تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 327 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 327

326

والفاء في قوله: 58- "فجعلهم جذاذاً" فصيحة: أي فولوا، فجعلهم جذاذاً: الجذ القطع والكسر، يقال جذذت الشيء قطعته وكسرته، الواحد جذاذة، والجذاذ ما كسر منه. قال الجوهري: قال الكسائي: ويقال لحجارة الذهب الجذاذ لأنها تكسر. قرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن "جذاذاً" بكسر الجيم: أي كسراً وقطعاً، جمع جذيذ: وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف، وظريف وظراف. قال الشاعر: جذذ الأصنام في محرابها ذاك في الله العلي المقتدر وقرأ الباقون بالضم، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم: أي الحطام والرقاق، فعال بمعنى مفعول، وهذا هو الكيد الذي وعدهم به. وقرأ ابن عباس وأبو السماك جذاذاً بفتح الجيم "إلا كبيراً لهم" أي للأصنام "لعلهم إليه" أي إلى إبراهيم "يرجعون" فيحاجهم بما سيأتي فيحجهم، وقيل لعلهم إلى الصنم الكبير يرجعون فيسألونه عن الكاسر، لأن من شأن المعبود أن يرجع إليه في المهمات، فإذا رجعوا إليه لم يجدوا عنده خبراً، فيعلمون حينئذ أنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضرراً، ولا تعلم بخير ولا شر، ولا تخبر عن الذي ينوبها من الأمر، وقيل لعلهم إلى الله يرجعون، وهو بعيد جداً.
59- "قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين" في الكلام حذف، والتقدير: فلما رجعوا من عيدهم ورأوا ما حدث بآلهتهم قالوا هذه المقالة، والاستفهام للتوبيخ، وقيل إن من ليست استفهامية، بل هي مبتدأ وخبرها إنه لمن الظالمين: أي فاعل هذا ظالم.
والأول أولى لقولهم: 60- "سمعنا فتى" إلخ، فإنه قال بهذا بعضهم مجيباً للمستفهمين لهم، وهذا القائل هو الذي سمع إبراهيم يقول: "تالله لأكيدن أصنامكم" ومعنى "يذكرهم" يعيبهم، وقد سبق تحقيق مثل هذه العبارة، وجملة "يقال له إبراهيم" صفة ثانية لفتى. قال الزجاج: وارتفع إبراهيم على معنى: ياقل له هو إبراهيم، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف، وقيل ارتفاعه على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، وقيل مرتفع على النداء. ومن غرائب التدقيقات النحوية، وعجائب التوجيهات الإعرابية، أن الأعلم الشنتمري الأشبيلي قال: إنه مرتفع على الإهمال. قال ابن عطية: ذهب إلى رفعه بغير شيء. والفتى: هو الشاب، والفتاة الشابة.
61- " قالوا فاتوا به على أعين الناس " القائلون هم السائلون، أمروا بعضهم أن يأتي به ظاهراً بمرأى من الناس. قيل إنه لما بلغ الخبر نمروذ وأشراف قومه كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، فقالوا هذه المقالة ليكون ذلك حجة عليه يستحلون بها منه ما قد عزموا على أن يفعلوه به، ومعنى "لعلهم يشهدون" لعلهم يحضرون عقابه حتى ينزجر غيره عن الاقتداء به في مثل هذا، وقيل لعلهم يشهدون عليه بأنهم رأوه يكسر الأصنام، أو لعلهم يشهدون طعنه على أصنامهم.
وجملة 62- "قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم" مستأنفة جواب سؤال مقدر، وفي الكلام حذف تقديره: فجاء إبراهيم حين أتوا به فاستفهموه هل فعل ذلك، لإقامة الحجة عليه في زعمهم.
