إلى مثله فيه "أو نتخذه ولداً" أي نتبناه فنجعله ولداً لنا، قيل كان العزيز حصوراً لا يولد له، وقيل كان لا يأتي النساء، وقد كان تفرس فيه أنه ينوب عنه فيما إليه من أمر المملكة. قوله: "وكذلك مكنا ليوسف" الكاف في محل نصب على أنه نعت مصدر محذوف، والإشارة إلى ما تقدم من إنجائه من إخوته وإخراجه من الجب، وعطف قلب العزيز عليه: أي مثل ذلك التمكين البديع مكنا ليوسف حتى صار متمكناً من الأمر والنهي، يقال مكنه فيه: أي أثبته فيه، ومكن له فيه: أي جعل له فيه مكاناً، ولتقارب المعنيين يستعمل كل واحد منهما مكان الآخر. قوله: "ولنعلمه من تأويل الأحاديث" هو علة لمعلل محذوف كأنه قيل فعلنا ذلك التمكين لنعلمه من تأويل الأحاديث أو كان ذلك الإنجاء لهذه العلة، أو معطوف على مقدر، وهو أن يقال: مكنا ليوسف ليترتب على ذلك ما يترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز، ولنعلمه من تأويل الأحاديث، ومعنى تأويل الأحاديث: تأويل الرؤيا فإنها كانت من الأسباب التي بلغ بها ما بلغ من التمكن، وقيل معنى تأويل الأحاديث فهم أسرار الكتب الإلهية وسنن من قبله من الأنبياء، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع "والله غالب على أمره" أي على أمر نفسه لا يمتنع منه شيء، ولا يغالبه عليه غيره من مخلوقاته. "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون"، ومن جملة ما يدخل تحت هذا العام كما يفيد ذلك إضافة اسم الجنس إلى الضمير ما يتعلق بيوسف عليه السلام من الأمور التي أرادها الله سبحانه في شأنه، وقيل معنى "والله غالب على أمره" أنه كان من أمر يعقوب أن لا يقص رؤيا يوسف على إخوته، فغلب أمر الله سبحانه حتى قصت عليهم حتى وقع منهم ما وقع. وهذا بعيد جداً "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أي لا يطلعون على غيب الله وما في طيه من الأسرار العظيمة والحكم النافعة، وقيل المراد بالأكثر: الجميع لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وقيل إن الله سبحانه قد يطلع بعض عبيده على بعض غيبه كما في قوله: " فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول "، وقيل المعنى: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الله غالب على أمره وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر.
وقوله: 22- "ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً" الأشد. قال سيبويه جمع واحدة شدة. وقال الكسائي: واحده شد. وقال أبو عبيد: إنه لا واحد له من لفظه عند العرب، ويرده قول الشاعر: عهدي به شد النهار كأنما خضب البنان ورأسه بالعظلم والأشد: هو وقت استكمال القوة ثم يون بعده النقصان. قيل هو ثلاث وثلاثون سنة، وقيل بلوغ الحلم، وقيل ثماني عشرة سنة، وقيل غير ذلك مما قد قدمنا بيانه في النساء والأنعام. والحكم: هو ما كان يقع منه من الأحكام في سلطان ملك مصر، والعلم: هو العلم بالحكم الذي كان يحكمه، وقيل العقل والفهم والنبوة صبياً قال: المراد بهذا الحكم والعلم الذي آتاه الله هو الزيادة فيهما "وكذلك نجزي المحسنين" أي ومثل ذلك الجزاء العجيب نجزي المحسنين، فكل من أحسن في عمله أحسن الله جزاءه، وجعل عاقبة الخير من جملة ما يجزيه به، وهذا عام يدخل تحته جزاء يوسف على صبره الحسن دخولاً أولياً، قال الطبري: هذا وإن كان مخرجه ظاهراً على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى كما فعل هذا يوسف ثم أعطيته ما أعطيته كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة وأمكن لك في الأرض. والأولى ما ذكرناه من حمل العموم على ظاهره فيدخل تحته ما ذكره ابن جرير الطبري. