تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 253 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 253

252

29- " الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب " الموصول مبتدأ خبره الجملة الدعائية، وهي طوبى لهم على التأويل المشهور، ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على المدح، وطوبى لهم خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون المصول بدلاً من القلوب على حذف مضاف: أي قلوب الذين آمنوا. قال أبو عبيدة والزجاج وأهل اللغة: طوبى فعلى من الطيب. قال ابن الأنباري: وتأويلها الحال المستطابة، وقيل طوبى شجرة في الجنة، وقيل هي الجنة، وقيل هي البستان بلغة الهند، وقيل معنى طوبى لهم: حسنى لهم، وقيل خير لهم، وقيل كرامة لهم، وقيل غبطة لهم، قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة، والأصل طيبى فصارت الياء واواً لسكونها وضم ما قبلها، واللام في لهم للبيان مثل سقيا لك ورعيا لك. وقرئ حسن مآب بالنصب والرفع، من آب إذا رجع: أي وحسن مرجع، وهو الدار الآخرة.
30- "كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم" أي مثل ذلك الإرسال العظيم الشأن المشتمل على المعجزة الباهرة أرسلناك يا محمد، وقيل شبه الإنعام على من أرسل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله، ومعنى "في أمة قد خلت من قبلها أمم" في قرن قد مضت من قبله قرون، أو في جماعة من الناس قد مضت من قبلها جماعات " لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك " أي لتقرأ عليهم القرآن، "و" الحال " وهم يكفرون بالرحمن " أي بالكثير الرحمة لعباده، ومن رحمته لهم إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم كما قال سبحانه: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" وجملة "قل هو ربي" مستأنفة بتقدير سؤال كأنهم قالوا: وما الرحمن؟ فقال سبحانه "قل" يا محمد "هو ربي" أي خالقي "لا إله إلا هو" أي لا يستحق العبادة له والإيمان به سواه "عليه توكلت" في جميع أموري "وإليه" لا إلى غيره "متاب" أي توبتي، وفيه تعريض بالكفار وحث لهم على الرجوع إلى الله والتوبة من الكفر والدخول في الإسلام. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن سابط في قوله: "وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع" قال: كزاد الراعي يزوده أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق أو الشيء يشرب عليه اللبن. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل يخرج في الزمان الأول في إبله، أو غنمه فيقول لأهله منعوني فيمتعونه فلقة الخبز أو التمر، فهذا مثل ضربه الله للدنيا. وأخرج الترمذي وصححه عن عبد الله بن مسعود قال: "نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك؟ فقال مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها". وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن المستورد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع؟ وأشار بالسبابة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "وتطمئن قلوبهم بذكر الله" قال: هشت إليه واستأنست به. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في الآية قال: إذا حلف لهم بالله صدقوا "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" قال: تسكن. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: بمحمد وأصحابه. وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين نزلت هذه الآية "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" هل تدرون ما معنى ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: من أحب الله ورسوله وأحب أصحابي". وأخرج ابن مردويه عن علي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" قال: ذاك من أحب الله ورسوله، وأحب أهل بيتي صادقاً غير كاذب، وأحب المؤمنين شاهداً وغائباً، ألا بذكر الله يتحابون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "طوبى لهم" قال: فرح وقرة عين. وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: "طوبى لهم" قال نعم ما لهم. وقد روي عن جماعة من السلف نحو ما قدمنا ذكره من الأقوال، والأرجح تفسير الآية بما روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن عتبة بن عبد قال: "جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله في الجنة فاكهة؟ قال: نعم فيها شجرة تدعى طوبى" الحديث. وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والخطيب في تاريخه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن رجلاً قال: يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك، قال: طوبى لمن آمن بي ورآني، ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني، فقال رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسير مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها" وفي الباب أحاديث وآثار عن السلف، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، اقرأوا إن شئتم "وظل ممدود"" وفي بعض الألفاظ "إنها شجرة الخلد". وأخرج أبو الشيخ عن السدي "وحسن مآب" قال: حسن منقلب. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وهم يكفرون بالرحمن" قال:" ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشاً كتب في الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه، وكان أهل الجاهلية يكتبون، باسمك اللهم، فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم، فقال لا، ولكن اكتبوا كما يريدون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في هذه الآية نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد "وإليه متاب" قال: توبتي.
