تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 263 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 263

262

17- "وحفظناها" أي السماء "من كل شيطان رجيم" قال أبو عبيدة: الرجيم المرجوم بالنجوم، كما في قوله: "رجوماً للشياطين" والرجم في اللغة هو الرمي بالحجارة، ثم قيل للعن والطرد والإبعاد رجم، لأن الرامي بالحجارة يوجب هذه المعاني.
18- "إلا من استرق السمع" استثناء متصل: أي إلا ممن استقرق السمع، ويجوز أن يكون منقطعاً: أي ولكن من استرق السمع "فأتبعه شهاب مبين" والمعنى: حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئاً من الوحي وغيره إلا من استرق السمع فإنها تتبعه الشهب فتقتله أو تخبله: ومعنى فأتبعه: تبعه ولحقه أو أدركه. والشهاب: الكوكب أو النار المشتعلة الساطعة كما في قوله: "بشهاب قبس" قال ذو الرمة: كأنه كوكب في إثر عفريت وسمي الكوكب شهاباً لبريقه شبه النار، والمبين: الظاهر للمبصرين يرونه لا يلتبس عليهم. قال القرطبي: واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا؟ فقال ابن عباس: الشهاب يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل، وقال الحسن وطائفة: يقتل. فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان: أحدهما أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم فلا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء، ولذلك انقطعت الكهانة. والثاني أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن، قال ذكره الماوردي، ثم قال: والقول الأول أصح. قال: واختلف هل كان رمي بالشهب قبل المبعث، فقال الأكثرون نعم، وقيل لا وإنما ذلك بعد المبعث. قال الزجاج: والرمي بالشهب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم مما حدث بعد مولده لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم. قال كثير من أهل العلم: نحن نرى انقضاض الكواكب، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى، ثم يصير ناراً إذا أدرك الشيطان، ويجوز أن يقال يرمون بشعلة من نار الهواء فيخيل إلينا أنه نجم يسري.
19- "والأرض مددناها" أي بسطناها وفرشناها كما في قوله: "والأرض بعد ذلك دحاها" وفي قوله: "والأرض فرشناها فنعم الماهدون" وفيه رد على من زعم أنها كالكرة "وألقينا فيها رواسي" أي جبال ثابتة لئلا تحرك بأهلها، وقد تقدم بيان ذلك في سورة الرعد "وأنبتنا فيها من كل شيء موزون" أي أنبتنا في الأرض من كل شيء مقدر معلوم، فعبر عن ذلك بالوزن لأنه مقدار تعرف به الأشياء ومنه قول الشاعر: قد كنت قبل لقائكم ذا مرة عندي لكل مخاصم ميزانه وقيل معنى موزون مقسوم، وقيل معدود، والمقصود من الإثبات الإنشاء والإيجاد، وقيل الضمير راجع إلى الجبال: أي أنبتنا في الجبال من كل شيء موزون من الذهب والفضة والنحاس والرصاص ونحو ذلك، وقيل موزون بميزان الحكمة، ومقدر بقدر الحاجة، وقيل الموزون هو المحكوم بحسنه كما يقال كلام موزون. أي حسن.
20- "وجعلنا لكم فيها معايش" تعيشون بها من المطاعم والمشارب جمع معيشة، وقيل هي الملابس، وقيل هي التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة. قال الماوردي: وهو الظاهر. قلت: بل القول الأول أظهر، ومنه قول جرير: تكلفني معيشة آل زيد ومن لي بالمرقق والضباب "ومن لستم له برازقين" معطوف على معايش: أي وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين: وهم المماليك والخدم والأولاد الذين رازقهم في الحقيقة هو الله، وإن ظن بعض العباد أنه الرازق لهم باعتبار استقلاله بالكسب، ويجوز أن يكون معطوفاً على محل لكم: أي جعلنا لكم فيها معايش وجعلنا لمن لستم له برازقين فيها معايش، وهم من تقدم ذكره، ويدخل في ذلك الدواب على اختلاف أجناسها، ولا يجوز العطف على الضمير المجرور في لكم لأنه لا يجوز عند الأكثر إلا بإعادة الجار، وقيل أراد الوحش.
