تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 303 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 303

302

ثم شرع سبحاغنه في بيان ما أمر به رسوله أن يقوله لهم من أنه سيتلو عليهم منه ذكراً فقال: 84- "إنا مكنا له في الأرض" أي أقدرناه بما مهدنا له من الأسباب، فجعلنا له مكنة وقدرة على التصرف فيها، وسهل عليه المسير في مواضعها، وذلل له طرقها حتى تمكن منها أين شاء وكيف شاء؟ ومن جملة تمكينه فيها أنه جعل له الليل والنهار سواء في الإضاءة "وآتيناه من كل شيء" مما يتعلق بمطلوبه "سبباً" أي طريقاً يتوصل بها إلى ما يريده.
85- "فأتبع سبباً" من تلك الأسباب. قال المفسرون: والمعنى طريقاً تؤديه إلى مغرب الشمس. قال الزجاج: فأتبع سبباً من الأسباب التي أوتي، وذلك أنه أوتي من كل شيء سبباً فأتبع من تلك الأسباب التي أوتي سبباً في المسير إلى المغرب، وقيل أتبع من كل شيء علماً يتسبب به إلى ما يريد، وقيل بلاغاً إلى حيث أراد، وقيل من كل شيء يحتاج إليه الخلق، وقيل من كل شيء تستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء. وأصل السبب الحبل فاستعين لكل ما يتوصل به إلى شيء. قرأ ابن عامر وأهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي "فأتبع" بقطع الهمزة، وقرأ أهل المدينة وأهل مكة وأبو عمرو بوصلها. قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى، مثل ردفته وأردفته، ومنه قوله: "فأتبعه شهاب ثاقب" قال النحاس: واختار أبو عبيدة قراءة أهل الكوفة، قال لأنها من السير. وحكى هو والأصمعي أنه يقال: تبعته وأتبعته إذا سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه. قال أبو عبيدة: ومثله "فأتبعوهم مشرقين". قال النحاس: وهذا من الفرق وإن كان الأصمعي قد حكاه فلا يقبل إلا بعلم أو دليل، وقوله عز وجل: " فأتبعوهم مشرقين " ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث لما خرج موسى وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه في البحر انطبق عليهم البحر. والحق في هذا أن تبع واتبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهو بمعنى السير.
86- "حتى إذا بلغ مغرب الشمس" أي نهاية الأرض من جهة المغرب، لأن من وراء هذه النهاية البحر المحيط، وهو لا يمكن المضي فيه "وجدها تغرب في عين حمئة" قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي "حامية": أي حارة. وقرأ الباقون "حمئة" أي كثيرة الحمأة، وهي الطينة السوداء، تقول: حمئت البئر حمأ بالتسكين إذا نزعت حمأتها، وحمأت البئر حمأتها بالتحريك كثرت حمأتها، ويجوز أن تكون حامية من الحمأة، فخففت الهمزة وقلبت ياء، وقد يجمع بين القراءتين فيقال كانت حارة وذات حمأة. قيل ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك في نظره، ولا يبعد أن يقال لا مانع من أن يمكنه الله من عبور البحر المحيط حتى يصل إلى تلك العين التي تغرب فيها الشمس، وما المانع من هذا بعد أن حكى الله عنه أنه بلغ مغرب الشمس، ومكن له في الأرض والبحر من جملتها، ومجرد الاستبعادلا يوجب حمل القرآن على خلاف ظاهره "ووجد عندها قوماً" الضمير في عندها إما للعين أو للشمس. قيل هم قوم لباسهم جلود الوحش، وكانوا كفاراً، فخيره الله بين أن يعذبهم وبين أن يتركهم، فقال: "إما أن تعذب، وإما أن تتخذ فيهم حسناً" أي إما أن تعذبهم بالقتل من أول الأمر، وإما أن تتخذ فيهم أمراً ذا حسن أو أمراً حسناً مبالغة بجعل المصدر صفة للأمر والمراد دعوتهم إلى الحق وتعليمهم الشرائع.