قوله: 31- "ولو أن قرآنا سيرت به الجبال" قيل هذا متصل بقوله: "لولا أنزل عليه آية من ربه" وأن جماعة من الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير لهم جبال مكة حتى تنفسح فإنها أرض ضيقة، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم بهذا الجواب المتضمن لتعظيم شأن القرآن وفساد رأي الكفار حيث لم يقنعوا به وأصروا على تعنتهم وطلبهم ما لو فعله الله سبحانه لم يبق ما تقتضيه الحكمة الإلهية من عدم إنزال الآيات التي يؤمن عندها جميع العباد. ومعنى سيرت به الجبال: أي بإنزاله وقراءته فسارت عن محال استقرارها "أو قطعت به الأرض" أي صدعت حتى صارت قطعاً متفرقة "أو كلم به الموتى" أي صاروا أحياء بقراءته عليهم، فكانوا يفهمونه عند تكليمهم به كما يفهمه الأحياء. وقد اختلف في جواب لو ماذا هو؟ فقال الفراء: هو محذوف، وتقديره: لكان هذا القرآن، وروي عنه أنه قال: إن الجواب لكفروا بالرحمن: أي لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن، وقيل جوابه لما آمنوا كما سبق في قوله " ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " وقيل الجواب متقدم، وفي الكلام تقديم وتأخير: أي وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآناً إلى آخره، وكثيراً ما تحذف العرب جواب لو إذا دل عليه سياق الكلام، ومنه قول امرئ القيس: فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا أي لهان علي ذلك "بل لله الأمر جميعاً" أي لو أن قرآناً فعل به ذلك لكان هذا القرآن، ولكن لم يفعل بل فعل ما عليه الشأن الآن، فلو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وإذا لم يشأ أن يؤمنوا لم ينفع تسيير الجبال وسائر ما اقترحوه من الآيات، فالإضراب متوجه إلى ما يؤدي إليه كون الأمر لله سبحانه ويستلزمه من توقف الأمر على ما تقتضيه حكمته ومشيئته، ويدل على أن هذا هو المعنى المراد من ذلك قوله: "أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً" قال الفراء: قال الكلبي أفلم ييأس بمعنى أفلم يعلم، وهي لغة النخع. قال في الصحاح: وقيل هي لغة هوازن، وبهذا قال جماعة من السلف، قال أبو عبيدة: أفلم يعلموا ويتبينوا. قال الزجاج: وهو مجاز لأن اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون، نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في الترك لتضمنهما إياهما، ويؤيده قراءة علي وابن عباس وجماعة: أفلم يتبين، ومن هذا قول رباح بن عدي: ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا أي ألم يعلم، وأنشد في هذا أبو عبيدة قول مالك بن عوف النضري: أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم أي ألم تعلموا، فمعنى الآية على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً من غير أن يشاهدوا الآيات، وقيل إن الإياس على معناه الحقيقي: أي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم، لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات التي اقترحها الكفار طمعاً في إيمانهم "ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة" هذا وعيد للكفار على العموم أو لكفار مكة على الخصوص: أي لا يزال الذين كفروا تصيبهم بسبب ما صنعوا من الكفر والتكذيب للرسل قارعة: أي داهية تفجؤهم، يقال قرعه الأمر إذا أصابه، والجمع قوارع، والأصل في القرع الضرب. قال الشاعر: أفنى تلادي وما جمعت من نشب قرع القراقير أفواه الأباريق والمعنى: أن الكفار لا يزالون كذلك حتى تصيبهم داهية مهلكة من قتل أو أسر أو جدب أو نحو ذلك من العذاب، وقد قيل إن القارعة: النكبة، وقيل الطلائع والسرايا، ولا يخفى أن القارعة تطلق على ما هو أعم من ذلك "أو تحل" أي القارعة "قريباً من دارهم" فيفزعون منها ويشاهدون من آثارها ما ترجف له قلوبهم وترعد منه بوادرهم وقيل إن الضمير في "تحل" للنبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم محاصراً لهم آخذاً بمخانقهم كما وقع منه صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف "حتى يأتي وعد الله" وهو موتهم، أو قيام الساعة عليهم، فإنه إذا جاء وعد الله المحتوم حل بهم من عذابه ما هو الغاية في الشدة، وقيل المراد بوعد الله هنا الإذن منه بقتال الكفار، والأول أولى "إن الله لا يخلف الميعاد" فما جرى به وعده فهو كائن لا محالة.
