تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 324 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 324

323

25- " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه " قرأ حفص وحمزة والكسائي "نوحي" بالنون، وقرأ الباقون بالياء: أي نوحي إليه "أنه لا إله إلا أنا" وفي هذا تقرير لأمر التوحيد وتأكيد لما تقدم من قوله: "هذا ذكر من معي" وختم الآية بالأمر لعباده بعبادته، فقال "فاعبدون" فقد اتضح لكم دليل العقل، ودليل النقل وقامت عليكم حجة الله. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم" قال: شرفكم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: فيه حديثكم. وفي رواية عنه قال: فيه دينكم. وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: بعث الله نبياً من حمير يقال له شعيب، فوثب إليه عبد فضربه بعصا، فسار إليهم بختنصر فقاتلهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شيء، وفيهم أنزل الله "وكم قصمنا" إلى قوله "خامدين". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن الكلبي في قوله: "وكم قصمنا من قرية" قال: هي حضور بني أزد، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "وارجعوا إلى ما أترفتم فيه" قال: ارجعوا إلى دوركم وأموالكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فما زالت تلك دعواهم" قال: هم أهل حضور كانوا قتلوا نبيهم، فأرسل الله عليهم بختنصر فقتلهم، وفي قوله: " جعلناهم حصيدا خامدين " قال: بالسيف ضرب الملائكة وجوههم حتى رجعوا إلى مساكنهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال حدثني رجل من الجزريين قال: كان اليمن قريتان، يقال لإحداهما حضور وللأخرى قلابة، فبطروا وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم، فلما أترفوا بعث الله إليهم نبياً فدعاهم فقتلوه، فألقى الله في قلب بختنصر أن يغزوهم، فجهز لهم جيشاً، فقاتلوهم فهزموا جيشه فرجعوا منهزمين إليه، فجهز إليهم جيشاً آخر أكثف من الأول، فهزموهم أيضاً، فلما رأى بختنصر ذلك غزاهم هو بنفسه، فقاتلوهم فهزمهم حتى خرجوا منها يركضون، فسمعوا منادياً يقول: " لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم " فرجعوا، فسمعوا صوتاً منادياً قول: يا لثارات النبي فقتلوا بالسيف، فهي التي قال الله "وكم قصمنا من قرية" إلى قوله "خامدين". قلت: وقرى حضور معروفة الآن بيننها وبين مدينة صنعاء نحو بريد في جهة الغرب منها. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله "حصيداً خامدين" قال: كخمود النار إذا طفئت. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "لو أردنا أن نتخذ لهواً" قال: اللهو الولد. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن في قوله: "لو أردنا أن نتخذ لهواً" قال: النساء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا يستحسرون" يقول: لا يرجعون. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "لا يسأل عما يفعل" قال: بعباده "وهم يسألون" قال عن أعمالهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس قال: ما في الأرض قوم أبغض إلي من القدرية، وما ذاك إلا أنهم لا يعلمون قدرة الله، قال الله "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون".
قوله: 26- "وقالوا اتخذ الرحمن ولداً" هؤلاء القائلون هم خزاعة، فإنهم قالوا الملائكة بنات الله، وقيل هم اليهود، ويصح حمل الآية على كل من جعل لله ولداً. وقد قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت طائفة من العرب: الملائكة بنات الله. ثم نزه عز وجل نفسه. فقال: "سبحانه" أي تنزيهاً له عن ذلك، وهو مقول على ألسنة العباد. ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال "بل عباد مكرمون" أي ليسوا كما قالوا، بل هم عباد لله سبحانه مكرمون بكرامته لهم، مقربون عنده. وقريء مكرمون بالتشديد، وأجاز الزجاج والفراء نصب عباد على معنى: بل اتخذ عباداً.
ثم وصفهم بصفة أخرى فقال: 27- "لا يسبقونه بالقول" أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله: أو يأمرهم به. كذا قال ابن قتيبة وغيره، وفي هذا دليل على كمال طاعتهم وانقيادهم. وقرئ لا يسبقونه بضم الباء من سبقته أسبقه "وهم بأمره يعملون" أي هم العاملون بما يأمرهم الله به، التابعون له المطيعون لربهم.