63- "قال بل فعله كبيرهم هذا" أي قال إبراهيم مقيماً للحجة عليهم مبكتاً لهم، بل فعله كبيرهم هذا مشيراً إلى الصنم الذي تركه ولم يكسره "فاسألوهم إن كانوا ينطقون" أي إن كانوا ممن يمكنه النطق ويقدر على الكلام ويفهم ما نفال له، فيجيب عنه بما يطابقه، ولا يصح في العقل أن يطلق عليه أنه إله. فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم بما يوقعهم في الاعتراف بأن الجمادات التي عبدوها ليست بآلهة، لأنهم إذا قالوا إنهم لا ينطقون، قال لهم: فكيف تعبدون من يعجز عن النطق، ويقصر عن أن يعلم بما يقع عنده في المكان الذي هو فيه؟ فهذا الكلام من باب فرض الباطل مع الخصم حتى تلزمه الحجة ويعترف بالحق، فإن ذلك أقطع لشبهته وأدفع لمكابرته، وقيل أراد إبراهيم عليه السلام بنسبة الفعل إلى ذلك الكبير من الأصنام أنه فعل ذلك لأنه غار وغضب من أن يعبد وتعبد الصغار معه إرشاداً لهم إلى أن عبادة هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تدفع لا تستحسن في العقل مع وجود خالقها وخالقهم، والأول أولى. وقرأ ابن السميفع بل فعله بتشديد اللام على معنى بل فلعل الفاعل كبيرهم.
64- "فرجعوا إلى أنفسهم" أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته المتفطن لصحة حجة خصمه المراجع لعقله، وذلك أنهم تنبهوا وفهموا عند هذه المقاولة بينهم وبين إبراهيم أن من لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن فعل به ما فعله إبراهيم بتلك الأصنام يستحيل أن يكون مستحقاً للعبادة، ولهذا "قالوا إنكم أنتم الظالمون" أي قال بعضهم لبعض: أنتم الظالمون لأنفسكم بعبادة هذه الجمادات، وليس الظالم من نسبتم الظلم إليه بقولكم: إنه لمن الظالمين.
65- " ثم نكسوا على رؤوسهم " أي رجعوا إلى جهلهم وعنادهم، شبه سبحانه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه، وقيل المعنى: أنهم طأطأوا رؤوسهم خجلة من إبراهيم، وهو ضعيف لأنه لم يقل نكسوا رؤوسهم بفتح الكاف وإسناد الفعل إليهم حتى يصح هذا التفسير، بل قال: نكسوا على رؤوسهم، وقرئ نكسوا بالتشديد، ثم قالوا بعد أن نكسوا مخاطبين لإبراهيم "لقد علمت ما هؤلاء ينطقون" أي قائلين لإبراهيم لقد علمت أن النطق ليس من شأن هذه الأصنام.
فـ 66- "قال" إبراهيم مبكتاً لهم ومزرياً عليهم "أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً" من النفع "ولا يضركم" بنوع من أنواع الضررز
ثم تضجر عليه السلام منهم، فقال 67- "أف لكم ولما تعبدون من دون الله" وفي هذا تحقير لهم ولمعبوداتهم، واللام في لكم لبيان المتأفف به: أي لكم ولآلهتكم، والتأفف صوت يدل على التضجر "أفلا تعقلون" أي ليس لكم عقول تتفكرون بها، فتعلمون هذا الصنع القبيح الذي صنعتموه.
68- "قالوا حرقوه" أي قال بعضهم لبعض لما أعيتهم الحيلة في دفع إبراهيم، وعجزوا عن مجادلته، وضاقت عليهم مسالك المناظرة حرقوا إبراهيم انصرافاً منهم إلى طريق الظلم والغشم، وميلاً منهم إلى إظهار الغلبة بأي وجه كان، وعلى أي أمر اتفق، ولهذا قالوا "وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين" أي انصروها بالانتقام من هذا الذي فعل بها ما فعل إن كنتم فاعلين للنصر وقيل هذا القائل هو نمروذ، وقيل رجل من الأكراد.
69- " قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " في الكلام حذف تقديره فأضرموا النار، وذهبوا بإبراهيم إليها، فعند ذلك قلنا: يا نار كوني ذات برد وسلام، وقيل إن انتصاب سلاماً على أنه مصدر لفعل محذوف: أي وسلمنا سلاماً عليه.
70- "وأرادوا به كيداً" أي مكراً "فجعلناهم الأخسرين" أي أخسر من كل خاسر، ورددنا مكرهم عليهم، فجعلنا لهم عاقبة السوء، كما جعلنا لإبراهيم عاقبة الخير. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه، فقالوا: يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال: إني سقيم، وقد كان بالأمس، قال "تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين" فسمعه ناس منهم، فلما خرجوا انطلق إلى أهله، فأخذ طعاماً ثم انطلق إلى آلهتهم فقربه إليهم، فقال ألا تأكلون، فكسرها إلا كبيرهم، ثم ربط في يده الذي كسر به آلهتهم، فلما رجع القوم من عيدهم دخلوا، فإذا هم بآلهتم قد كسرت، وإذا كبيرهم في يده الذي كسر الأصنام، قالوا من فعل هذا بآلهتنا؟ فقال الذين سمعوا إبراهيم يقول "تالله لأكيدن أصنامكم"، "سمعنا فتى يذكرهم" فجادلهم عند ذلك إبراهيم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "جذاذاً" قال: حطاماً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: فتاتاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً "بل فعله كبيرهم هذا" قال: عظيم آلهتهم. وأخرج أبو داود والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث كلهن في الله: قوله "إني سقيم" ولم يكن سقيماً، وقوله لسارة أختي، وقوله "بل فعله كبيرهم هذا"". وهذا الحديث هو في الصحيحين من حديث أبي هريرة بأطول من هذا. وقد روى نحو هذا أبو يعلى من حديث أبي سعد. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما جمع لإبراهيم ما جمع، وألقي في النار جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله؟ فكان أمر الله أسرع، قال الله "كوني برداً وسلاماً" فلم يبق في الأرض نار إلا طفئت. وأخرج أحمد وابن ماجه وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني في عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حين ألقي في النار لم تكن دابة إلا تطفئ عنه النار، غير الوزغ فإنه كان ينفخ على إبراهيم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله". وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر عن ابن عمر، قال: أول كلمة قالها إبراهيم حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "يا نار كوني" قال: كان جبريل هو الذي ناداها. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي نحوه. وأخرج ابن جرير عن معتمر بن سليمان التيمي عن بعض أصحابه قال: جاء جبريل إلى إبراهيم وهو يوثق ليلقى في النار، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن كعب قال: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن المنهال بن عمرو قال: أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار، فكان فيها إما خمسين وإما أربعين، قال: ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها، وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها.
قد تقدم أن لوطاً هو ابن أخي إبراهيم، فحكى الله سبحانه ها هنا أنه نجى إبراهيم ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين. قال المفسرون: وهي أرض الشام، وكانا بالعراق، وسماها سبحانه مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها، ولأنها معادن الأنبياء، وأصل البركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح وقيل الأرض المباركة مكة، وقيل بيت المقدس لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء، وهي أيضاً كثيرة الخصب، وقد تقدم تفسير العالمين.
72- "ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة" النافلة الزيادة، وكان إبراهيم قد سأل الله سبحانه أن يهب له ولداً، فوهب له إسحاق، ثم وهب لإسحاق يعقوب من غير دعاء، فكان ذلك نافلة: أي زيادة، وقيل المراد بالنافلة هنا العطية قاله الزجاج، وقيل النافلة هنا ولد الولد، لأنه زيادة على الولد، وانتصاب نافلة على الحال. قال الفراء: النافلة يعقوب خاصة، لأنه ولد الوالد "وكلا جعلنا صالحين" أي وكل واحد من هؤلاء الأربعة: إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب، لا بعضهم دون بعض جعلناه صالحاً عاملاً بطاعة الله تاركاً لمعاصيه. وقيل المراد بالصلاح هنا النبوة.