تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 32 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 32

031

قوله: 203- "في أيام معدودات" قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيم منى وهي أيام التشريق، وهي أيام رمي الجمار. وقال الثعلبي: قال إبراهيم: الأيام المعدودات أيام العشر، والأيام المعلومات أيام النحر. وكذا روي عن مكي والمهدوي. قال القرطبي: ولا يصح لما ذكرناه من الإجماع على ما نقله أبو عمر بن عبد البر وغيره. وروى الطحاوي عن أبي يوسف أن الأيام المعلومات أيام النحر، قال: لقوله تعالى: " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " وحكى الكرخي عن محمد بن الحسن أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة: يوم الأضحى، ويومان بعده. قال الكيا الطبري: فعلى قول أبي يوسف ومحمد لا فرق بين المعلومات والمعدودات، لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق بلا خلاف. وروي عن مالك أن الأيام المعدودات والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام، يوم النحر، وثلاثة أيام بعده، فيوم النحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم، وهو مروي عن ابن عمر. وقال ابن زيد: الأيام المعلومات: غير ذي الحجة، وأيام التشريق. والمخاطب بهذا الخطاب المذكور في الآية، أعني قوله تعالى: "واذكروا الله في أيام معدودات" هو الحاج وغيره كما ذهب إليه الجمهور، وقيل: هو خاص بالحاج. وقد اختلف أهل العلم في وقته، فقيل: من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، وقيل: من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر النحر، وبه قال أبو حنيفة، وقيل: من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال مالك والشافعي. قوله: "فمن تعجل" الآية، اليومان هما يوم ثاني النحر ويوم ثالثه. وقال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والنخعي: من رمى في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج، فمعنى الآية كل ذلك مباح، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماماً وتأكيداً، لأن من العرب من كان يذم التعجل، ومنهم من كان يذم التأخر، فنزلت الآية رافعة للنجاح في كل ذلك. وقال علي وابن مسعود: معنى الآية: من تعجل فقد غفر له، ومن تأخر فقد غفر له، والآية قد دلت على أن التعجل والتأخر مباحان. وقوله: "لمن اتقى" معناه أن التخيير ورفع الإثم ثابت لمن اتقى، لأن صاحب التقوى يتحرز عن كل ما يريبه، فكان أحق بتخصيصه بهذا الحكم. قال الأخفش: التقدير ذلك لمن اتقى، وقيل: لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي، وقيل: لمن اتقى قتل الصيد، وقيل معناه: السلامة لمن اتقى، وقيل هو متعلق بالذكر: أي الذكر لمن اتقى. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: "كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"". وأخرجا أيضاً عنها موقوفاً نحوه. وقد ورد في هذا المعنى روايات عن الصحابة والتابعين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى سماء الدنيا في الملائكة، فيقول لهم: عبادي آمنوا بوعدي وصدقوا برسلي ما جزاؤهم؟ فيقال: أن تغفر لهم، فذلك قوله: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم". وقد وردت أحاديث كثيرة في المغفرة لأهل عرفة، ونزول الرحمة عليهم، وإجابة دعائهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله تعالى: "فإذا قضيتم مناسككم" قال: حجكم . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : " فإذا قضيتم مناسككم " قال : إهراق الدماء "فاذكروا الله كذكركم آباءكم" قال: تفاخر العرب بينها بفعال آبائها يوم النحر حين يفرغون، فأمروا بذكر الله مكان ذلك. وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: كان المشركون يجلسون في الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع، فأنزل الله على رسوله: "فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً". وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن عبد الله بن الزبير نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير وعكرمة نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "كذكركم آباءكم" يقول: كما يذكر الأبناء الآباء. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضاً أنه قيل له في قوله: "كذكركم آباءكم" إن الرجل ليأتي عليه اليوم وما يذكر أباه، فقال: إنه ليس بذاك، ولكن يقول: تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك إذا ذكر والدك بسوء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى المواقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً، فأنزل الله فيهم "فمن الناس من يقول: ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق" ويجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" فأنزل الله فيهم "أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب". وأخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال: كان الناس في الجاهلية إذا وقفوا عند المشعر الحرام دعوا فقال أحدهم: اللهم ارزقني إبلاً، وقال الآخر: الله ارزقني غنماً، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن جرير عن أنس أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة فيدعون: الله اسقنا المطر، وأعطنا على عدونا الظفر، وردنا صالحين إلى صالحين، فنزلت الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: "أولئك لهم نصيب مما كسبوا" قال: مما عملوا من الخير. