تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 323 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 323

322

ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة، فقال: 11- "وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة" كم في محل نصب على أنها مفعول قصمنا، وهي الخبرية المفيدة للتكثير، والقصم كسر الشيء ودقه، يقال: قصمت ظهر فلان إذا كسرته، واقتصمت سنه إذا انكسرت. والمعنى هنا: الإهلاك والعذاب، وأما الفصم بالفاء فهو الصدع في الشيء من غير بينونة، وجملة كانت ظالمة في محل جر صفة لقرية، وفي الكلام مضاف محذوف: أي ولك قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين: أي كافرين بالله مكذبين بآياته، والظلم في الأصل وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر في موضع الإيمان "وأنشأنا بعدها قوماً آخرين" أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاك أهلها قوماً ليسوا منها.
12- "فلما أحسوا بأسنا" أي أدركوا أو رأوا عذابنا، وقال الأخفش: خافوا وتوقعوا، أو البأس العذاب الشديد "إذا هم منها يركضون" الركض الفرار والهرب والانهزام، وأصله من ركض الرجل الدابة برجليه، يقال ركض الفرس إذا كده بساقيهن ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا، ومنه "اركض برجلك" والمعنى: أنهم يهربون منها راكضين دوابهم.
فقيل لهم: 13- "لا تركضوا" أي لا تهربوا. قيل إن الملائكة كنادتهم، عند فرارهم. وقيل إن القائل لهم ذلك هم من هنالك من المؤمنين استهزاءً بهم وسخرية منهم "وارجعوا إلى ما أترفتم فيه" أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم وكفركم، والمترف المنعم، يقال أترف فلان: أي وسع عليه في معاشه "ومساكنكم" أي وارجعوا إلى مساكنكم التي كنتم تسكنونها وتفتخرون بها "لعلكم تسألون" أي تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات، وهذا على طريقة التهكم بهم والتوبيخ لهم. وقيل المعنى: لعلكم تسألون عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به. وقيل لعلكم تسألون أن تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول العذاب بكم. قال المفسرون وأهل الأخبار: إن المراد بهذه الآية أهل حضور من اليمن، وكان الله سبحانه قد بعث إليهم نبياً اسمه شعيب بن مهدم، وقبره بجبل من جبال اليمن يقال له ضين وبينه وبين حضور نحو بريد، قالوا: وليس هو شعيباً صاحب مدين. قلت: وآثار القبر بجبل ضين موجودة، والعامة من أهل تلك الناحية يزعمون أنه قبر قدم بن قادم.
14- "قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين" أي قالوا لما قالت لهم الملائكة لا تركضوا يا ويلنا: أي بإهلاكنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا مستوجبين العذاب بما قدمنا، فاعترفوا على أنفسهم بالظلم الموجب للعذاب.
15-" فما زالت تلك دعواهم " أي ما زالت هذه الكلمة دعواهم: أي دعوتهم، والكلمة هي قولهم يا ويلنا أي يدعون بها ويرددونها "حتى جعلناهم حصيداً" أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، والحصيد هنا بمعنى المحصود، ومعنى "خامدين" أنهم ميتون، من خمدت النار إذا طفئت، فشبه خمود الحياة بخمود النار، كما يقال لمن مات قد طفئ.
16-"وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين" أي لم نخلقهما عبثاً ولا باطلاً، بل للتنبيه على أن لهما خالقاً قادراً يجب امتثال أمره، وفيه إشارة إجمالية إلى تكوين العالم، والمراد بما بينهما سائر المخلوقات الكائنة بين السماء والأرض على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها.