32- "ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا" التنكير في رسل للتكثير: أي برسل كثيرة، والإملاء: الإمهال، وقد مر تحقيقه في الأعراف "ثم أخذتهم" بالعذاب الذي أنزلته بهم "فكيف كان عقاب" الاستفهام للتقريع والتهديد: أي فكيف كان عقابي لهؤلاء الكفار الذين استهزأوا بالرسل، فأمليت لهم ثم أخذتهم.
ثم استفهم سبحانه استفهاماً آخر للتوبيخ والتقريع يجري مجرى الحجاج للكفار واستركاك صنعهم والإزراء عليهم، فقال 33- "أفمن هو قائم على كل نفس" القائم الحفيظ والمتولي للأمور. وأراد سبحانه نفسه، فإنه المتولي لأمور خلقه المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق، وإحصاء الأعمال على كل نفس من الأنفس كائنة ما كانت، والجواب محذوف: أي أفمن هو بهذه الصفة كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تنفع ولا تضر. قال الفراء: كأنه في المعنى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم من دون الله، والمراد من الآية إنكار المماثلة بينهما، وقيل المراد بمن هو قائم على كل نفس: الملائكة الموكلون ببني آدم، والأول أولى، وجملة "وجعلوا لله شركاء" معطوفة على الجواب المقدر مبينة له أو حالية بتقدير قد: أي وقد جعلوا، أو معطوفة على "ولقد استهزئ" أي استهزأوا وجعلوا، "قل سموهم" أي قل يا محمد جعلتم له شركاء فسموهم من هم؟ وفي هذا تبكيت لهم وتوبيخ، لأنه إنما يقال هكذا في الشيء المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه، فيقال: سمه إن شئت: يعني أنه أحقر من أن يسمى، وقيل إن المعنى سموهم بالآلهة كما تزعمون، فيكون ذلك تهديداً لهم "أم تنبئونه" أي بل أتنبئون الله "بما لا يعلم في الأرض" من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السموات والأرض "أم بظاهر من القول" أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن تكون له حقيقة، وقيل المعنى: قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر يعلمه؟ فإن قالوا بباطن لا يعلمه فقد جاءوا بدعوى باطلة، وإن قالوا بظاهر يعلمه فقل لهم سموهم. فإذا سموا اللات والعزى ونحوهما، فقل لهم إن الله لا يعلم لنفسه شريكاً، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض، لأنهم ادعوا له شريكاً في الأرض، وقيل معنى "أم بظاهر من القول" أم بزائل من القول باطل، ومنه قول الشاعر: أعيرتنا ألبانها ولحومها وذلك عار يا بن ريطة ظاهر أي زائل باطل، وقيل بكذب من القول، وقيل معنى بظاهر من القول بحجة من القول ظاهرة على زعمهم "بل زين للذين كفروا مكرهم" أي ليس لله شريك، بل زين للذين كفروا مكرهم. وقرأ ابن عباس زين على البناء للفاعل على أن الذي زين لهم ذلك هو مكرهم. وقرأ من عداه بالبناء للمفعول، والمزين هو الله سبحانه، أو الشيطان ويجوز أن يسمى المكر كفراً، لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم كان كفراً، وأما معناه الحقيقي فهو الكيد، أو التمويه بالأباطيل "وصدوا عن السبيل" قرأ حمزة والكسائي وعاصم "صدوا" على البناء للمفعول: أي صدهم الله، أو صدهم الشيطان. وقرأ الباقون على البناء للفاعل: أي صدوا غيرهم، واختار هذه القراءة أبو حاتم وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الصاد "ومن يضلل الله فما له من هاد" أي يجعله ضالاً وتقتضي مشيئته إضلاله، فما له من هاد يهديه إلى الخير. قرأ الجمهور "هاد" من دون إثبات الياء على اللغة الكثيرة الفصيحة. وقرئ بإثباتها على اللغة القليلة.
ثم بين سبحانه ما يستحقونه، فقال 34- "لهم عذاب في الحياة الدنيا" بما يصابون به من القتل والأسر وغير ذلك "ولعذاب الآخرة أشق" عليهم من عذاب الحياة الدنيا "وما لهم من الله من واق" يقيهم عذابه، ولا عاصم يعصمهم منه.