تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 294 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 294

293

ثم عطف عليها قضية خاصة هي بعض جزئيات تلك الكلية، تنبيهاً على كونها أعظم جزئيات تلك الكلية. فأفاد ذلك أن نسبة الولد إلى الله سبحانه أقبح أنواع الكفر 5- "ما لهم به من علم" أي بالولد، أو اتخاذ الله إياه، و "من" مزيدة لتأكيد النفي، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة، والمعنى: ما لهم بذلك علم أصلاً "ولا لآبائهم" علم، بل كانوا في زعمهم هذا على ضلالة، وقلدهم أبناؤهم فضلوا جميعاً "كبرت كلمة تخرج من أفواههم" انتصاب "كلمة" على التمييز، وقرئ بالرفع على الفاعلية. قال الفراء: كبرت تلك الكلمة كلمة. وقال الزجاج: كبرت مقالتهم كلمة، والمراد بهذه الكلمة هي قولهم اتخذ الله ولداً. ثم وصف الكلمة بقوله: "تخرج من أفواههم" وفائدة هذا الوصف استعظام اجترائهم على التفوه بها، والخارج من الفم وإن كان هو مجرد الهوى، لكن لما كانت الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهوى أسند إلى الحال ما هو من شأن المحل. ثم زاد في تقبيح ما وقع منهم فقال: "إن يقولون إلا كذباً" أي ما يقولون إلا كذباً لا مجال للصدق فيه بحال.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: 6- "فلعلك باخع نفسك على آثارهم" قال الأخفش والفراء: البخع الجهد. وقال الكسائي: بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة، وبخع الرجل نفسه إذا نهكها. وقال أبو عبيدة: معناه مهلك نفسك، ومنه قول ذي الرمة: ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه فيكون المعنى على هذه الأقوال لعلك مجهد نفسك أو مضعفها أو مهلكها "على آثارهم" على فراقهم ومن بعد توليهم وإعراضهم "إن لم يؤمنوا بهذا الحديث" أي القرآن وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. وقرئ بفتح أن: أي لأن لم يؤمنوا "أسفاً" أي غيظاً وحزناً وهو مفعول له أو مصدر في موضع الحال كذا قال الزجاج.
7- "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها" هذه الجملة استئناف. والمعنى: إنا جعلنا ما على الأرض مما يصلح أن يكون زينة لها من الحيوانات والنبات والجماد كقوله سبحانه: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً" وانتصاب زينة على أنها مفعول ثان لجعل، واللام في "لنبلوهم أيهم أحسن عملاً" متعلقة بجعلنا، وهي إما للغرض أو للعاقبة، والمراد بالابتلاء أنه سبحانه يعاملهم معاملة لو كانت تلك المعاملة من غيره لكانت من قبيل الابتلاء والامتحان. وقال الزجاج "أيهم" رفع بالابتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى: لنمتحن أهذا أحسن عملاً أم ذاك؟ قال الحسن: أيهم أزهد، وقال مقاتل: أيهم أصلح فيما أوتي من العلم.
