تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 295 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 295

294

16- "وإذ اعتزلتموهم" أي فارقتموهم وتنحيتم عنهم جانباً: أي عن العابدين للأصنام، وقوله: "وما يعبدون إلا الله" معطوف على الضمير المنصوب، وما موصولة أو مصدرية: أي وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبودهم أو الذي يعبدونه، وقوله: "إلا الله" استثناء منقطع على تقدير أنهم لم يعبدوا إلا الأصنام، أو متصل على تقدير أنهم شركوها في العبادة مع الله سبحانه وقيل هو كلام معترض إخبار من الله سبحانه عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله فتكون ما على هذا نافية "فأووا إلى الكهف" أي صيروا إليه واجعلوه مأواكم. قال الفراء: هو جواب إذ، ومعناه: اذهبوا إليه واجعلوه مأواكم، وقيل هو دليل على جوابه، أي إذ اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقادياً، فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانياً، وإذا أردتم اعتزالهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف "ينشر لكم ربكم من رحمته" أي يبسط ويوسع "ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً" أي يسهل وييسر لكم من أمركم الذي أنتم بصدده "مرفقاً" المرفق بفتح الميم وكسرها لغتان قرئ بهما، مأخوذ من الارتفاق وهو الانتفاع، وقيل فتح الميم أقيس، وكسرها أكثر. قال الفراء: وأكثر العرب على كسر الميم من الأمر ومن مرفق الإنسان، وقد تفتح العرب الميم فيهما فهماً لغتان، وكأن الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بين المرفق من الأمر، والمرفق من الإنسان. وقال الكسائي: الكسر في مرفق اليد، وقيل المرفق بالكسر ما ارتفقت به، والمرفق بالفتح الأمر الرافق، والمراد هنا ما يرتفقون به وينتفعون بحصوله، والتقديم في الموضعين يفيد الاختصاص. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الرقيم الكتاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عنه قال: الرقيم واد دون فلسطين قريب من أيلة، والراويان عن ابن عباس ضعيفان. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عنه أيضاً قال: هو الجبل الذي فيه الكهف. وأخرج ابن المنذر عنه، قال: والله ما أدري ما الرقيم الكتاب أم بنيان؟ وفي رواية عنه من طريق أخرى قال: وسألت كعباً فقال: اسم القرية التي خرجوا منها. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال: الرقيم الكلب. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كانوا من آياتنا عجباً" يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "فضربنا على آذانهم" يقول: أرقدناهم. "ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين" من قوم الفتية، أهل الهدى، وأهل الضلالة "أحصى لما لبثوا"، وذلك أنهم كتبوا اليوم الذي خرجوا فيه والشهر والسنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: "وزدناهم هدىً" قال: إخلاصاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وربطنا على قلوبهم" قال: بالإيمان وفي قوله: "لقد قلنا إذاً شططاً" قال: كذباً. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: جوراً. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني في قوله: "وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله" قال: كان قوم الفتية يعبدون الله ويعبدون معه آلهة شتىً، فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: هي في مصحف ابن مسعود، وما يعبدون من دون الله، فهذا تفسيرها.
قوله: 17- "وترى الشمس إذا طلعت" شرع سبانه في بيان حالهم، بعد ما أووا إلى الكهف "تزاور" قرأ أهل الكوفة بحذف تاء التفاعل، وقرأ ابن عامر تزور قال الأخفش: لا يوضع الأزورار في هذا المعنى، إنما يقال هو مزور عني: أي منقبض. وقرأ الباقون بتشديد الزاي وإدغام تاء التفاعل فيه بعد تسكينها، وتزاور مأخوذ من الزور بفتح الواو، وهو الميل، ومنه زاره إذا مال إليه، والزور الميل، فمعنى الآية أن الشمس إذا طلعت تميل وتنتحي "عن كهفهم" قال الراجز الكلبي: جاب المندا عن هوانا أزور أي مائل "ذات اليمين" أي ناحية اليمين، وهي الجهة المسماة باليمين، وانتصاب ذات على الظرف، "وإذا غربت تقرضهم" القرض: القطع. قال الكسائي والأخفش والزجاج وأبو عبيدة: تعدل عنهم وتتركهم، قرضت المكان: عدلت عنه، تقول لصاحبك: هل وردت مكان كذا؟ فيقول إنما قرضته: إذا مر به وتجاوز عنه، والمعنى: أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين: أي يمين الكهف، وإذا غربت تمر "ذات الشمال" أي شمال الكهف لا تصيبه. بل تعدل عن سمته إلى الجهتين، والفجوة المكان المتسع، وجملة "وهم في فجوة منه" في محل نصب على الحال، وللمفسرين في تفسير هذه الجملة قولان: الأول أنهم مع كونهم في مكان منفتح انفتاحاً واسعاً في ظل جميع نهارهم لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا في غروبها، لأن الله سبحانه حجبها عنهم. والثاني أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال، فإذا طلعت الشمس كانت عن يمين الكهف، وإذا غربت كانت عن يساره، ويؤيد القول الأول قوله: "ذلك من آيات الله" فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب بمعنى كونها آية، ويؤيده أيضاً إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا، ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر: ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وخلوا فجوة الدار ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله: "من يهد الله" أي إلى الحق "فهو المهتد" الذي ظفر بالهدى وأصاب الرشد والفلاح "ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً" أي ناصراً يهديه إلى الحق كدقيانوس وأصحابه.