27- "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم" هذه الجملة تعليل لما قبلها: أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، أو يعلم ما بين أيديهم وهو الآخرة، وما خلفهم وهو الدنيا، ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدموا وأخروا، لم يعملوا عملاً ولم يقولوا قولاً إلا بأمره "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى" أي يشفع الشافعون له، وهو من رضي عنه، وقيل هم أهل لا إله إلا الله، وقدد ثبت في الصحيح أن الملائكة يشفعون في الدار الآخرة "وهم من خشيته مشفقون" أي من خشيتهم منه، فالمصدر مضاف إلى المفعول، والخشية الخوف من التعظيم، والإشفاق الخوف من التوقع والحذر: أي لا يأمنون مكر الله.
29- "ومن يقل منهم إني إله من دونه" أي من يقل من الملائكة إني إله من دون الله. قال المفسرون: عنى بهذا إبليس، لأنه لم يقل أحد من الملائكة إني إله إلا إبليس، وقيل الإشارة إلى جميع الأنبياء "فذلك نجزيه جهنم" أي فذلك القائل على سبيل الفرض والتقدير: نجزيه جهنم بسبب هذا القول الذي قاله، كما نجزي غيره من المجرمين "كذلك نجزي الظالمين" أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين، أو مثل ما جعلنا جزاء هذا القائل جهنم، فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها، والمراد بالظالمين المشركون.
30- " أولم ير الذين كفروا " الهمزة للإنكار، والواو للعطف على المقدر، والرؤية هي القلبية: أي ألم يتفكروا أو لم يعلموا " أن السماوات والأرض كانتا رتقا " قال الأخفش: إنما قال كانتا، لأنهما صنفان أي جماعتا السموات والأرضين كما قال سبحانه "إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا"، وقال الزجاج: إنما قال كانتا لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد، لأن السموات كانت سماءً واحدة، وكذلك الأرضون، والرتق السد ضد الفتق، يقال رتقت الفتق أرتقته فارتقق: أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج: يعني أنهما كانتا شيئاً واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما، وقال رتقاً ولم يقل رتقين لأنه مصدر، والتقدير: كانتا ذواتي رتق، ومعنى "ففتقناهما" ففصلناهما: أي فصلنا بعضهما من بعض، فرفعنا السماء، وأبقينا الأرض مكانها "وجعلنا من الماء كل شيء حي" أي أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء، فيشمل الحيوان والنبات، والمعنى أن الماء سبب حياة كل شيء. وقيل المراد بالماء هنا النطفة، وبه قال أكثر المفسرين، وهذا احتجاج على المشركين بقدرة الله سبحانه وبديع صنعه، وقد تقدم تفسير هذه الآية، والهمزة في "أفلا يؤمنون" للإنكار عليهم، حيث لم يؤمنوا مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية.
31- "وجعلنا في الأرض رواسي" أي جبالاً ثوابت "أن تميد بهم" الميد التحرك والدوران أي لئلا تتحرك وتدور بهم، أو كراهة ذلك، وقد تقدم تفسير ذلك في النحل مستوفى "وجعلنا فيها" أي في الرواسي، أو في الأرض "فجاجاً" قال أبو عبيدة: هي المسالك. وقال الزجاج: كل مخترق بين جبلين فهو فج و"سبلاً" تفسير للفجاج، لأن الفج قد لا يكون طريقاً نافذاً مسلوكاً "لعلهم يهتدون" إلى مصالح معاشهم، وما تدعوا إليه حاجاتهم.