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "سريع الحساب" قال: سريع الإحصاء. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن علي قال: الأيام المعدودات ثلاثة أيام: يوم الأضحى، ويومان بعده، اذبح في أيها شئت، وأفضلها أولها. وأخرج الفريابي وابن أبي الدنيا وابن المنذر عن ابن عمر أنها أيام التشريق الثلاثة. وفي لفظ: هذه الأيام الثلاثة بعد يوم النحر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: الأيام المعلومات أيام العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق. وأخرج الطبراني عن ابن الزبير قال في قوله: " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات " قال: هن أيام التشريق، يذكر فيهن بتسبيح وتهليل وتكبير وتحميد. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأيام المعدودات أربعة أيام: يوم النحر، والثلاثة أيام بعده. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان يكبر تلك الأيام بمنى ويقول التكبير واجب، ويتأول هذه الآية "واذكروا الله في أيام معدودات". وأخرج ابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يكبر يوم النحر ويتلو هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "واذكروا الله في أيام معدودات" قال: التكبير أيام التشريق، يقول في دبر كل صلاة: الله أكبر الله أكبر الله أكبر. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان يكبر ثلاثاً ثلاثاً وراء الصلوات ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأخرج مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر بمنى حين ارتفع النهار شيئاً، فكبر وكبر الناس بتكبيره- ثم خرج الثانية في يومه ذلك بعد ارتفاع النهار، فكبر وكبر الناس بتكبيره حتى بلغ تكبيرهم البيت، ثم خرج الثالثة من يومه ذلك حين زاغت الشمس، فكبر وكبر الناس بتكبيره. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمي الجمار ويكبر مع كل حصاة". وقد روي نحو ذلك من حديث عائشة عند الحاكم وصححه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" قال: في تعجيله "ومن تأخر فلا إثم عليه" قال: في تأخيره. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال: النفر في يومين لمن اتقى. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه قال: من غابت له الشمي في اليوم الذي قال الله فيه: "فمن تعجل في يومين" وهو بمنى فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لمن اتقى" قال: لمن اتقى الصيد وهو محرم. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأهل السنن والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بعرفة، وأتاه الناس من أهل مكة فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟ قال: "الحج عرفات، فمن أدرك ليلة جمع قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" قال: مغفوراً له "ومن تأخر فلا إثم عليه" قال: مغفوراً له". وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "لمن اتقى" قال: لمن اتقى في حجه. قال قتادة: وذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية في قوله: "فلا إثم عليه لمن اتقى" قال: ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي من عمره.
لما ذكر سبحانه طائفتي المسلمين بقوله: "فمن الناس من يقول" عقب ذلك بذكر طائفة المنافقين، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر. وسبب النزول الأخنس بن شريق كما يأتي بيانه. قال ابن عطية: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم- وقيل إنها نزلت في قوم من المنافقين، وقيل: إنها نزلت في كل من أضمر كفراً أو نفاقاً أو كذباً، وأظهر بلسانه خلافه. ومعنى قوله: 204- "يعجبك" واضح. ومعنى قوله: "ويشهد الله على ما في قلبه" أنه يحلف على ذلك فيقول: يشهد الله على ما في قلبي من محبتك أو من الإسلام، أو يقول: الله يعلم أني أقول حقاً، وأني صادق في قولي لك. وقرأ ابن محيصن: "ويشهد الله" بفتح حرف المضارعة ورفع الاسم الشريف على أنه فاعل، والمعنى: ويعلم الله منه خلاف ما قال: ومثله قوله تعالى: "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" وقراءة الجماعة أبلغ في الذم. وقرأ ابن عباس " ويشهد الله على ما في قلبه " وقرأ أبي وابن مسعود " ويشهد الله على ما في قلبه ". وقوله: "في الحياة الدنيا" متعلق بالقول، أو بيعجبك، فعلى الأول القول صادر في الحياة، وعلى الثاني الإعجاب صادر فيها. والألد: الشديد الخصومة. يقال: رجل ألد، وامرأة لداء، ولددته ألده: إذا جادلته فغلبته، ومنه قول الشاعر: وألد ذي جنف على كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل والخصام مصدر خاصم، قاله الخليل، وقيل: جمع خصم، قاله الزجاج: ككلب وكلاب، وصعب وصعاب وضخم وضخام. والمعنى: أنه أشد المخاصمين خصومة، لكثرة جداله وقوة مراجعته، وإضافة الألد إلى الخصام بمعنى في: أي ألد الخصام، أو جعل الخصام ألد على المبالغة.