21- "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه" إن هي النافية ومن مزيدة للتأكيد، وهذا التركيب عام لوقوع النكرة في حيز النفي مع زيادة من، ومع لفظ شيء المتناول لكل الموجودات الصادق على كل فرد منها، فأفاد ذلك أن جميع الأشياء عند الله خزائنها لا يخرج منها شيء: والخزائن جمع خزانة. وهي المكان الذي يحفظ فيه نفائس الأمور، وذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور، والمعنى: أن كل الممكنات مقدورة ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجوب بمقدار كيف شاء. وقال جمهور المفسرين: إن المراد بما في هذه الآية هو المطر، لأنه سبب الأرزاق والمعايش، وقيل الخزائن المفاتيح: أي ما من شيء إلا عندنا في السماء مفاتيحه، والأولى ما ذكرناه من العموم لكل موجود، بل قد يصدق الشيء على المعدوم على الخلاف المعروف في ذلك "وما ننزله إلا بقدر معلوم" أي ما ننزله من السماء إلى الأرض أو نوجده للعباد إلا بقدر معلوم، والقدر المقدار، والمعنى: أن الله سبحانه لا يوجد للعباد شيئاً من تلك الأشياء المذكورة إلا متلبساً ذلك الإيجاد بمقدار معين حسبما تقتضيه مشيئته على مقدار حاجة العباد إليه كما قال سبحانه: "ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء" وقد فسر الإنزال بالإعطاء وفسر بالإنشاء، وفسر بالإيجاد، والمعنى متقارب، وجملة وما ننزله معطوفة على مقدر: أي وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ننزله وما ننزله، أو في محل نصب على الحال.
22- "وأرسلنا الرياح لواقح" معطوف على "وجعلنا لكم فيها معايش" وما بينهما اعتراض. قرأ حمزة "الريح" بالتوحيد. وقرأ من عداه "الرياح" بالجمع، وعلى قراءة حمزة فتكون اللام في الريح للجنس. قال الأزهري وجعل الرياح لواقح لأنها تحمل السحاب: أي تقله وتصرفه، ثم تمر به فتنزله. قال الله سبحانه: "حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً": أي حملت. وناقة لاقح: إذا حملت الجنين في بطنها، وبه قال الفراء وابن قتيبة، وقيل لواقح بمعنى ملقحة. قال ابن الأنباري: تقول العرب: أبقل النبت فهو باقل: أي مبقل، والمعنى: أنها تلقح الشجر: أي بقوتها، وقيل معنى لواقح: ذوات لقح. قال الزجاج: معناه وذات لقحة، لأنها تعصر السحاب وتدره كما تدر اللقحة، يقال رامح: أي ذو رمح، ولابن: أي ذو لبن، وتامر: أي ذو تمر. قال أبو عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح، ذهب إلى أنها جمع ملقحة. وفي هذه الآية تشبيه الرياح التي تحمل الماء بالحامل، ولقاح الشجر بلقاح الحمل "وأنزلنا من السماء ماء" أي من الحساب وكل ما علاك فأظلك فهو سماء، وقيل من جهة السماء، والمراد بالماء هنا ماء المطر "فأسقيناكموه" أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم. قال أبو علي: يقال سقيته الماء إذا أعطيته قدر ما يروى، وأسقيته نهراً: أي جعلته شرباً له، وعلى هذا فأسقيناكموه أبلغ من سقيناكموه، وقيل سقى وأسقى بمعنى واحد "وما أنتم له بخازنين" أي ليست خزائنه عندكم، بل خزائنه عندنا، ونحن الخازنون له، فنفى عنهم سبحانه ما أثبته لنفسه في قوله: "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه" وقيل المعنى: إن ما أنتم له بخازنين بعد أن أنزلناه عليكم: أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والغدران والعيون، بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة إليه.
23- "وإنا لنحن نحيي ونميت" أي نوجد الحياة في المخلوقات ونسلبها عنها متى شئنا، والغرض من ذلك الاستدلال بهذه الأمور على كمال قدرته عز وجل، وأنه القادر على البعث والنشور والجزاء لعباده على حسب ما يستحقونه وتقتضيه مشيئته، ولهذا قال: "ونحن الوارثون" أي للأرض ومن عليها، لأنه سبحانه الباقي بعد فناء خلقه، الحي الذي لا يموت، الدائم الذي لا ينقطع وجوده، "ولله ميراث السموات والأرض".
24- "ولقد علمنا المستقدمين منكم" هذه اللام هي الموطئة للقسم، وهكذا اللام في "ولقد علمنا المستأخرين"، والمراد من تقدم ولادة وموتاً، ومن تأخر فيهما، وقيل من تقدم طاعة ومن تأخر فيها، وقيل من تقدم في صف القتال ومن تأخر، وقيل المراد بالمستقدمين الأموات، وبالمستأخرين الأحياء، وقيل المستقدمين هم الأمم المتقدمون على أمة محمد، والمستأخرون هم أمة محمد، وقيل المستقدمون من قتل في الجهاد، والمستأخرون من لم يقتل.