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "وجاءت سيارة" قال: جاءت سيارة فنزلت على الجب "فأرسلوا واردهم" فاستسقى الماء فاستخرج يوسف، فاستبشروا بأنهم أصابوا غلاماً لا يعلمون علمه ولا منزلته من ربه، فزهدوا فيه فباعوه، وكان بيعه حراماً، وباعوه بدراهم معدودة. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة "فأرسلوا واردهم" يقول: فأرسلوا رسولهم "فأدلى دلوه" فنشب الغلام في الدلو، فلما خرج " قال يا بشرى هذا غلام " تباشروا به حين استخرجوه، وهي بئر ببيت المقدس معلوم مكانها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: " يا بشرى "، قال: كان اسم صاحبه بشرى كما تقول يا زيد، وهذا على ما فيه من البعد لا يتم إلا على قراءة من قرأ يا بشرى بدون إضافة. وأخرج أبو الشيخ عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قول: " وأسروه بضاعة " يعني إخوة يوسف أسروا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته واختار البيع فباعه إخوته بثمن بخس. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال: أسره التجار بعضهم من بعض. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه "وأسروه بضاعة" قال: صاحب الدلو ومن معه، قالوا لأصحابهم: إنا استبضعناه خيفة أن يشركوهم فيه إن علموا به، واتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوا بمصر فقال: من يبتاعني ويبشر، فابتاعه الملك والملك مسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "وشروه" قال: إخوة يوسف باعوه حين أخرجه المدلي دلوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: بيع بينهم بثمن بخس، قال: حرام لم يحل لهم بيعه، ولا أكل ثمنه. وأخرج ابن جرير عن قتادة "وشروه بثمن بخس" قال: هم السيارة وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب أنه قضى في اللقيط أنه حر وقرأ "وشروه بثمن بخس" وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: البخس: القليل وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الشعبي مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنما اشتري يوسف بعشرين درهماً، وكان أهله حين أرسل إليهم بمصر ثلثمائة وتسعين إنساناً: رجالهم أنبيا، ونساؤهم صديقات، والله ما خرجوا مع موسى حتى بلغوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً وقد روي في مقدار ثمن يوسف غير هذا المقدار مما لا حاجة إلى التطويل بذكره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وقال الذي اشتراه من مصر" قال: كان اسمه قطفير. وأخرج أبو الشيخ عن شعيب الجبائي: أن اسم امرأة العزيز زليخا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: الذي اشتراه أطيفير بن روحب، وكان اسم امرأته راعيل بنت رعاييل، وأخرج ابن جرير وابن إسحاق وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: اسم الذي باعه من العزيز مالك بن ذعر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: "أكرمي مثواه" قال: منزلته، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً، والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ولنعلمه من تأويل الأحاديث" قال: عبارة الرؤيا. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ولما بلغ أشده" قال: ثلاثاً وثلاثين سنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: أربعين سنة. وأخرج عن عكرمة قال: خمساً وعشرين سنة. وأخرج عن السدي قال: ثلاثين سنة، وأخرج عن سعيد بن جبير قال ثمانية عشر سنة. وأخرج عن ربيعة قال: الحلم: وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: عشرين سنة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد "آتيناه حكماً وعلماً" قال: هو الفقه والعلم والعقل قبل النبوة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "وكذلك نجزي المحسنين" قال: المهتدين.
