تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 344 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 344

343

28- "فإذا استويت" أي علوت "أنت ومن معك" من أهلك وأتباعك "على الفلك" راكبين عليه "فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين" أي حال بيننا وبينهم، وخلصنا منهم، كقوله: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين". وقد تقدم تفسير هذه القصة في سورة هود على التمام والكمال، وإنما جعل استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزماً، لأنه قد سبق في علمه أن ذلك سبب نجاتهم من الظلمة، وسلامتهم من أن يصابوا بما أصيبوا به من العذاب.
ثم أمره أن يسأل ربه ما هو أنفع له وأتم فائدة فقال: 29- "وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً" أي أنزلني في السفينة. قرأ الجمهور "منزلاً" بضم الميم وفتح الزاي على أنه مصدر. وقرأ زر بن حبيش وأبو بكر عن عاصم والمفضل بفتح الميم وكسر الزاي على أنه اسم مكان. فعلى القراءة الأولى: أنزلني إنزالاً مباركاً، وعلى القراءة الثانية: أنزلني مكاناً مباركاً. قال الجوهري: والمنزل بفتح الميم والزاي النزول، وهو الحلول، تقول نزلت نزولاً ومنزلاً. قال الشاعر: ‌أإن ذكرتك الدار منزلها جمل بكيت فدمع العين منحدر سجل بنصب منزلها، لأنه مصدر، قيل أمره الله سبحانه بأن يقول هذا القول عند دخوله السفينة، وقيل عند خروجه منها، والآية تعليم من الله لعباده إذا ركبوا ثم نزلوا أن يقولوا هذا القول "وأنت خير المنزلين" هذا ثناء منه على الله عز وجل إثر دعائه له. قال الواحدي: قال المفسرون: إنه أمر أن يقول عند استوائه على الفلك: الحمد لله، وعند نزوله منها: رب أنزلني منزلاً مباركاً.
والإشارة بقوله: 30- "إن في ذلك" إلى ما تقدم مما قصه الله علينا من أمر نوح عليه السلام: والآيات الدلالات على كمال قدرته سبحانه، والعلامات التي يستدل بها على عظيم شأنه "وإن كنا لمبتلين" أي لمختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم، ليظهر المطيع والعاصي للناس أو الملائكة. وقيل المعنى: إنه يعاملهم سبحانه معاملة المختبر لأحوالهم، تارة بالإرسال، وتارة بالعذاب.
31- "ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين" أي من بعد إهلاكهم. قال أكثر المفسرين: إن هؤلاء الذين أنشأهم الله بعدهم هم عاد قوم هود، لمجيء قصتهم على إثر قصة نوح في غير هذا الموضع، ولقوله في الأعراف "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح" وقيل هم ثمود لأنهم الذين أهلكوا بالصيحة. وقد قال سبحانه في هذه القصة "فأخذتهم الصيحة" وقيل هم أصحاب مدين قوم شعيب لأنهم ممن أهلك بالصحية.
32- "فأرسلنا فيهم رسولاً" عدى فعل الإرسال يفي مع أنه يتعدى بإلى، للدلالة على أن هذا الرسول المرسل إليهم نشأ فيهم بين أظهرهم، يعرفون مكانه ومولده، ليكون سكونهم إلى قوله أكثر من سكونهم إلى من يأتيهم من غير مكانهم. وقيل وجه التعدية للفعل المذكور بفي أنه ضمن معنى القول: أي قلنا لهم على لسان الرسول "اعبدوا الله" ولهذا جيء بأن المفسرة. والأول أولى تضمين أرسلنا معنى قلنا لا يستلزم تعديته بفي، وجملة "ما لكم من إله غيره" تعليل للأمر بالعبادة "أفلا تتقون" عذابه الذي يقتضيه شرككم.
33- "وقال الملأ من قومه" أي أشرافهم وقادتهم. ثم وصف الملأ بالكفر والتكذيب فقال: "الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة" أي كذبوا بما في الآخرة من الحساب والعقاب، أو كذبوا بالبعث "وأترفناهم" أي وسعنا لهم نعم الدنيا فبطروا بسبب ما صاروا فيه "في الحياة الدنيا" من كثرة الأموال ورفاهة العيش "ما هذا إلا بشر مثلكم" أي قال الملأ لقومهم هذا القول، وصفوه بمساواتهم في البشرية، وفي الأكل "مما تأكلون منه" والشرب مما تشربون منه، وذلك يستلزم عندهم أنه لا فضل له عليهم. قال الفراء: إن معنى "ويشرب مما تشربون" على حذف منه: أي مما تشربون منه، وقيل إن ما مصدرية، فلا تحتاج إلى عائد.
34- "ولئن أطعتم بشراً مثلكم" فيما ذكر من الأوصاف " إنكم إذا لخاسرون " أي مغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم.