وقوله: 205- "وإذا تولى" أي أدبر وذهب عنك يا محمد، وقيل: إنه بمعنى ضل وغضب، وقيل: إنه بمعنى الولاية: أي إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض. والسعي المذكور يحتمل أن يكون المراد به العمل في الفساد، وإن لم يكن فيه سعي بالقدمين، كالتدبير على المسلمين بما يضرهم، وأعمال الحيل عليهم، وكل عمل يعمله الإنسان بجوارحه أو حواسه يقال له سعي، وهذا هو الظاهر من هذه الآية. وقوله: "ويهلك" عطف على قوله: "ليفسد" وفي قراءة أبي وليهلك. وقرأه قتادة بالرفع. وروي عن ابن كثير: "ويهلك" بفتح الياء وضم الكاف ورفع الحرث والنسل، وهي قراءة الحسن وابن محيصن. والمراد بالحرث: الزرع والنسل: الأولاد، وقيل الحرث: النساء. قال الزجاج: وذلك لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ووقوع، القتال، وفيه هلاك الخلق، وقيل معناه: أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل. وأصل الحرث في اللغة: الشق، ومنه المحراث لما يشق به الأرض، والحرث: كسب المال وجمعه. وأصل النسل في اللغة: الخروج والسقوط ومنه نسل الشعر، ومنه أيضاً "إلى ربهم ينسلون"، "وهم من كل حدب ينسلون" ويقال لما خرج من كل أنثى لخروجه منها. وقوله: "والله لا يحب الفساد" يشمل كل نوع من أنواعه من غير فرق بين ما فيه فساد الدين، وما فيه فساد الدنيا.
والعزة: القوة والغلبة، من عزه يعزه: إذا غلبه، ومنه "وعزني في الخطاب"، وقيل العزة هنا: الحمية، ومنه قول الشاعر: أخذته عزة من جهله فتولى مغضباً فعل الضجر وقيل العزة هنا: المنعة وشدة النفس. ومعنى: 206- "أخذته العزة بالإثم" حملته العزو على الإثم، من قولك أخذته بكذا: إذا حملته عليه وألزمته إياه، وقيل: أخذته العزة بما يؤثمه: أي ارتكب الكفر للعزة، ومنه: "بل الذين كفروا في عزة وشقاق" وقيل الباء في قوله: "بالإثم" بمعنى اللام: أي أخذته العزة والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه، وهو النفاق، وقيل الباء بمعنى مع: أي أخذته العزة من الإثم. وقوله: "فحسبه جهنم" أي كافيه معاقبة وجزاء، كما تقول للرجل: كفاك ما حل بك، وأنت تستعظم عليه ما حل به. والمهاد جمع المهد، وهو الموضع المهيأ للنوم، ومنه مهد الصبي، وسميت جهنم مهاداً، لأنها مستقر الكفار، وقيل المعنى: أنها بدل لهم من المهاد كقوله: "فبشرهم بعذاب أليم" وقول الشاعر: تحية بينهم ضرب وجيع
207- " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد " ويشري بمعنى يبيع: أي يبيع نفسه في مرضاة الله كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومثله قوله تعالى: "وشروه بثمن بخس" وأصله الاستبدال ومنه قوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"، ومنه قول الشاعر: وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه ومنه قول الآخر: يعطي بها ثمناً فيمنعها ويقول صاحبه ألا تشرى والمرضاة: الرضا، تقول: رضي يرضى، رضا ومرضاة. ووجه ذكر الرأفة هنا أنه أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم ويثيبهم عليه، فكان ذلك رأفة بهم ولطفاً لهم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أسبت السرية التي فيها عاصم ومرثد قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذي هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهلهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم؟ فأنزل الله: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا" أي ما يظهر من الإسلام بلسانه "ويشهد الله على ما في قلبه" أنه مخالف لما يقوله بلسانه: "وهو ألد الخصام" أي ذو جدال إذا كلمك وراجعك "وإذا تولى" خرج من عندك "سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" أي لا يحب عمله ولا يرضى به "ومن الناس من يشري نفسه" الذين يشرون أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله والقيام بحقه، حتى هلكوا على ذلك: يعني هذه السرية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ومن الناس من يعجبك" الآية، قال: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقال: جئت أريد الإسلام ويعلم الله أني لصادق، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، فذلك قوله: "ويشهد الله على ما في قلبه". ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع، وعقر الحمر، فأنزل الله "وإذا تولى سعى في الأرض" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وهو ألد الخصام" قال: هو شديد الخصومة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله: "وإذا تولى سعى في الأرض" قال: عمل في الأرض "ويهلك الحرث" قال: نبات الأرض "والنسل" نسل كل شيء من الحيوان الناس والدواب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أيضاً أنه سئل عن قوله: "وإذا تولى سعى في الأرض" قال: يلي في الأرض فيعمل فيها بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطر من السماء، فتهلك بحبس القطر الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. ثم قرأ مجاهد: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: "ويهلك الحرث والنسل" قال: الحرث الزرع، والنسل: نسل كل دابة. وأخرج ابن المنذر والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله، فيقول عليك بنفسك أنت تأمرني. وأخرج ابن المنذر والبيهقي في الشعب عن سفيان قال: قال رجل لمالك بن مغول: اتق الله، فسقط فوضع خده على الأرض تواضعاً لله. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "ولبئس المهاد" قال: بئس المنزل. وأخرجا عن مجاهد قال: بئس ما شهدوا لأنفسهم. وأخرج ابن مردويه "عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج وأنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبداً، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا: نعم، فدفعت إليهم مالي فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ربح البيع صهيب مرتين". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن سعيد بن المسيب نحوه. وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي في الدلائل عن صهيب نحوه. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن أنس قال: نزلت في خروج صهيب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: هم المهاجرون والأنصار.
لما ذكر الله سبحانه أن الناس ينقسمون إلى ثلاث طوائف: مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، أمرهم بعد ذلك بالكون على ملة واحدة. وإنما أطلق على الثلاث الطوائف لفظ الإيمان لأن أهل الكتاب يؤمنون بنيهم وكتابهم، والمنافق مؤمن بلسانه وإن كان غير مؤمن بقلبه. والسلم بفتح السين وكسرها قال الكسائي: ومعناهما واحد، وكذا عند البصريين، وهما جميعاً يقعان للإسلام والمسالمة. وقال أبو عمرو بن العلاء: إنه بالفتح للمسألة، وبالكسر للإسلام. وأنكر المبرد هذه التفرقة. وقال الجوهري: السلم بفتح السين: الصلح، وتكسر ويذكر ويؤنث، وأصله من الاستسلام والانقياد. ورجح الطبري أنه هنا بمعنى الإسلام، ومنه قول الشاعر الكندى: دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرين أي إلى الإسلام. وقرأ الأعمش السلم بفتح السين واللام. وقد حكى البصريون في سلم وسلم وسلم أنها بمعنى واحد وكافة حال من المسلم أو من ضمير المؤمنين، فمعناه على الأول: لا يخرج منكم أحد، وعلى الثاني: لا يخرج من أنواع السلم شيء بل ادخلوا فيها جميعاً: أي في خصال الإسلام، وهو مشتق من قولهم كففت: أي منعت، أي لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام، والكف: المنع، والمراد به هنا الجميع 208- "ادخلوا في السلم كافة" أي جميعاً. وقوله: "ولا تتبعوا خطوات الشيطان" أي لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليه الشيطان، وقد تقدم الكلام على خطوات.