87- "قال" ذو القرنين مختاراً للدعوة التي هي الشق الأخير من الترديد "أما من ظلم" نفسه بالإصرار على الشرك ولم يقبل دعوتي "فسوف نعذبه" بالقتل في الدنيا "ثم يرد إلى ربه" في الآخرة "فيعذبه" فيها "عذاباً نكراً" أي منكراً فظيعاً. قال الزجاج: خيره الله بين الأمرين. قال النحاس: ورد علي بن سليمان قوله لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا، فكيف يقول لربه عز وجل "ثم يرد إلى ربه" وكيف يقول "فسوف نعذبه" فيخاطبه بالنون، قال: والتقدير قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين. قال النحاس: وهذا الذي ذكره لا يلزم لجواز أن يكون الله عز وجل خاطبه على لسان نبي في وقته، وكأن ذا القرنين خاطب أولئك القوم فلا يلزم ما ذكره. ويمكن أن يكون مخاطباً للنبي الذي خاطبه الله على لسانه، أو خاطب قومه الذين وصل بهم إلى ذلك الموضع. قال ثعلب: إن في قوله: "إما أن تعذب وإما أن تتخذ" في موضع نصب، ولو رفعت لكان صواباً بمعنى فأما هو كقول الشاعر: فسيروا فإما حاجة تقضيانها وإما مقيل صالح وصديق
88- "وأما من آمن" بالله وصدق دعوتي "وعمل" عملاً "صالحاً" مما يقتضيه الإيمان "فله جزاء الحسنى" قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم وابن كثير وابن عامر "فله جزاء" بالرفع على الابتداء: أي جزاء الخصلة الحسنى عند الله، أو الفعلة الحسنى وهي الجنة قاله الفراء. وإضافة الجزاء إلى الحسنى التي هي الجنة كإضافة حق اليقين ودار الآخرة، ويجوز أن يكون هذا الجزاء من ذي القرنين: أي أعطيه وأتفضل عليه، وقرأ سائر الكوفيين "فله جزاءً الحسنى" بنصب جزاء وتنوينه. قال الفراء: انتصابه على التمييز. وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال أي مجزياً بها جزاء، وقرأ ابن عباس ومسروق بنصب "جزاء" من غير تنوين. قال أبو حاتم: هي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين. قال النحاس: وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين. وقرئ برفع "جزاء" منوناً على أنه مبتدأ، والحسنى بدل منه والخبر الجار والمجرور "وسنقول له من أمرنا يسراً" أي مما نأمر به قولاً ذا يسر ليس بالصعب الشاق، أو أطلق عليه المصدر مبالغة.
89- "ثم أتبع سبباً" أي طريقاً آخر غير الطريق الأولى وهي التي رجع بها من المغرب وسار فيها إلى المشرق.
90- "حتى إذا بلغ مطلع الشمس" أي الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولاً من معمور الأرض، أو مكان طلوعها لعدم المانع شرعاً ولا عقلاً من وصوله إليه كما أوضحناه فيما سبق "وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً" يسترهم، لا من البيوت ولا من اللباس، بل هم حفاة عراة لا يأوون إلى شيء من العمارة. قيل لأنهم بأرض لا يمكن أن يستقر عليها البناء.
