تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 295 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 295

295 : تفسير الصفحة رقم 295 من القرآن الكريم

** وَتَرَى الشّمْسَ إِذَا طَلَعَت تّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مّرْشِداً
فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال, لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه {ذات اليمين} أي يتقلص الفيء يمنة, كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة {تزاور} أي تميل, وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان, ولهذا قال: {وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال} أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه, وهو من ناحية المشرق, فدل على صحة ما قلناه, وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب, وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب, ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب, ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً, ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال, ولم تزل فيه إلى الغروب, فتعين ما ذكرناه, ولله الحمد.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: تقرضهم تتركهم, وقد أخبر الله تعالى بذلك, وأراد منا فهمه وتدبره, ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض, إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي, وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالاً, فتقدم عن ابن عباس أنه قال: هو قريب من أيلة. وقال ابن إسحاق: هو عند نينوى. وقيل: ببلاد الروم. وقيل: ببلاد البلقاء, والله أعلم بأي بلاد الله هو, ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه, فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت شيئاً يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به» فأعلمنا تعالى بصفته, ولم يعلمنا بمكانه, فقال: {وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم} قال مالك عن زيد بن أسلم: تميل {ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه} أي في متسع منه داخلاً بحيث لا تصبيهم, إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم, قاله ابن عباس {ذلك من آيات الله} حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم, ولهذا قال تعالى: {ذلك من آيات الله}, ثم قال: {من يهد الله فهو المهتد} الاَية, أي هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم, فإنه من هداه الله اهتدى, ومن أضله فلا هادي له.

** وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً
ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم, لم تنطبق لئلا يسرع إليها البلى, فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها, ولهذا قال تعالى: {وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود} وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عيناً ويفتح عيناً, ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد, كما قال الشاعر:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقيبأخرى الرزايا فهو يقظان نائم
وقوله: تعالى: {ونقلبهم وذات اليمين ذات الشمال} قال بعض السلف: يقلبون في العام مرتين. قال ابن عباس: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض. قوله {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: الوصيد الفناء, وقال ابن عباس: بالباب. وقيل: بالصعيد وهو التراب, والصحيح أنه بالفناء وهو الباب, ومنه قوله تعالى: {إنها عليهم مؤصدة} أي مطبقة مغلقة, ويقال: وصيد وأصيد, ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب, قال ابن جريج: يحرس عليهم الباب, وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم, وكان جلوسه خارج الباب, لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب, كما ورد في الصحيح ولا صورة ولا جنب ولا كافر, كما ورد به الحديث الحسن, وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال, وهذا فائدة صحبة الأخبار, فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. وقد قيل: إنه كان كلب صيد لأحدهم, وهو الأشبه, وقيل: كلب طباخ الملك, وقد كان وافقهم على الدين وصحبه كلبه, فالله أعلم.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة همام بن الوليد الدمشقي: حدثنا صدقة بن عمر الغساني, حدثنا عباد المنقري, سمعت الحسن البصري يقول: كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرير, واسم هدهد سليمان عليه السلام عنقز, واسم كلب أصحاب الكهف قطمير, واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه بهموت, وهبط آدم عليه السلام بالهند, وحواء بجدة, وإبليس بدست بيسان, والحية بأصفهان, وقد تقدم عن شعيب الجبائي أنه سماه حمران, واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها, بل هي مما ينهى عنه, فإن مستندها رجم بالغيب.
وقوله تعالى: {لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعب} أي أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر, لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس, حتى يبلغ الكتاب أجله, وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم, لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة.

** وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـَذِهِ إِلَىَ الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيّهَآ أَزْكَىَ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطّفْ وَلاَ يُشْعِرَنّ بِكُمْ أَحَداً * إِنّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوَاْ إِذاً أَبَداً
يقول تعالى كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبصارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئاً وذلك بعد ثلثمائة سنة وتسع سنين, ولهذا تساءلوا بينهم {كم لبثتم} أي كم رقدتم ؟ {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار, واستيقاظهم كان في آخر نهار, ولهذا استدركوا فقالوا: {أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} أي الله أعلم بأمركم, وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم, فالله أعلم, ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك, وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب, فقالوا: {فابعثوا أحدكم بورقكم} أي فضتكم هذه, وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها, فتصدقوا منها وبقي منها, فلهذا قالوا: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة} أي مدينتكم التي خرجتم منها, والألف واللام للعهد {فلينظر أيها أزكى طعام} أي أطيب طعاماً. كقوله: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبد} وقوله: {قد أفلح من تزكى} ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره, وقيل: أكثر طعاماً, ومنه زكا الزرع إذا كثر, قال الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثةوالسبع أزكى من ثلاث وأطيب
والصحيح الأول, لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال سواء كان كثيراً أو قليلاً. وقوله {وليتلطف} أي في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه, يقولون: وليختف كل ما يقدر عليه {ولا يشعرن} أي ولا يعلمن {بكم أحداً * إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم} أي إن علموا بمكانكم {يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم} يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم, فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها, أو يموتوا, وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الاَخرة, ولهذا قال: {ولن تفلحوا إذاً أبد}.