تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 328 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 328

327

73- "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا" أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات ومعنى بأمرنا بأمرنا لهم بذلك: أي بما أنزلنا عليهم من الوحي "وأوحينا إليهم فعل الخيرات" أي أن يفعلوا الطاعات، وقيل المراد بالخيرات شرائع النبوات "وكانوا لنا عابدين" أي كانوا لنا خاصة دون غيرنا مطيعين، فاعلين لما نأمرهم به، تاركين ما ننهاهم عنه.
74- "ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً" انتصاب لوطاً بفعل مضمر دل عليه قوله آتيناه: أي وآتينا لوطاً آتيناه، وقيل بنفس الفعل المذكور بعده، وقيل بمحذوف هو اذكر، والحكم النبوة، والعلم المعرفة بأمر الدين، وقيل الحكم: هو فصل الخصومات بالحق، وقيل هو الفهم "ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث" القرية هي سدوم كما تقدم، ومعنى تعمل الخبائث: يعمل أهلها الخبائث، فوصف القرية بوصف أهلها، والخبائث التي كانوا يعملونها هي اللواطة والضراط وخذف الحصى كما سيأتي، ثم علل سبحانه ذلك بقوله: "إنهم كانوا قوم سوء فاسقين" أي خارجين عن طاعة الله، والفسوق الخروج كما تقدم.
75- "وأدخلناه في رحمتنا" بإنجائنا إياه من القوم المذكورين، ومعنى في رحمتنا: في أهل رحمتنا، وقيل في النبوة، وقيل في الإسلام، وقيل في الجنة "إنه من الصالحين" الذين سبقت لهم منا الحسنى.
76- "ونوحاً إذ نادى" أي واذكر نوحاً إذ نادى ربه "من قبل" أي من قبل هؤلاء الأنبياء المذكورين "فاستجبنا له" دعاءه "فنجيناه وأهله من الكرب العظيم" أي من الغرق بالطوفان، والكرب الغم الشديد، والمراد بأهله المؤمنون منهم.
77- "ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا" أي نصرناه نصراً مستتبعاً للانتقام من القوم المذكورين، وقيل المعنى: منعناه من القوم. وقال أبو عبيدة: من بمعنى على، ثم علل سبحانه ذلك بقوله: "إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين" أي لم نترك منهم أحداً، بل أغرقنا كبيرهم وصغيرهم بسبب إصرارهم على الذنب. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب في قوله: "إلى الأرض التي باركنا فيها" قال: الشام. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي مالك نحوه. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: لوط كان ابن أخي إبراهيم. وأخرج ابن جرير عنه "ووهبنا له إسحاق" قال: ولداً "ويعقوب نافلة" قال: ابن الابن. وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحكم نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "ووهبنا له إسحاق" قال: أعطيناه "ويعقوب نافلة" قال: عطية.
قوله: 78- "وداود" معطوف على نوحاً ومعمول لعامله المذكور، أو المقدر كما مر "وسليمان" معطوف على داود، والظرف في "إذ يحكمان" متعلق بما عمل في داود: أي واذكرهما وقت حكمهما. والمراد من ذكرهما ذكر خبرهما. ومعنى "في الحرث" في شأن الحرث، وقيل كان زرعاً، وقيل كرماً، واسم الحرث يطلق عليهما "إذ نفشت فيه" أي تفرقت وانتشرت فيه "غنم القوم" قال ابن السكيت: النفش بالتحريك أن تنتشر الغنم بالليل من غير راع "وكنا لحكمهم شاهدين" أي لحكم الحاكمين، وفيه جواز إطلاق الجمع على الاثنين، وهو مذهب طائفة من أهل العربي كالزمخشري والرضي، وتقدمهما إلى القول به الفراء. وقيل المراد الحاكمان والمحكوم عليه، ومعنى شاهدين حاضرين، والجملة اعتراضية.