91- "كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً" أي كذلك أمر ذي القرنين أتبع هذه الأسباب حتى بلغ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به، وقيل المعنى: لم نجعل لهم ستراً مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية والثياب، وقيل المعنى: كذلك بلغ مطلع الشمس مثل ما بلغ من مغربها، وقيل المعنى: كذلك تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم، فقضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين، ويكون تأويل الإحاطة بما لديه في هذه الوجوه على ما يناسب ذلك كما قلنا في الوجه الأول. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين، إنك سمعت ذكرهم منا، فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد، قال: ومن هو؟ قالوا ذو القرنين، قال: ما بلغني عنه شيء، فخرجوا فرحين قد غلبوا في أنفسهم، فلم يبلغوا باب البيت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات "ويسألونك عن ذي القرنين". وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري أتبع كان نبياً أم لا؟ وما أدري أذو القرنين كان نبياً أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟". وأخرج ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال: سئل علي عن ذي القرنين أنبي هو؟ قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "هو عبد ناصح الله فنصحه". وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن أبي عاصم في السنة وابن مردويه من طريق أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل علي بن أبي طالب عن ذي القرنين أنبياً كان أم ملكاً؟ قال: لم يكن نبياً ولا ملكاً. ولكن كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصحه الله، بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه فمات، ثم أحياه الله لجهادهم. ثم بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه الآخر فمات. فأحياه الله لجهادهم، فلذلك سمي ذا القرنين، وإن فيكم مثله. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمرو قال: ذو القرنين نبي. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأخرص بن حكيم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال: هو ملك مسح الأرض بالأسباب. وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن خالد بن معدان الكلاعي مرفوعاً مثله. وأخرج ابن عبد الحكم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب أنه سمع رجلاً ينادي بمنى يا ذا القرنين، فقال عمر: ها أنتم قد سمعتم بأسماء الأنبياء فما بالكم وأسماء الملائكة؟ وفي الباب غير ما ذكرناه مما يغني عنه ما قد أوردناه. وقد أخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر الجهني حديثاً يتضمن أن نفراً من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء، وكان فيما أخبرهم به أنه كان شاباً من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك في السماء، وذهب به إلى السد، وإسناده ضعيف، وفيه متنه نكارة، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل. ذكر معنى هذا ابن كثير في تفسيره وعزاه إلى ابن جرير والأموي في مغازيه، ثم قال بعد ذلك: والعجب أن أبا زرعة الداري مع جلالة قدره ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة انتهى. وقد ساقه بتمامه السيوطي في الدر المنثور، وساق أيضاً خبراً طويلاً عن وهب بن منبه وعزاه إلى ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والشيرازي في الألقاب وأبي الشيخ، وفيه أشياء منكرة جداً، وكذلك ذكر خبراً طويلاً عن محمد الباقر أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، ولعل هذه الأخبار ونحوها منقولة عن أهل الكتاب، وقد أمرنا بأن لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما ينقلونه إلينا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وآتيناه من كل شيء سبباً" قال: علماً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار: أنت تقول إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا، قال له كعب: إن كنت قلت ذلك فإن الله قال: "وآتيناه من كل شيء سبباً". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاصر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف تغرب في عين حامية قال ابن عباس: فقلت لمعاوية ما نقرأها إلا "حمئة" فسأل معاوية عبد بن عمرو كيف تقرؤها؟ فقال عبد الله: كما قرأتها، قال ابن عباس: فقلت لمعاوية: في بيتي نزل القرآن، فأرسل إلى كعب، فقال له: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب: سل أهل العربية فإنهم أعلم بها، وأما أنا فإني أجد في التوراة في ماء وطين، وأشار بيده إلى المغرب. قال ابن أبي حاصر: لو أني عندكما أيدتك بكلام تزداد به بصيرة في حمئة. قال ابن عباس: وما هو؟ قلت: فيما نأثر قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم واتباعه إياه: قد كان ذو القرنين عمر مسلما ملكاً تذل له الملوك وتحشد فأتى المشارق والمغارب يبتغي أسباب ملك من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثاط خرمد فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم، قال: فما الثاط؟ قلت: الحمأة. قال: فما الخرمد؟ قلت: الأسود، فدعا ابن عباس غلاماً فقال: اكتب ما يقول هذا الرجل. وأخرج الترمذي وأبو داود الطيالسي وابن جرير وابن المنذر عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في عين حمئة". وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً مثله.
ثم حكى سبحانه سفر ذي القرنين إلى ناحية أخرى، وهي ناحية القطر الشمالي بعد تهيئة أسبابه فقال: 92- "ثم أتبع سبباً" أي طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق والمغرب.
