تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 252 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 252

251

الهمزة في قوله: 19- "أفمن يعلم" للإنكار على من يتوهم المماثلة بين من يعلم، إنما أنزله الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، وهو القرآن، وبين من هو أعمى لا يعلم ذلك، فإن الحال بينهما متباعد جداً كالتباعد الذي بين الماء والزبد، وبين الخبث والخالص من تلك الأجسام، ثم بين سبحانه أنه إنما يقف على تفاوت المنزلتين، وتباين الرتبتين أهل العقول الصحيحة، فقال: "إنما يتذكر أولو الألباب".
ثم وصفهم بهذه الأوصاف المادحة، فقال: 20- "الذين يوفون بعهد الله" أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم، أو فيما بينهم وبين العباد "ولا ينقضون الميثاق" الذي وثقوه على أنفسهم، وأكدوه بالإيمان ونحوها، وهذا تعميم بعد التخصيص، لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها، ويحتمل أن يكون الأمر بالعكس فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه، ويراد بالميثاق ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذر المذكور في قوله سبحانه: "وإذ أخذ ربك من بني آدم" الآية.
21- "والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل" ظاهره شمول كل ما أمر الله بصلته، ونهى عن قطعه من حقوق الله وحقوق عباده، ويدخل تحت ذلك صلة الأرحام دخولاً أولياً، وقد قصره كثير من المفسرين على صلة الرحم، واللفظ أوسع من ذلك "ويخشون ربهم" خشية تحملهم على فعل ما وجب، واجتناب ما لا يحل "ويخافون سوء الحساب" وهو الاستقصاء فيه والمناقشة للعبد، فمن نوقش الحساب عذب، ومن حق هذه الخيفة أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
22- "والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم" قيل هو كلام مستأنف، وقيل معطوف على ما قبله والتعبير عنه بلفظ المضي للتنبيه على أنه ينبغي تحققه، والمراد بالصبر الصبر على الإتيان بما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، وقيل على الرزايا والمصائب، ومعنى كون ذلك الصبر لابتغاء وجه الله: أن يكون خالصاً له، لا شائبة فيه لغيره "وأقاموا الصلاة" أي فعلوها في أوقاتها على ما شرعه الله سبحانه في أذكارها وأركانها مع الخشوع والإخلاص، والمراد بها الصلوات المفروضة، وقيل أعم من ذلك "وأنفقوا مما رزقناهم" أي أنفقوا بعض ما رزقناهم، والمراد بالسر: صدقة النفل، والعلانية: صدقة الفرض، وقيل السر لمن لم يعرف بالمال، أو لا يتهم بترك الزكاة، والعلانية لمن كان يعرف بالمال أويتهم بترك الزكاة " ويدرؤون بالحسنة السيئة " أي يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه كما في قوله تعالى: "ادفع بالتي هي أحسن"، أو يدفعون بالعمل الصالح العمل السيء، أو يدفعون الشر بالخير، أو المنكر بالمعروف، أو الظلم بالعفو، أو الذنب بالتوبة، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الموصوفين بالصفات المتقدمة "لهم عقبى الدار" العقبى مصدر كالعاقبة، والمراد بالدار الدنيا، وعقباها الجنة، وقيل المراد بالدار: الدار الآخرة، وعقباها الجنة للمطيعين، والنار للعصاة.
23- "جنات عدن يدخلونها" بدل من عقبى الدار أي لهم جنات عدن، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره يدخلونها، والعدن أصله الإقامة، ثم صار علماً لجنة من الجنان. قال القشيري: وجنات عدن: وسط الجنة وقصبتها وسقفها عرش الرحمن، ولكن في صحيح البخاري وغيره "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة". "ومن صلح من آبائهم" يشمل الآباء والأمهات "وأزواجهم وذرياتهم" معطوف على الضمير في يدخلون، وجاز ذلك للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه: أي ويدخلها أزواجهم وذرياتهم، وذكر الصلاح دليل على أنه لا يدخل الجنة إلا من كان كذلك من قرابات أولئك، ولا ينفع مجرد كونه من الآباء أو الأزواج أو الذرية بدون صلاح "والملائكة يدخلون عليهم من كل باب" أي من جميع أبواب المنازل التي يسكنونها، أو المراد من كل باب من أبواب التحف والهدايا من الله سبحانه.
24- "سلام عليكم" أي قائلين سلام عليكم: أي سلمتم من الآفات أو دامت لكم السلامة "بما صبرتم" أي بسبب صبركم وهو متعلق بالسلام: أي إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم أو متعلق بعليكم، أو بمحذوف: أي هذه الكرامة بسبب صبركم أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر "فنعم عقبى الدار" جاء سبحانه بهذه الجملة المتضمنة لمدح ما أعطاهم من عقبى الدار المتقدم ذكرها للترغيب والتشويق.