17- " لو أردنا أن نتخذ لهوا " اللهو ما يتلهى به، قيل اللهو الزوجة والولد، وقيل الزوجة فقط، وقيل الولد فقط. قال الجوهري: قد يكنى باللهو عن الجماع، ويدل على ما قاله قول امرئ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي ومنه قول الآخر: وفيهن ملهى للصديق ومنظر والجملة مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها، وجواب لو قوله: "لاتخذناه من لدنا" أي من عندنا ومن جهة قدرتنا لا من عندكم. قال المفسرون: أي من الحور العين، وفي هذا رد على من قال بإضافة الصاحبة والولد إلى الله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً. وقيل أراد الرد على من قال: الأصنام أو الملائكة بنات الله. وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى "إن كنا فاعلين" قال الواحدي قال المفسرون: ما كنا فاعلين. قال الفراء والمبرد والزجاج: يجوز أن تكون إن للنفي كما ذكره المفسرون: أي ما فعلناه ذلك ولم نتخذ صاحبة ولا ولداً، ويجوز أن تكون للشرط: أي إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا. قال الفراء: وهذا أشبه الوجهين بمذهب العربية.
18- "بل نقذف بالحق على الباطل" هذا إضراب عن اتخاذ اللهو: أي دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل، بل شأننا أن نرمي بالحق على الباطل "فيدمغه" أي يقهره، وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة. قال الزجاج: المعنى نذهبه ذهاب الصغار والإذلال، وذلك أن أصله إصابة الدماغ بالضرب. قيل أراد بالحق الحجة اهـ وبالباطل شبههم. وقيل الحق المواعظ، والباطل المعاصي وقيل الباطل الشيطان. وقيل كذبهم، ووصفهم الله سبحانه بغير صفاته "فإذا هو زاهق" أي زائل ذاهب، وقيل هالك تالف، والمعنى متقارب، وإذا هي الفجائية "ولكم الويل مما تصفون" أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم له بما لا يجوز عليه. وقيل الويل واد في جهنم، وهو وعيد لقريش بأن لهم من العذاب مثل الذي لأولئك، ومن هي التعليلية.
19- "وله من في السماوات والأرض" عبيداً وملكاً، وهو خالقهم ورازقهم ومالكهم، فكيف يجوز أن يكون له بعض مخلوقاته شريكاً يعبد كما يعبد، وهذه الجملة مقررة لما قبلها "ومن عنده" يعني الملائكة، وفيه رد على القائلين بأن الملائكة بنات الله، وفي التعبير عنهم بكونهم عند إشارة إلى تشريفهم وكرامتهم، وأنهم بمنزلة المقربين عند الملوك، ثم وصفهم بقوله: "لا يستكبرون عن عبادته" أي لا يتعاظمون ولا يأنفون عن عبادة الله سبحانه والتذلل له "ولا يستحسرون" أي لا يعيون، مأخوذ من الحسير، وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب، يقال: حسر البعير يحسر حسوراً أعيا وكل، واستحسر وتحسر مثله وحسرته أنا حسراً، يتعدى ولا يتعدى. قال أبو زيد: لا يكلون، وقال ابن الأعرابي: لا يفشلون. قال الزجاج: معنى الآية أن هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أولاد الله عباد الله لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظمون عنها كقوله: "إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته" وقيل المعنى: لا ينقطعون عن عبادته وهذه المعاني متقاربة.
20- "يسبحون الليل والنهار لا يفترون" أي ينزهون الله سبحانه دائماً لا يضعفون عن ذلك ولا يسأمون، وقيل يصلون الليل والنهار. قال الزجاج: مجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا لا يشغلنا عن النفس شيء، فكذلك تسبيحهم دائم، وهذه الجملة إما مستأنفة جواب سؤال مقدر، أو في محل نصب على الحال.
21- "أم اتخذوا آلهة من الأرض" قال المفضل: مقصود هذا الاستفهام الجحد: أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء، وأم هي المنقطعة، والهمزة لإنكار الوقوع. قال المبرد: إن أم هنا بمعنى هل: أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى، ولا تكون أم هنا بمعنى بل، لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدر أم مع الاستفهام، فتكون أم المنقطعة، فيصح المعنى، ومن الأرض متعلق باتخذوا، أو بمحذوف هو صفة لآلهة، ومعنى "هم ينشرون" هم يبعثون الموتى، والجملة صفة لآلهة، وهذه الجملة هي التي يدور عليها الإنكار والتجهيل، لا نفس الاتخاذ، فإنه واقع منهم لا محالة. والمعنى: بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم ينشرون الموتى، وليس الأمر كذلك، فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل عن ذلك. قرأ الجمهور "ينشرون" بضم الياء وكسر الشين من أنشره: أي أحياه، وقرأ الحسن بفتح الياء: أي يحيون ولا يموتون.