93- "حتى إذا بلغ بين السدين" قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص وابن محيصن ويحيى اليزيدي وأبو زيد عن المفضل بفتح السين. وقرأ الباقون بضمها. قال أبو عبيدة وابن الأنباري وأبو عمرو بن العلاء: السد إن كان بخلق الله سبحانه فهو بضم السين حتى يكون بمعنى مفعول: أي هو مما فعله الله وخلقه، وإن كان من عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثاً. وقال ابن الأعرابي: كل ما قابلك فسد ما وراءه فهو سد وسد نحو الضعف والضعف، والفقر والفقر، والسدان هما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان، وانتصاب بين على أنه مفعول به كما ارتفع بالفاعلية في قوله: "لقد تقطع بينكم". وقيل موضع بين السدين هو منقطع أرض الترك مما يلي المشرق لا جبلا أرمينية وأذربيجان، وحكى ابن جرير في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً من ناحية الجزر فشاهده، ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع، و "وجد من دونهما" أي من ورائهما مجازاً عنهما، وقيل أمامهما "قوماً لا يكادون يفقهون قولاً" قرأ حمزة والكسائي "يفقهون" بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان: أي لا يبينون لغيرهم كلاماً، وقرأ الباقون بفتح الياء والقاف: أي لا يفهمون كلام غيرهم، والقراءتان صحيحتان، ومعناهما لا يفهمون عن غيرهم ولا يفهمون غيرهم، لأنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم.
94- "قالوا" أي هؤلاء القوم الذين لا يفهمون قولاً، قيل إن فهم ذي القرنين لكلامهم من جملة الأسباب التي أعطاه الله، وقيل إنهم قالوا ذلك لترجمانهم، فقال لذي القرنين بما قالوا له: "يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض" يأجوج ومأجوج اسمان عجميان بدليل منع صرفهما، وبه قال الأكثر. وقيل مشتقان من أج الظليم في مشيه إذا هرول، وتأججت النار إذا تلهبت، قرأهما الجمهور بغير همز، وقرأ عاصم بالهمز. قال ابن الأنباري: وجه همزهما وإن لم يعرف له أصل أن العرب قد همزت حروفاً لا يعرف للهمز فيها أصل كقولهم: كبأث ورثأت واستشأت الريح. قال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين، فيمن همز فهو على وزن يفعول مثل يربوع، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفاً مثل راس. وأما مأجوج، فهو مفعول من أج، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق. قال: وترك الصرف فيهما على تقدير كونهما عربيين للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة. واختلف في نسبهم، فقيل هم من ولد يافث بن نوح، وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم. وقال كعب الأحبار: احتلم آدم فاختلط ماؤه بالتراب فخلقوا من ذلك الماء. قال القرطبي: وهذا فيه نظر، لأن الأنبياء لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، كذلك قال مقاتل وغيره. وقد وقع الخلاف في صفتهم، فمن الناس من يصفهم بصغر الجثث وقصر القامة، ومنهم من يصفهم بكبر الجثث وطول القامة، ومنهم من يقول لهم مخالب كمخالب السباع، وإن منهم صنفاً يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، ولأهل العلم من السلف ومن بعدهم أخبار مختلفة في صفاتهم وأفعالهم. واختلف في إفسادهم في الأرض، فقيل هو أكل بني آدم، وقيل هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد، وقيل كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء القوم الذين شكوهم إلى ذي القرنين في أيام الربيع فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه "فهل نجعل لك خرجاً" هذا الاستفهام من باب حسن الأدب مع ذي القرنين. وقرئ خراجاً. قال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة ويقع على مال الفيء، ويقع على الجزية وعلى الغلة. والخراج أيضاً اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال، والخرج المصدر. وقال قطرب: الخرج الجزية والخراج في الأرض، وقيل الخرج ما يخرجه كل أحد من ماله، والخراج ما يجيبه السلطان، وقيل هما بمعنى واحد "على أن تجعل بيننا وبينهم سداً" أي ردماً حاجزاً بيننا وبينهم. وقرئ سداً بفتح السين. قال الخليل وسيبويه: الضم هو الاسم، والفتح المصدر. وقال الكسائي: الفتح والضم لغتان بمعنى واحد، وقد سبق قريباً ما حكيناه عن أبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة وابن الأنباري من الفرق بينهما. وقال ابن أبي إسحاق: ما رأته عيناك فهو ساد بالضم، وما لا ترى فهو سد بالفتح، وقد قدمنا بيان من قرأ بالفتح وبالضم في السدين.