ثم اتبع أحوال السعداء بأحوال الأشقياء، فقال: 25- "والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" وقد مر تفسير عدم النقض وعدم القطع فعرف منهما تفسير النقض والقطع، ولم يتعرض لنفي الخشية والخوف عنهم وما بعدهما من الأوصاف المتقدمة لدخولها في النقض والقطع "ويفسدون في الأرض" بالكفر وارتكاب المعاصي والأضرار بالأنفس والأموال "أولئك" الموصوفون بهذه الصفات الذميمة "لهم" بسبب ذلك "اللعنة": أي الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه "ولهم سوء الدار" أي سوء عاقبة دار الدنيا، وهي النار أو عذاب النار. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله تعالى: "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق" قال: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه "كمن هو أعمى" قال: عن الحق فلا يبصره ولا يعقله " إنما يتذكر أولو الألباب " فبين من هم؟ فقال: "الذين يوفون بعهد الله". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أولوا الألباب قال: من كان له لب: أي عقل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة أن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين آية من القرآن. وأخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن البر والصلة ليخففان سوء الحساب يوم القيامة". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل" يعني من إيمان بالنبيين وبالكتب كلها "ويخشون ربهم" يعني يخافون من قطيعة ما أمر الله به أن يوصل "ويخافون سوء الحساب" يعني شدة الحساب. وقد ورد في صلة الرحم وتحريم قطعها أحاديث كثيرة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك " ويدرؤون بالحسنة السيئة " قال: يدفعون بالحسنة السيئة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله: "جنات عدن" قال: بطنان الجنة، يعني وسطها. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن عمر قال لكعب: ما عدن؟ قال: هو قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل. وأخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جنة عدن قضيب غرسه الله بيده، ثم قال له كن فكان". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "ومن صلح من آبائهم" قال: من آمن في الدنيا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني في قوله: "سلام عليكم بما صبرتم" قال: على دينكم "فنعم عقبى الدار" قال: نعم ما أعقبكم الله من الدنيا في الجنة. وأخرج أحمد والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول من يدخل الجنة من خلق الله فقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال الله: إن هؤلاء عبادي كانوا يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب "سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار"". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أمامة "إن المؤمن ليكون متكئاً على أريكة إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم وعند طرف السماطين باب مبوب، فيقبل الملك فيستأذن، فيقول أقصى الخدم للذي يليه: ملك يستأذن، ويقول الذي يليه: ملك يستأذن، حتى يبلغ المؤمن، فيقول ائذنوا له، فيقول أقربهم إلى المؤمن: ائذنوا له، ويقول الذي يليه للذي يليه ائذنوا له حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له فيدخل ويسلم عليه، ثم ينصرف". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "ولهم سوء الدار" قال: سوء العاقبة.
لما ذكر الله سبحانه عاقبة المشركين بقوله: "ولهم سوء الدار" كان لقائل أن يقول: قد نرى كثيراً منهم قد وفر الله له الرزق وبسط له فيه، فأجاب عن ذلك بقوله: 26- "الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" فقد يبسط الرزق لمن كان كافراً، ويقتره على من كان مؤمناً ابتلاءً وامتحاناً، ولا يدل البسط على الكرامة ولا القبض على الإهانة، ومعنى يقدر: يضيق. ومنه -ومن قدر عليه رزقه- أي ضيق، وقيل معنى يقدر: يعطي بقدر الكفاية، ومعنى الآية: أنه الفاعل لذلك وحده القادر عليه دون غيره "وفرحوا بالحياة الدنيا" أي مشركو مكة فرحوا بالدنيا وجهلوا ما عند الله، قيل وفي هذه الآية تقديم وتأخير. والتقدير: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا، فيكون وفرحوا معطوفاً على يفسدون "وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع" أي ما هي إلا شيء يستمتع به، وقيل المتاع واحد الأمتعة كالقصعة والسكرجة ونحوهما، وقيل المعنى: شيء قليل ذاهب، من متع النهار: إذا ارتفع فلا بد له من زوال، وقيل زاد كزاد الراكب يتزود به منها إلى الآخرة.
27- "ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه" أي يقول أولئك المشركون من أهل مكة هلا أنزل على محمد آية من ربه؟ وقد تقدم تفسير هذا قريباً، وتكرر في مواضع "قل إن الله يضل من يشاء" أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بهذا، وهو أن الضلال بمشيئة الله سبحانه، من شاء أن يضله ضل كما ضل هؤلاء القائلون "لولا أنزل عليه آية من ربه" "ويهدي إليه من أناب" أي ويهدي إلى الحق. أو إلى الإسلام، أو إلى جنابه عز وجل "من أناب": أي من رجع إلى الله بالتوبة والإقلاع عما كان عليه، وأصل الإنابة الدخول في نوبة الخير، كذا قال النيسابوري، ومحل الذين آمنوا النصب على البدلية من قوله "من أناب" أي أنهم هم الذين هداهم الله وأنابوا إليه، ويجوز أن يكون الذين آمنوا خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين آمنوا، أو منصوب على المدح.
28- "وتطمئن قلوبهم بذكر الله" أي تسكن وتستأنس بذكر الله سبحانه بألسنتهم، كتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتكبير والتوحيد، أو بسماع ذلك من غيرهم، وقد سمى سبحانه القرآن ذكراً قال: "وهذا ذكر مبارك أنزلناه"، وقال: "إنا نحن نزلنا الذكر" قال الزجاج: أي إذا ذكر الله وحده آمنوا به غير شاكين بخلاف من وصف بقوله: "وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة" وقيل تطمئن قلوبهم بتوحيد الله، وقيل المراد بالذكر هنا الطاعة، وقيل بوعد الله، وقيل بالحلف بالله، فإذا حلف خصمه بالله سكن قلبه، وقيل بذكر رحمته، وقيل بذكر دلائله الدالة على توحيده "ألا بذكر الله" وحده دون غيره "تطمئن القلوب" والنظر في مخلوقات الله سبحانه وبدائع صنعه وإن كان يفيد طمأنينة في الجملة، لكن ليست كهذه الطمأنينة، وكذلك النظر في المعجزات من الأمور التي لا يطيقها البشر، فليس إفادتها للطمأنينة كإفادة ذكر الله، فهذا وجه ما يفيده هذا التركيب من القصر.