ثم إنه سبحانه أقام البرهان على بطلان تعدد الآلهة، فقال: 22- "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" أي لو كان في السموات والأرض آلهة معبودون غير الله لفسدتا: أي لبطلتا، يعني السموات والأرض بما فيهما من المخلوقات. قال الكسائي وسيبويه والأخفش والزجاج وجمهور النحاة: إن إلا هنا ليست للاستثناء بل بمعنى غير صفة لآلهة، ولذلك ارتفع الاسم الذي بعدها وظهر فيه إعراب غير التي جاءت إلا بمعناها، ومنه قول الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان وقال الفراء: إن إلا هنا بمعنى سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسدتا، ووجه الفساد أن كون مع الله إلهاً آخر يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادراً على الاستبداد بالتصرف، فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف ويحدث بسببه الفساد اهـ "فسبحان الله رب العرش عما يصفون" الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان: أي تنزه عز وجل عما لا يليق به من ثبوت الشريك له، وفيه إرشاد للعباد أن ينزهوا الرب سبحانه عما لا يليق به.
23- "لا يسأل عما يفعل" هذه الجملة مستأنفة مبينة أنه سبحانه لقوة سلطانه وعظيم جلاله لا يسأله أحد من خلقه عن شيء من قضائه وقدره "وهم" أي العباد "يسألون" عما يفعلون أي يسألهم الله عن ذلك لأنهم عبيده. وقيل إن المعنى أنه سبحانه لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون. قيل المراد بذلك أنه سبحانه بين لعباده أن من يسأل عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح لأن يكون إلها.
24- "أم اتخذوا من دونه آلهة" أي بل اتخذوا، وفيه إضراب وانتقال من إظهار بطلان كونها آلهة بالبرهان السابق إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة مع توبيخهم بطلب البرهان منهم، ولهذا قال "قل هاتوا برهانكم" على دعوى أنها آلهة، أو على جواز اتخاذ آلهة سوى الله، ولا سبيل لهم إلى شيء من ذلك، لا من عقل ولا نقل، لأن دليل العقل قد مر بيانه، وأما دليل النقل فقد أشار إليه بقوله: "هذا ذكر من معي وذكر من قبلي" أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وذكر الأمم السالفة وقد أقمته عليكم وأوضحته لكم، فأقيموا أنتم برهانكم. وقيل المعنى: هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبلي فانظروا هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إله سواه. قال الزجاج: قيل لهم هاتوا برهانكم بأن رسولاً من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلهاً غير الله، فهل ذكر من معي وذكر من قبلي إلا توحيد الله؟ وقيل معنى الكلام الوعيد والتهديد: أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وحكى أبو حاتم أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرأ: "هذا ذكر من معي وذكر من قبلي" بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذه القراءة. وقال الزجاج في توجيه هذه القراءة إن المعنى هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي وذكر من قبلي. وقيل ذكر كائن من قبلي: أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي. ثم لما توجهت الحجة عليهم ذمهم بالجهل بمواضع الحق فقال: "بل أكثرهم لا يعلمون الحق" وهذا إضراب من جهته سبحانه وانتقال من تبكيتهم بمطالبتهم بالبرهان إلى بيان أنه لا يؤثر فيهم إقامة البرهان لكونهم جاهلين للحق لا يميزون بينه وبين الباطل. وقرأ ابن محيصن والحسن الحق بالرفع على معنى هذا الحق، أو هو الحق، وجملة "فهم معرضون" تعليل لما قبله من كون أكثرهم لا يعلمون: أي فهم لأجل هذا الجهل المستولي على أكثرهم معرضون عن قبول الحق مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول، فلا يتأملون حجة، ولا يتدبرون في برهان، ولا يتفكرون في دليل.