25- "وإن ربك هو يحشرهم" أي هو المتولي لذلك القادر عليه دون غيره كما يفيده ضمير الفصل من الحصر. وفيه أنه سبحانه يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، لأنه الأمر المقصود من الحشر "إنه حكيم" يجري الأمور على ما تقتضيه حكمته البالغة "عليم" أحاط علمه بجميع الأشياء لا يخفى عليه شيء منها، ومن كان كذلك فله القدرة البالغة على كل شيء مما وسعه وعلمه، وجرى فيه حكمه سبحانه لا إله إلا هو. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله:"ولقد جعلنا في السماء بروجاً" قال: كواكب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: الكواكب العظام. وأخرج أيضاً عن عطية قال: قصوراً في السماء فيها الحرس. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة الرجيم: الملعون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إلا من استرق السمع" أراد أن يخطف السمع كقوله: "إلا من خطف الخطفة". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: كان ابن عباس يقول إن الشهب لا تقتل، ولكن تحرق وتخبل وتجرح من غير أن تقتل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: "وأنبتنا فيها من كل شيء موزون" قال: معلوم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "من كل شيء موزون" قال: بقدر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال الأشياء التي توزن. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: ما أنبتت الجبال مثل الكحل وشبهه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "ومن لستم له برازقين" قال: الدواب والأنعام. وأخرج هؤلاء عن منصور قال: الوحش. وأخرج البزار وابن مردويه وأبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خزائن الله الكلام، فإذا أراد شيئاً قال له كن فكان". وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في قوله: "إلا عندنا خزائنه" قال: المطر خاصة. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما نقص المطر منذ أنزله الله، ولكن تمطر أرض أكثر مما تمطر أخرى ثم قرأ وما ننزله إلا بقدر معلوم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء، ثم قرأ: "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم". وأخرج ابن مردويه عنه مرفوعاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله: "وأرسلنا الرياح لواقح" قال: يرسل الله الريح فتحمل الماء فتلقح به السحاب فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال: يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قماً. ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب فتجعله كسفاً ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاماً، ثم يبعث اللواقح فتلقحه فتمطر. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ريح الجنوب من الجنة، وهي الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه". وأخرج الطيالسي وسعيد بن منصور وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: "كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن النساء، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه، فأنزل الله: "ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين"" وهذا الحديث هو من رواية أبي الجوزاء عن ابن عباس. وقد رواه عبد الرزاق وابن المنذر من قول أبي الجوزاء قال الترمذي: وهذا أشبه أن يكون أصح. وقال ابن كثير: في هذا الحديث نكارة شديدة. وأخرج الحاكم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: المستقدمين الصفوف المتقدمة، والمستأخرين: الصفوف المؤخرة. وقد وردت أحاديث كثيرة في أن خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء ومقاتل بن حبان أن الآية في صفوف القتال. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: المستقدمين في طاعة الله، والمستأخرين في معصية الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: يعني بالمستقدمين من مات، وبالمستأخرين من هو حي لم يمت. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً قال: المستقدمين آدم ومن مضى من ذريته، والمستأخرين في أصلاب الرجال. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة نحوه.
المراد بالإنسان في قوله: 26- "ولقد خلقنا الإنسان" هو آدم لأنه أصل هذا النوع، والصلصال قال أبو عبيدة: هو الطين المخلوط بالرمل الذي يتصلصل إذا حرك، فإذا طبخ في النار فهو الفخار. وهذا قول أكثر المفسرين. وقال الكسائي: هو الطين المنتن، مأخوذ من قول العرب صل اللحم وأصل، إذا أنتن، مطبوخاً كان أو نيئاً. قال الحطيئة: ذاك فتى يبذل ذا قدرة لا يفسد اللحم لديه الصلول والحمأ: الطين الأسود المتغير. أو الطين الأسود من غير تقييد بالمتغير. قال ابن السكيت: تقول منه حمأت البئر حمأ بالتسكين: إذا نزعت حمأتها، وحمئت البئر حمأ بالتحريك: كثرت حمأتها، وأحميتها إحماء: ألقيت فيها الحمأة. قال أبو عبيدة: الحمأة بسكون الميم مثل الحمأة يعني بالتحريك، والجمع حمء مثل تمرة وتمر، والحمأ المصدر مثل الهلع والجزع، ثم سمي به. والمسنون قال الفراء: هو المتغير، وأصله من سننت الحجر على الحجر: إذا حككته، وما يخرج بين الحجرين يقال له السنانة والسنين، ومنه قول عبد الرحمن بن حسان: ثم حاصرتها إلى القبة الحمرا تمشي في مرمر وسنون أي محكوك، ويقال: أسن الماء إذا تغير، ومنه قوله: "لم يتسنه" وقوله: "ماء غير آسن" وكلا الاشتقاقين يدل على التغير، لأن ما يخرج بين الحجرين لا يكون إلا منتناً. وقال أبو عبيدة: المسنون المصوب، وهو من قول العرب سنننت الماء على الوجه: إذا صببته، والسن الصب. وقال سيبويه: المسنون المصور، مأخوذ من سنة الوجه، وهي صورته، ومنه قول ذي الرمة: تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب وقال الأخفش: المسنون المنصوب القائم، من قولهم وجه مسنون: إذا كان فيه طول. والحاصل على هذه الأقوال أن التراب لما بل صار طيناً، فلما أنتن صار حمأ مسنوناً، فلما يئس صار صلصالاً. فأصل الصلصال: هو الحمأ المسنون، ولهذا وصف بهما.