المراودة الإرادة والطلب برفق ولين- وقيل هي مأخوذة من الرود: أي الرفق والتأني، يقال أرودني: أمهلني، وقيل المراودة مأخوذة من راد يرود: إذا جاء وذهب، كأن المعنى: أنها فعلت في مراودتها له فعل المخادع، ومنه الرائد لمن يطلب الماء والكلأ، وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال: راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه: إذا حاول كل منهما الوطء والجماع، وهي مفاعلة، وأصلها أن تكون من الجانبين، فجعل السبب هنا في أحد الجانبين قائماً مقام المسبب، فكأن يوسف عليه السلام لما كان ما أعطيه من كمال الخلق والزيادة في الحسن سبباً لمراودة امرأة العزيز له مراود. وإنما قال "التي هو في بيتها" ولم يقل امرأة العزيز، وزليخا قصداً إلى زيادة التقرير مع استهجان التصريح باسم المرأة والمحافظة على الستر عليها "وغلقت الأبواب" قيل في هذه الصيغة ما يدل على التكثير، فيقال غلق الأبواب، ولا يقال غلق الباب، بل يقال أغلق الباب، وقد يقال أغلق الأبواب، ومنه قول الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء: ما زلت أغلق أبواباً وافتحها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار قيل وكانت الأبواب سبعة. قوله "هيت لك". قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي وحمزة والأعمش بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء، وبها قرأ ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة: قال ابن مسعود: لا تنطعوا في القراءة، فإنما هو مثل قول أحدكم هلم وتعال. وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي بفتح الهاء وكسر التاء. وقرأ عبد الرحمن السلمي وابن كثير هيت بفتح الهاء وضم التاء، ومنه قول طرفة: ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت وقرأ أبو جعفر ونافع بكسر الهاء وسكون الياء وفتح التاء. وقرأ علي وابن عباس في رواية عنه وهشام بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة وضم التاء. وقرأ ابن عامر وأهل الشام بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء. ومعنى هيت على جميع القراءات معنى هلم وتعال، لأنها من أسماء الأفعال إلا فيقراءة من قرأ بكسر الهاء بعدها همزة وتاء مضمومة، فإنها بمعنى: تهيأت لك. وأنكر أبو عمرو هذه القراءة. وقال أبو عبيدة: سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء فقال: باطل جعلها بمعنى تهيأت اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن، هل تعرف أحداً يقول هكذا؟ وأنكرها أيضاً الكسائي. وقال النحاس: هي جيدة عند البصريين، لأنه يقال: هاء الرجل يهاء ويهيء هيئة، رجح الزجاج القراءة الأولى، وأنشد بيت طرفة المذكور هيتا بالفتح، ومنه قول الشاعر في علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أبلغ أمير المؤمنيــــن أخا العـــراق إذا أتيتا إن العـراق وأهــــله سلم إليك فهيت هيتا وتكون اللام في "لك" على القراءات الأولى التي هي فيها بمعنى اسم الفعل للبيان: أي لك. أقول هذا كما في هلم لك. قال النحويون: هيت جاء بالحركات الثلاث: فالفتح للخفة، والكسر لالتقاء الساكنين، والضم تشبيهاً بحيث، وإذا بين باللام نحو هيت لك فهو صوت قائم مقام المصدر كأف له: أي لك أقول هذا وإن لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر الفعل فيكون اسم فعل، إما خبر: أي تهيأت، وإما أمر: أي أقبل. وقال في الصحاح: يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه، ومنه قول الشاعر: يحدو بها كل فتى هيات وقد روي عن ابن عباس والحسن أنها كلمة سريانية معناها أنها تدعوه إلى نفسها. قال أبو عبيدة: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناها تعال. قال أبو عبيدة: فسألت شيخاً عالماً من حوران فذكر أنها لغتهم "قال معاذ الله" أي أعوذ بالله معاذاً مما دعوتني إليه، فهو مصدر منتصب بفعل محذوف مضاف إلى اسم الله سبحانه، وجملة "إنه ربي أحسن مثواي" تعليل للامتناع الكائن منه ببعض الأسباب التي هي أقرب إلى فهم امرأة العزيز، والضمير للشأن: أي إن الشأن ربي، يعني العزيز: أي سيدي الذي رباني وأحسن مثواي حيث أمرك بقوله: "أكرمي مثواه"، فكيف أخونه في أهله وأجيبك إلى ما تريدين من ذلك؟ وقال الزجاج: إن الضمير لله سبحانه: أي إن الله ربي تولاني بلطفه فلا أركب ما حرمه، وجملة "إنه لا يفلح الظالمون" تعليل آخر للامتناع منه عن إجابتها، والفلاح: الظفر. والمعنى: أنه لا يظفر الظالمون بمطالبهم، ومن جملة الظالمين الواقعون في مثل هذه المعصية التي تطلبها امرأة العزيز من يوسف.