وجملة 79- "ففهمناها سليمان" معطوفة على إذ يحكمان، لأنه في حكم الماضي، والضمير في ففهمناها يعود إلى القضية المفهومة من الكلام، أو الحكومة المدلول عليها بذكر الحكم. قال المفسرون: دخل رجلان على داود، وعنده ابنه سليمان: أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث: إن هذا انفلتت غنمه ليلاً فوقعت في حرثي فلم تبق منه شيئاً، فقال: لك رقاب الغنم، فقال سليمان: أو غير ذلك، ينطلق أصحاب الكرم بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها ويقوم أصحاب الغنم على الكرم، حتى إذا كان كليلة نفشت فيه دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم، ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم، فقال داود: القضاء ما قضيت، وحكم بذلك. قال النحاس: إنما قضى داود بالغنم لصاحب الحرث لأن ثمنها كانا قريباً منه، وأما في حكم سليمان فقد قيل: كانت قيمة ما نال من الغنم، وقيمة ما أفسدت الغنم سواء. قال جماعة من العلماء: إن داود حكم بوحي، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود، فيكون التفهيم على هذا بطريق الوحي. وقال الجمهور: إن حكمهما كان باجتهاد، وكلام أهل العلم في حكم اجتهاد الأنبياء معروف، وهكذا ما ذكره أهل العلم في اختلاف المجتهدين، وهل كل مجتهد مصيب، أو الحق مع واحد؟ وقد استدل المستدلون بهذه الآية على أن كل مجتهد مصيب، فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها، بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم مخطئاً، فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له، فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين، وإلا لزم توقف حكمه عز وجل على اجتهادات المجتهدين، واللازم باطل فالملزوم مثله. وأيضاً يستلزم أن تكون العين التي اختلف اجتهاد المجتهدين فيها بالحل والحرمة حلالاً في حكم الله سبحانه. وهذا اللازم كل مجتهد له اجتهاد في تلك الحادثة، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه فيها إلا بانقطاع المجتهدين واللازم بأطل فالملزوم مثله. وقد أوضحنا هذه المسألة بما لا مزيد عليه في المؤلف الذين سميناه القول المفيد في حكم التقليد وفي أدب الطلب ومنتهى الأرب فمن أحب الوقوف على تحقيق الحق فليرجع إليهما. فإن قلت: فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية، والملة الإسلامية؟ قلت: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها، وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عيناً أو قيمة. وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث. وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعاً في ليل أو نهار أنه لا يلزم صاحبها شيء، وأدخلوا فسادها في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم "جرح العجماء جبار" قياساً لجميع أفعالها على جرحها. ويجاب عنه بأن هذا القياس فاسد الاعتبار، لأنه في مقابلة النص، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يضمن رب الماشيةما أفسدته من غير فرق بين الليل والنهار. ويجاب عنه بحديث البراء ومما يدل على أن هذين الحكمين من داود وسليمان كانا بوحي من الله سبحانه لا باجتهاد. قوله: "وكلاً آتينا حكماً وعلماً" فإن الله سبحانه أخبرنا بأنه أعطى كل واحد منهما هذين الأمرين، وهما إن كانا خاصين فصدقهما على هذه القضية التي حكاها الله سبحانه عنهما مقدم على صدقهما على غيرها، وإن كانا عامين فهذا الفرد من الحكم والعلم، وهو ما وقع من كل واحد منهما في هذه القضية أحق أفراد ذلك العام بدخوله تحته ودلالته عليه، ومما يستفاد من ذلك دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان بالتفهيم، من عدم كون حكم داود حكماً شرعياً: أي وكل واحد منهما أعطيناه حكماً وعلماً كثيراً، لا سليمان وحده. ولما مدح داود سليمان على سبيل الاشتراك، ذكر ما يختص بكل واحد ممنهما، فبدأ بداود فقال: "وسخرنا مع داود الجبال يسبحن" التسبيح إما حقيقة أو مجاز، وقد قال بالأول جماعة وهو الظاهر. وذلك أن داود كان إذا سبح سبحت الجبال معه، وقيل إنها كانت تصلي معه إذا صلى، وهو معنى التسبيح. وقال بالمجاز جماعة آخرون، وحملوا التسبيح على تسبيح من رآها تعجباً من عظيم خلقها وقدرة خالقها، وقيل كانت الجبال تسير مع داود، فكان من رآها سائرة معه سبح "والطير" معطوف على الجبال، وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف: أي والطير مسخرات، ولا يصح العطف على الضمير في يسبحن لعدم التأكيد والفضل "وكنا فاعلين" يعني ما ذكر من التفهيم، وإيتاء الحكم والتسخير.
80- "وعلمناه صنعة لبوس لكم" اللبوس عند العرب السلاح كله درعاً كان أو جوشناً، أو سيفاً، أو رمحاً، قال الهذلي: وعندي لبوس في اللباس كأنه إلخ والمراد في الآية الدروع خاصة، وهو بمعنى الملبوس، كالركوب والجلوب، والجار والمجرور أعني لكم متعلق بعلمنا " لتحصنكم من بأسكم " قرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وحفص وروح "لتحصنكم" بالتاء الفوقية، بإرجاع الضمير إلى الصنعة، أو إلى اللبوس بتأويل الدرع. وقرأ شيبة وأبو بكر والمفضل وابن أبي إسحاق " لتحصنكم " بالنون بإرجاع الضمير إليه سبحانه. وقرأ الباقون بالياء بإرجاع الضمير إلى اللبوس، أو إلى داود، أو إلى الله سبحانه. ومعنى "من بأسكم" من حربكم، أو من وقع السلاح فيكم "فهل أنتم شاكرون" لهذه النعمة التي أنعمنا بها عليكم، والاستفهام في معنى الأمر.
ثم ذكر سبحانه ما خص به سليمان. فقال: 81- "ولسليمان الريح" أي وسخرنا له الريح "عاصفة" أي شديدة الهبوب. يقال عصفت الريح: أي اشتدت، فهي ريح عاصف وعصوف، وانتصاب الريح على الحال. وقرأ عبد الرحمن الأعرج والسلمي وأبو بكر "ولسليمان الريح" برفع الريح على القطع مما قبله، ويكون مبتدأ وخبره تجري. وأما على قراءة النصب فيكون محل "تجري بأمره" النصب أيضاً على الحالية، أو على البدلية "إلى الأرض التي باركنا فيها" وهي أرض الشام كما تقدم "وكنا بكل شيء عالمين" أي بتدمير كل شيء.