ثم أعلم سبحانه أنه مبيد لذلك كله ومفنيه فقال: 8- "وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً" أي لجاعلون ما عليها من هذه الزينة عند تناهي عمر الدنيا صعيداً تراباً. قال أبو عبيدة: الصعيد المستوي من الأرض. وقال الزجاج: هو الطريق الذي لا نبات فيه. قال الفراء: الجرز الأرض التي لا نبات فيها، ومن قولهم: امرأة جرزاً إذا كانت أكولاً، وسيفاً جرزاً إذا كان مستأصلاً، وجرز الجراد والشاة والإبل الأرض إذا أكلت ما عليها. قال ذو الرمة: طوى النحز والاجراز ما في بطونها ومعنى النظم لا تحزن يا محمد مما وقع من هؤلاء من التكذيب فإنا قد جعلنا ما على الأرض زينة لاختبار أعمالهم، وإنا لمذهبون ذلك عند انقضاء عمر الدنيا فمجازوهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب" الآية قال: أنزل الكتاب عدلاً قيماً "ولم يجعل له عوجاً" ملتبساً. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك "قيماً" قال: مستقيماً. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة "من لدنه" أي من عنده. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي "حسناً" يعني الجنة "وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً" قال: هم اليهود والنصارى وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأبو البحتري في نفر من قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه، وإنكارهم ما جاء به من النصيحة، فأحزنه حزناً شديداً، فأنزل الله سبحانه: "فلعلك باخع نفسك". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه "باخع نفسك" يقول: قاتل نفسك. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "أسفاً" قال: جزعاً. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة "أسفاً" قال: حزناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها" قال: الرجال. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير من قوله مثله. وأخرج أبو نصر السجزي في الإبانة من طريق مجاهد عن ابن عباس في الآية قال: العلماء زينة الأرض. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: هم الرجال العباد العمل لله بالطاعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر قال:" تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "لنبلوهم أيهم أحسن عملاً" فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرعكم في طاعة الله". وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: ليختبرهم "أيهم أحسن عملاً" قال: أيهم أتم عقلاً. وأخرج عن الحسن "أيهم أحسن عملاً" قال: أشدهم للدنيا تركاً، وأخرج أيضاً عن الثوري قال: أزهدهم في الدنيا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً" قال: يهلك كل شيء ويبيد. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: الصعيد التراب والجبال التي ليس فيها زرع. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: يعني بالجرز الخراب.
قوله: 9- "أم حسبت" أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة عند الجمهور، وببل وحدها عند بعضهم والتقدير: بل أحسبت، أو بل حسبت، ومعناها الانتقال من حديث إلى حديث آخر، لا لإبطال الأول والإضراب عنه كما هو معنى بل في الأصل. والمعنى: أن القوم لما تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول على سبيل الامتحان، قال سبحانه: بل أظننت يا محمد أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط؟ لا تحسب ذلك فإن آياتنا كلها عجب، فإن من كان قادراً على جعل ما على الأرض زينة لها للابتلاء، ثم جعل ما عليها صعيداً جرزاً كأن لم تغن بالأمس، لا تستبعد قدرته وحفظه ورحمته بالنسبة إلى طائفة مخصوصة، وإن كانت قصتهم خارقة للعادة، فإن آيات الله سبحانه كذلك وفوق ذلك. و "عجباً" منتصبة على أنه خبر كان: أي ذات عجب، أو موصوفة بالعجب مبالغة، ومن آياتنا في محل نصب على الحال.
و 10- "إذ أوى الفتية" ظرف لحسبت أو لفعل مقدر، وهو اذكر: أي صاروا إليه وجعلوه مأواهم، والفتية هم أصحاب الكهف، والكهف هو الغار الواسع في الجبل. فإن كان صغيراً سمي غاراً، والرقيم قال كعب والسدي: إنه اسم القرية التي خرج منها أصحاب الكهف. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: إنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف. قال الفراء: ويروى أنه إنما سمي رقيماً لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه. والرقم الكتابة. وروي مثل ذلك عن ابن عباس. ومنه قول العجاج في أرجوزة له: ومستقري المصحف الرقيم وقيل إن الرقيم اسم كلبهم، وقيل هو اسم الوادي الذي كانوا فيه، وقيل اسم الجبل الذي فيه الغار. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله، لأن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصة أصحاب الكهف "فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة" أي من عندك، ومن ابتدائية متعلقة بآتنا، أو لمحذوف وقع حالاً، والتنوين في رحمة إما للتعظيم أو للتنويع، وتقديم من لدنك للاختصاص: أي رحمة مختصة بأنها من خزائن رحمتك، وهي المغفرة في الآخرة والأمن من الأعداء، والرزق في الدنيا "وهيئ لنا من أمرنا رشداً" أي أصلح لنا، من قولك هيأت الأمر فتهيأ، والمراد بأمرهم الأمر الذي هم عليه وهو مفارقتهم للكفار، والرشد نقيض الضلال، ومن للابتداء، ويجوز أن تكون للتجريد كما في قولك رأيت منك رشداً: وتقديم المجرورين للاهتمام بهما.