32- "وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً" عن أن يقع ويسقط على الأرض كقوله: "ويمسك السماء أن تقع على الأرض" وقال الفراء: محفوظاً بالنجوم من الشيطان كقوله: "وحفظناها من كل شيطان رجيم" وقيل محفوظاً لا يحتاج إلى عماد، وقيل المراد بالمحفوظ هنا المرفوع، وقيل محفوظاً عن الشرك والمعاصي، وقيل محفوظاً عن الهدم والنقض " وهم عن آياتها معرضون " أضاف الآيات إلى السماء، لأنها مجعولة فيها، وذلك كالشمس والقمر ونحوهما، ومعنى الإعراض أنهم لا يتدبرون فيها، ولا يتفكرون فيما توجبه من الإيمان.
33- "وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر" هذا تذكير لهم بنعمة أخرى مما أنعم به عليهم، وذلك بأنه خلق لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه في معايشهم، وخلق الشمس والقمر أي جعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، ليعلموا عدد الشهور والحساب كما تقدم بيانه في سبحان "كل في فلك يسبحون" أي كل واحد من الشمس والقمر والنجوم في فلك يسبحون: أي يجرون في وسط الفلك، ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء، والجمع في الفعل باعتبار المطالع، قال سيبويه: إنه لما أخبر عنهن بفعل من يعقل، وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، جعل الضمير عنهن ضمير العقلاء، ولم يقل يسبحن أو تسبح، وكذا قال الفراء. وقال الكسائي: إنما قال يسبحون لأنه رأس آية، والفلك واحد أفلاك النجوم، وأصل الكلمة من الدوران، ومنه فلك المغزل لاستدارتها.
34- "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد" أي دوام البقاء في الدنيا " أفإن مت " بأجلك المحتوم "فهم الخالدون" أي أفهم الخالدون: قال الفراء: جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم سيموت. قال: ويجوز حذف الفاء وإضمارها، والمعنى: إن مت فهم يموتون أيضاً، فلا شماتة في الموت. وقرئ "مت" بكسر الميم وضمها لغتان: وكان سبب نزول هذه الآية قول المشركين فيما حكاه الله عنهم "أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون".
35- "كل نفس ذائقة الموت" أي زائقة مفارقة جسدها، فلا يبقى أحد من ذوات الأنفس المخلوقة كائناً ما كان "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" أي نختبركم بالشدة والرخاء، لننظر كيف شكركم وصبركم. والمراد أنه سبحانه يعاملهم معاملة من يبلوكم، وفتنة مصدر لنبلوكم من غير لفظه "وإلينا ترجعون" لا إلى غيرنا فنجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: قالت اليهود إن الله عز وجل صاهر الجن فكانت بينهم الملائكة، فقال الله تكذيباً لهم "بل عباد مكرمون" أي الملائكة ليس كما قالوا، بل عباد أكرمهم بعبادته "لا يسبقونه بالقول" يثني عليهم "ولا يشفعون" قال: لا تشفع الملائكة يوم القيامة "إلا لمن ارتضى" قال: لأهل التوحيد. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "إلا لمن ارتضى" قال: لأهل التوحيد لمن رضي عنه. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال: قول لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس في الآية قال: الذين ارتضاهم لشهادة أن لا إله إلا الله. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى: "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى" قال: "إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". وأخرج الفريابي وعبد بن حميد والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "كانتا رتقاً ففتقناهما" قال: فتقت السماء بالغيث، وفتقت الأرض بالنبات. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "كانتا رتقاً" قال: لا يخرج منهما شيء، وذكر مثل ما تقدم. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عنه أيضاً من طريق أخرى. وأخرج ابن جرير عنه "كانتا رتقاً" قال: ملتصقتين. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي العالية في قوله: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" قال: نطفة الرجل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس "وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً" قال: بين الجبال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كل في فلك" قال: دوران "يسبحون" قال يجرون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه "كل في فلك" قال: فلك كفلكة المغزل "يسبحون" قال: يدورون في أبواب السماء. كما تدور الفلكة في المغزل. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هو فلك السماء. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قال: دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وقد مات فقبله وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه، ثم تلا "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد" الآية، وقوله: "إنك ميت وإنهم ميتون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" قال: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية والهدى والضلالة.