ثم حكى سبحانه طرفاً آخر من غرائب أحوالهم فقال: 18- "وتحسبهم أيقاظاً" جمع يقظ بكسر القاف وفتحها "وهم رقود" أي نيام، وهو جمع راقد كقعود في قاعد. قيل وسبب هذا الحسبان أن عيونهم كانت مفتحة وهم نيام. وقال الزجاج: لكثرة تقلبهم "ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال" أي نقلبهم في رقدتهم إلى الجهتين لئلا تأكل الأرض أجسادهم "وكلبهم باسط ذراعيه" حكاية حال ماضية، لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى المضي كما تقرر في علم النحو. قال أكثر المفسرين: هربوا من ملكهم ليلاً، فمروا براع معه كلب فتبعهم. والوصيد. قال أبو عبيد وأبو عبيدة هو فناء الباب، وكذا قال المفسرون، وقيل العتبة، ورد بأن الكهف لا يكون له عتبة ولا باب، وإنما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت "لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً" قال الزجاج: فراراً منصوب على المصدرية بمعنى التولية، والفرار: الهرب "ولملئت" قرئ بتشديد اللام وتخفيفها "منهم رعباً" قرئ بسكون العين وضمها أي خوفاً يملأ الصدر، وانتصاب رعباً على التمييز، أو على أنه مفعول ثان، سبب الرعب الهيبة التي ألبسهم الله إياها، وقيل طول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم ووحشة مكانهم، ويدفعه قوله تعالى: "لبثنا يوماً أو بعض يوم" فإن ذلك يدل على أنهم لم ينكروا من حالهم شيئاً، ولا وجدوا من أظفارهم وشعورهم ما يدل على طول المدة.
19- "وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم" الإشارة إلى المذكور قبله أي وكما فعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات بعثناهم من نومهم، وفيه تذكير لقدرته على الإماتة والبعث جميعاً، ثم ذكر الأمر الذي لأجله بعثهم فقال: ليتساءلوا بينهم: أي ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع في مدة اللبث لما يترتب على ذلك من انكشاف الحال وظهور القدرة الباهرة، والاقتصار على علة التساؤل لا ينفي غيرها، وإنما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار، وجملة "قال قائل منهم كم لبثتم" مبينة لما قبلها من التساؤل: أي كم مدة لبثكم في النوم؟ قالوا ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه في العادة "قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم" أي قال بعضهم جواباً عن سؤال من سأل منهم، قال المفسرون: إنهم دخلوا الكهف غدوة، وبعثهم الله سبحانه آخر النهار، فلذلك قالوا يوماً، فلما رأوا الشمس قالوا أو بعض يوم، وكان قد بقيت بقية من النهار، وقد مر مثل هذا الجواب في قصة عزير في البقرة "قالوا ربكم أعلم بما لبثتم" أي قال البعض الآخر هذا القول: إما على طريق الاستدلال، أو كان ذلك إلهاماً لهم من الله سبحانه: أي أنكم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله سبحانه "فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة" أعرضوا عن التجاور في مدة اللبث، وأخذوا في شيء آخر، كأنه قال القائل منهم: اتركوا ما أنتم فيه من المحاورة، وخذوا في شيء آخر مما يهمكم، والفاء للسببية، والورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الراء، وقرأ أبو عمرو وحمزة، وأبو بكر عن عاصم بسكونها، وقرئ بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف، وقرأ ابن محيصن بكسر الواو وسكون الراء. وفي حملهم لهذه الورق معهم دليل على أن إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان لا ينافي التوكل على الله، والمدينة دقسوس، وهي مدينتهم التي كانوا فيها، ويقال لها اليوم طرسوس، كذا قال الواحدي "فلينظر أيها أزكى طعاماً" أي ينظر أي أهلها أطيب طعاماً، وأحل مكسباً، أو أرخص سعراً، وقيل يجوز أن يعود الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام كما يقال زيد طبت أبا على أن الأب هو زيد، وفيه بعد. واستدل بالآية على حل ذبائح أهل الكتاب لأن عامة أهل المدينة كانوا كفاراً، وفيهم قوم يخفون إيمانهم، ووجه الاستدلال أن الطعام يتناول اللحم كما يتناول غيره مما يطلق عليه اسم الطعام "وليتلطف" أي يدقق النظر حتى لا يعرف أو لا يغبن، والأولى أولى، ويؤيده "ولا يشعرن بكم أحداً" أي لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور ويتسبب له، فهذا النهي يتضمن التأكيد للأمر بالتلطف.
ثم علل ما يسبق من الأمر والنهي فقال: 20- "إنهم إن يظهروا عليكم" أي يطلعوا عليم ويعلموا بمكانكم، يعني أهل المدينة "يرجموكم" يقتلوكم بالرجم، وهذه القتلة هي أخبث قتلة، فإن ذلك كان عادة لهم، ولهذا خصه من بين أنواع ما يقع به القتل "أو يعيدوكم في ملتهم" أي يردوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله، أو المراد بالعود هنا الصيرورة على تقدير أنهم لم يكونوا على ملتهم، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار "ولن تفلحوا إذاً أبداً" في إذن معنى الشرط، كأنه قال: إن رجعتم إلى دينهم فلن تفلحوا إذاً أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "تزاور" قال: تميل، وفي قوله: "تقرضهم" قال: تذرهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "تقرضهم" قال: تتركهم "وهم في فجوة منه" قال: المكان الداخل. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: الفجوة، الخلوة من الأرض، ويعني بالخلوة الناحية من الأرض. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ونقلبهم" الآية قال: ستة أشهر على ذي الجنب اليمين، وستة أشهر على ذي الجنب الشمال. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سعيد بن جبير في الآية قال: كي لا تأكل الأرض لحومهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أن اسم كلبهم قطموراً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: اسمه قطمير. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: "بالوصيد" قال: بالفناء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: بالباب. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "أزكى طعاماً" قال: أحل ذبيحة، وكانوا يذبحون للطواغيت. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "أزكى طعاماً": يعني أطهر، لأنهم كانوا يذبحون للطواغيت.