11- "فضربنا على آذانهم" قال المفسرون: أنمناهم. والمعنى: سددنا آذانهم بالنوم الغالب على سماع الأصوات، والمفعول محذوف: أي ضربنا على آذانهم الحجاب تشبيهاً للإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها، و "في الكهف" ظرف لضربنا، وانتصاب "سنين" على الظرفية، و "عدداً" صفة لسنين: أي ذوات عدد على أنه مصدر أو بمعنى معدودة على أنه لمعنى المفعول، ويستفاد من وصف السنين بالعدد الكثرة. قال الزجاج: إن الشيء إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى العدد، وإن كثر احتاج إلى أن يعد وقيل يستفاد منه التقليل لأن الكثير قليل عند الله "وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون".
12- "ثم بعثناهم" أي أيقظناهم من تلك النومة "لنعلم" أي ليظهر معلومنا، وقرئ بالتحتية مبنياً للفاعل على طريقة الالتفات، و "أي الحزبين" مبتدأ معلق عنه العلم لما في أي من الاستفهام، وخبره "أحصى" وهو فعل ماض، قيل والمراد بالعلم الذي جعل علة للبعث هو الاختبار مجازاً فيكون المعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم، والاولى ما ذكرناه من أن المراد به ظهور معلوم الله سبحانه لعباده، والمراد بالحزبين الفريقان من المؤمنين والكافرين من أصحاب الكهف المختلفين في مدة لبثهم. ومعنى أحصي أضبط، وكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف، فبعثهم الله ليتبين لهم ذلك، ويظهر من ضبط الحساب ممن لم يضبطه، وما في "لما لبثوا" مصدرية: أي أحصى للبثهم، وقيل اللام زائدة، وما بمعنى الذي، و "أمداً" تمييز، والأمد الغاية، وقيل إن أحصى أفعل تفضيل. ورد بأنه خلاف ما تقرر في علم الإعراب، وما ورد من الشاذ لا يقاس عليه كقولهم: أفلس من ابن المذلق، وأعدى من الجرب. وأجيب بأن أفعل التفضيل من المزيد قياس مطرد عنه سيبويه وابن عصفور، وقيل إن الحزبين هم أصحاب الكهف اختلفوا بعد انتباههم كم لبثوا، وقيل إن أصحاب الكهف حزب وأصحابهم حزب. وقال الفراء: إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم.
13- "نحن نقص عليك نبأهم بالحق" هذا شروع في تفصيل ما أجمل في قوله: "إذ أوى الفتية" أي نحن نخبرك بخبرهم بالحق أي قصصناه بالحق، أو متلبساً بالحق "إنهم فتية" أي أحداث شبان، و " آمنوا بربهم " صفة لفتية والجملة مستأنفة بتقدير سؤال، والفتية جمع قلة، و "زدناهم هدىً" بالتثبيت والتوفيق وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.
14- "وربطنا على قلوبهم" أي قويناها بالصبر على هجر الأهل والأوطان، وفراق الخلان والأخدان "إذ قاموا" الظرف منصوب بربطنا. واختلف أهل التفسير في هذا القيام على أقوال: فقيل إنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد، فقال رجل منهم هو أكبر القوم: إني لأجد في نفسي شيئاً، إن ربي رب السموات والأرض، فقالوا: ونحن أيضاً كذلك نجد في أنفسنا، فقاموا جميعاً "فقالوا ربنا رب السموات والأرض" قاله مجاهد. وقال أكثر المفسرين: إنه كان لهم ملك جبار يقال له دقيانوس، وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت، فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه "فقالوا ربنا رب السموات والأرض" وقال عطاء ومقاتل إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم "لن ندعوا من دونه إلهاً" أي لن نعبد معبوداً آخر غير الله لا اشتراكاً ولا استقلالاً "لقد قلنا إذاً شططاً" أي قولاً ذا شطط، أو قولاً هو نفس الشطط لقصد المبالغة بالوصف بالمصدر، واللام هي الموطئة للقسم، والشطط الغلو ومجاوزة الحد. قال أعشى بن قيس: أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
15- "هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة" هؤلاء مبتدأ، وخبره اتخذوا، وقومنا عطف بيان، وفي هذا الإخبار معنى للإنكار، وفي الإشارة إليهم تحقير لهم "لولا يأتون عليهم بسلطان بين" أي هلا يأتون بحجة ظاهرة تصلح للتمسك بها "فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً" فزعم أن له شريكاً في العبادة: أي لا أحد أظلم منه.