27- " والجان خلقناه من قبل من نار السموم " الجان أبو الجن عند جمهور المفسرين. وقال عطاء والحسن وقتادة ومقاتل: هو إبليس. وسمي جاناً لتواريه عن الأعين. يقال: جن الشيء إذا ستره. فالجان يستر نفسه عن أعين بني آدم، ومعنى من قبل: من قبل خلق آدم، والسموم: الريح الحادة النافذة في المسام، تكون بالنهار وقد تكون بالليل، كذا قال أبو عبيدة، وذكر خلق الإنسان والجان في هذا الموضع للدلالة على كمال القدرة الإلهية، وبيان أن القادر على النشأة الأولى قادر على النشأة الأخرى.
28- "وإذ قال ربك للملائكة" الظرف منصوب بفعل مقدر: أي اذكر، بين سبحانه بعد ذكره لخلق الإنسان ما وقع عند خلقه له وقد تقدم تفسير ذلك في البقرة، والبشر مأخوذ من البشرة، وهي ظاهر الجلد، وقد تقدم تفسير الصلصال والحمأ المسنون قريباً مستوفى.
29- "فإذا سويته" أي سويت خلقه وعدلت صورته الإنسانية وكملت أجزاءه "ونفخت فيه من روحي" النفخ: إجراء الريح في تجاويف جسم آخر، فمن قال إن الروح جسم لطيف كالهواء فمعناه ظاهر، ومن قال: إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز. فمعنى النفخ عنده تهيئة البدن لتعلق النفس الناطقة به. قال النيسابوري: ولا خلاف في أن الإضافة في روحي للتشريف والتكريم، مثل ناقة الله، وبيت الله. قال القرطبي: والروح: جسم لطيف أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم. وحقيقته إضافة خلق إلى خالق، فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفاً وتكريماً، قال: ومثله "وروح منه". وقد تقدم في النساء، "فقعوا له ساجدين" الفاء تدل على أن سجودهم واجب عليهم عقب التسوية والنفخ من غير تراخ، وهو أمر بالوقوع من وقع يقع. وفيه دليل على أن المأمور به هو السجود لا مجرد الانحناء كما قيل، وهذا السجود هو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة ولله أن يكرم من يشاء من مخلوقاته كيف يشاء بما يشاء، وقيل كان السجود لله تعالى وكان آدم قبلة لهم.
30- "فسجد الملائكة كلهم أجمعون" أخبر سبحانه بأن الملائكة سجدوا جميعاً عند أمر الله سبحانه لهم بذلك من غير تراخ، قال المبرد: قوله كلهم أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجد، وقوله أجمعون توكيد بعد توكيد، ورجح هذا الزجاج. قال النيسابوري: وذلك لأن أجمع معرفة فلا يقع حالاً ولو صح أن يكون حالاً لكان منتصباً.
ثم استثنى إبليس من الملائكة فقال: 31- "إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين" قيل هذا الاستثناء متصل لكونه كان من جنس الملائكة ولكنه أبى ذلك استكباراً واستعظاماً لنفسه وحسداً لآدم فحقت عليه كلمة الله، وقيل إنه لم يكن من الملائكة ولكنه كان معهم فغلب اسم الملائكة عليه وأمر بما أمروا به، فكان الاستثناء بهذا الاعتبار متصلاً، وقيل إن الاستثناء منفصل بناء على عدم كونه منهم، وعدم تغليبهم عليه: أي ولكن إبليس أبى أن يكون مع الساجدين وقد تقدم الكلام في هذا في سورة البقرة، وجملة "أبى أن يكون مع الساجدين" استئناف مبين لكيفية ما فيه من الاستثناء من عدم السجود، لأن عدم السجود قد يكون مع التردد فبين سبحانه أنه كان على وجه الإباء.