قوله: 209- "زللتم" أي تنحيتم عن طريق الاستقامة، وأصل الزلل في القدم، ثم استعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، يقال: زل يزل وزللاً وزلولاً: أي دحضت قدمه. وقرئ: "زللتم" بكسر اللام وهما لغتان، والمعنى: فإن ضللتم وعرجتم عن الحق "من بعد ما جاءتكم البينات" أي الحجج الواضحة والبراهين الصحيحة، أن الدخول في الإسلام هو الحق "فاعلموا أن الله عزيز" غالب لا يعجزه الانتقام منكم: "حكيم" لا ينتقم إلا بحق.
قوله: 210- "هل ينظرون" أي ينتظرون، يقال: نظرته وانتظرته بمعنى، والمراد هل ينتظر التاركون للدخول في السلم، والظلل جمع ظلة وهي ما يظللك، وقرأ قتادة ويزيد بن القعقاع في ظلال وقرأ يزيد أيضاً "والملائكة" بالجر عطفاً على الغمام أو على ظلل. قال الأخفش: "والملائكة" بالخفض بمعنى: وفي الملائكة قال: والرفع أجود. وقال الزجاج: التقدير في ظلل من الغمام ومن الملائكة. والمعنى: هل ينتظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل من الغمام والملائكة. قال الأخفش: وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعاً إلى الجزاء، فسمي الجزاء إتياناً كما سمي التخويف والتعذيب في قصة ثمود إتياناً، فقال: "فأتى الله بنيانهم من القواعد" وقال في قصة النضير: "فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا" وإنما احتمل الإتيان هذا، لأن أصله عند أهل اللغة القصد إلى الشيء، فمعنى الآية: هل ينظرون إلا أن يظهر الله فعلاً من الأفعال من خلق من خلقه يقصد إلى محاربتهم. وقيل إن المعنى: يأتيهم أمر الله وحكمه، وقيل إن قوله: "في ظلل" بمعنى بظلل، وقيل المعنى: يأتيهم ببأسه في ظلل. والغمام: السحاب الرقيق الأبيض، سمي بذلك لانه يغم: أي يستر. ووجه إتيان العذاب في الغمام على تقدير أن ذلك هو المراد ما في مجيء الخوف من محل الأمن من الفظاعة وعظم الموقع، لأن الغمام مظنة الرحمة لا مظنة العذاب. وقوله: "وقضي الأمر" عطف على يأتيهم داخل في حيز الانتظار، وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه فكأنه كان، أو جملة مستأنفة جيء بها للدلالة على أن مضمونها واقع لا محالة: أي وفرغ من الأمر الذي هو إهلاكهم. وقرأ معاذ بن جبل وقضاء الأمر بالمصدر عطفاً على الملائكة. وقرأ يحيى بن يعمر: وقضى الأمور بالجمع. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي "ترجع الأمور" على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الباقون على البناء للمفعول. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة" قال: يعني مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم، يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد ولا تدعوا منها شيئاً، وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها. وأخرج ابن جرير عن عكرمة: أن هذه الآية نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد ابني كعب وسعيد بن عمرو وقيس بن زيد كلهم من يهود قالوا: يا رسول الله يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله فلنقم بها الليل، فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السلم الطاعة لله، وكافة يقول: جميعاً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: السلم: الإسلام، والزلل: ترك الإسلام. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: "فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات" قال: فإن [ضللتم] من بعد ما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر في هذه الآية: قال: يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب، منها النور والظلمة والماء، فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتاً تنخلع له القلوب. وأخرج أبو يعلى وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية قال: يأتي الله يوم القيامة في ظلل من السحاب قد قطعت طاقات. وأخرج ابن جرير والديلمي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفات بالملائكة" وذلك قوله: "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة "في ظلل من الغمام" قال: طاقات والملائكة حوله. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وتأتيهم الملائكة عند الموت. وأخرج عن عكرمة في قوله: "وقضي الأمر" يقول: قامت الساعة.