والاستفهام في قوله: 35- "أيعدكم أنكم إذا متم" للإنكار، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تقبيح اتباعهم له. قرئ بكسر الميم من متم، من مات يمات كخاف يخاف. وقرئ بضمها من مات يموت: كقال يقول "وكنتم تراباً وعظاماً" أي كان بعض أجزائكم تراباً، وبعضها عظاماً نخرة لا لحم فيها ولا أعصاب عليها، قيل وتقديم التراب لكونه أبعد في عقولهم. وقيل المعنى: كان متقدموكم تراباً، ومتأخروكم عظاماً "أنكم مخرجون" أي من قبوركم أحياء كما كنتم، قال سيبويه: أن الأولى في موضع نصب بوقوع أيعدكم عليها، وأن الثانية بدل منها. وقال الفراء والجرمي والمبرد: إن أن الثانية مكررة للتوكيد، وحسن تكريرها لطول الكلام، وبمثله قال الزجاج. وقال الأخفش: أن الثانية في محل رفع بفعل مضمر: أي يحدث إخراجكم كما تقول: اليوم القتال، فالمعنى: اليوم يحدث القتال.
36- "هيهات هيهات لما توعدون" أي بعد ما توعدون، أو بعيد ما توعدون، والتكرير للتأكيد. قال ابن الأنباري: وفي هيهات عشر لغات ثم سردها، وهي مبينة في علم النحو. وقد قرئ ببعضها، واللام في لما توعدون لبيان المستبعد كما في قوله: "هيت لك" كأنه قيل لماذا هذا الاستبعاد؟ فقيل لما توعدون. والمعنى: بعد إخراجككم للوعد الذي توعدون، هذا على أن هيهات اسم فعل. وقال الزجاج: هو في تقدير المصدر: أي البعد لما توعدون، أو بعد لما توعدون على قراءة من نون فتكون على هذا مبتدأ خبره لما توعدون.
ثم بين سبحانه إترافهم بأنهم قالوا: 37- "إن هي إلا حياتنا الدنيا" أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا، لا الحياة الآخرة التي تعدنا بها، وجملة "نموت ونحيا" مفسرة لما ادعوه من قصرهم حياتهم على حياة الدنيا.
ثم صرحوا بنفي البعث، وأن الوعد به منه افتراء على الله فقالوا: 38- " وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا " أي ما هو فيما يدعيه إلا مفتر للكذب على الله "وما نحن له بمؤمنين" أي بمصدقين له فيما يقوله.
39- "قال رب انصرني" أي قال نبيهم لما علم بأنهم لا يصدقونه ألبتة: رب انصرني عليهم وانتقم لي منهم بسبب تكذيبهم إياي.
40- "قال عما قليل ليصبحن نادمين" أي قال الله سبحانه مجيباً لدعائه واعداً له بالقبول لما دعا به: عما قليل من الزمان ليصبحن نادمين على ما وقع منهم من التكذيب والعناد والإصرار على الكفر، وما في عما قليل مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد لقلة الزمان كما في قوله: "فبما رحمة من الله".
ثم أخبر سبحانه بأنها 41- "أخذتهم الصيحة" وحاق بهم عذابه ونزل عليهم سخطه. قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله بها فماتوا جميعاً. وقيل الصيحة: هي نفس العذاب الذي نزل بهم، ومنه قول الشاعر: صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان والباء في بالحق متعلق بالأخذ، ثم أخبر سبحانه عما صاروا إليه بعد العذاب النازل بهم. فقال: "فجعلناهم غثاء" أي كغثاء السيل الذي يحمله: والغثاء ما يحمل السيل من بالي الشجر والحشيش والقصب ونحو ذلك مما يحمله على ظاهر الماء. والمعنى: صيرهم هلكى فيبسوا كما يبس الغثاء "فبعداً للقوم الظالمين" انتصاب بعداً على المصدرية وهو من المصادر التي لا يذكر فعلها معها: أي بعدوا بعداً، واللام لبيان من قيل له ذلك. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فاسلك فيها" يقول: اجعل معك في السفينة "من كل زوجين اثنين". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً" قال لنوح حين أنزل من السفينة. وأخرج هؤلاء عن قتادة في الآية قال: يعلمكم سبحانه كيف تقولون إذا ركبتم، وكيف تقولون إذا نزلتم. أما عند الركوب فـ " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون " و" بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم "، وعند النزول "رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "قرناً" قال: أمة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "هيهات هيهات" قال: بعيد بعيد. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "فجعلناهم غثاء" قال: جعلوا كالشيء الميت البالي من الشجر.
وقوله: 42- "ثم أنشأنا من بعدهم" أي من بعد إهلاكهم "قروناً آخرين" قيل هم قوم صالح ولوط وشعيب كما وردت قصتهم على هذا الترتيب في الأعراف وهود، وقيل هم بنو إسرائيل. والقرون الأمم، ولعل وجه الجمع هنا للقرون والإفراد فيما سبق قريباً أنه أراد ها هنا متعددة وهناك أمة واحدة.