95- "قال ما مكني فيه ربي" أي قال لهم ذو القرنين: ما بسطه الله لي من القدرة والملك "خير" من خرجكم، ثم طلب منهم المعاونة له فقال: "فأعينوني بقوة" أي برجال منكم يعملون بأيديهم، أو أعينوني بآلات البناء، أو بمجموعهما. قال الزجاج: بعمل تعملونه معي. قرأ ابن كثير وحده " ما مكني " بنونين، وقرأ الباقون بنون واحدة " أجعل بينكم وبينهم ردما " هذا جواب الأمر، والردم: ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل. قال الهروي: يقال ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردماً: أي سددتها، والردم أيضاً الاسم، وهو السد، وقيل الردم أبلغ من السد، إذ السد كل ما يسد به، والردم: وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوهما حتى يقوم من ذلك حجاب منيع، ومنه ردم ثوبه: إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض، ومنه قول عنترة: هل غادر الشعراء من متردم أي من قول يركب بعضه على بعض.
96- "آتوني زبر الحديد" أي أعطوني وناولوني، وزبر الحديد جمع زبرة، وهي القطعة. قال الخليل: الزبرة من الحديد القطعة الضخمة. قال الفراء: معنى "آتوني زبر الحديد" إئتوني بها فلما ألقيت الياء زيدت ألفاً، وعلى هذا فانتصاب زبر بنزع الخافض "حتى إذا ساوى بين الصدفين" والصدفان: جانبا الجبل. قال الأزهري: يقال لجانبي الجبل صدفان إذا تحاذيا لتصادفهما: أي تلاقيهما، وكذا قال أبو عبيدة والهروي. قال الشاعر: كلا الصدفين ينفده سناها توقد مثل مصباح الظلام وقد يقال لكل بناء عظيم مرتفع صدف، قاله أبو عبيدة، قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص الصدفين بفتح الصاد والدال. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب واليزيدي وابن محيصن بضم الصاد والدال. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ ابن الماجشون بفتح الصاد وضم الدال، واختار القراءة الأولى أبو عبيد لأنها أشهر اللغات، ومعنى الآية: أنهم أعطوه زبر الحديد، فجعل بيني بها بين الجبلين حتى ساواهما "قال انفخوا" أي قال للعملة انفخوا على هذه الزبر بالكيران "حتى إذا جعله ناراً" أي جعل ذلك المنفوخ فيه، وهو الزبر ناراً: أي كالنار في حرها وإسناد الجعل إلى ذي القرنين مجاز لكونه الآمر بالنفخ. قيل كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة ثم يوقد عليها الحطب والفحم وبالمنافخ حتى تحمى، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار، ثم يؤتى بالنحاس المذاب فيفرغه على تلك الطاقة، وهو معنى قوله: "قال آتوني أفرغ عليه قطراً" قال أهل اللغة: القطر النحاس الذائب، والإفراغ: الصب، وكذا قال أكثر المفسرين. وقالت طائفة: القطر الحديد المذاب. وقالت فرقة أخرى منهم ابن الأنباري: هو الرصاص المذاب.
97- "فما اسطاعوا" أصله استطاعوا، فلما اجتمع المتقاربان، وهما التاء والطاء خففوا بالحذف. قال ابن السكيت: يقال ما أستطيع، وما أسطيع، وما أستيع. وبالتخفيف قرأ الجمهور، وقرأ حمزة وحده "فما اسطاعوا" بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا فأدغم التاء في الطاء وهي قراءة ضعيفة الوجه، قال أبو علي الفارسي: هي غير جائزة. وقرأ الأعمش فما استطاعوا على الأصل، ومعنى "أن يظهروه" أن يعلوه: أي فما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوا على ذلك الردم لارتفاعه وملاسته "وما استطاعوا له نقباً" يقال نقبت الحائط: إذا خرقت فيه خرقاً فخلص إلى ما وراءه. قال الزجاج: ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وانملاسه، وما استطاعوا أن ينقبوه من أسفله لشدته وصلابته.