سورة النور | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 354 من المصحف
32- لما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى ما يحل للعباد من النكاح الذي يكون به قضاء الشهوة وسكون دواعي الزنا ويسهل بعده غض البصر عن المحرمات وحفظ الفرج عما لا يحل، 32- فقال "وأنكحوا الأيامى منكم" الأيم التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً، والجمع أيامى والأصل أيايم، بتشديد الياء، ويشمل الرجل والمرأة. قال أبو عمرو والكسائي: اتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي المرأة التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً. قال أبو عبيد: يقال رجل أيم وامرأة أيم، وأكثر ما يكون في النساء، وهو كالمستعار في الرجال، ومنه قول أمية بنت أبي الصلت: لله در بني علي أيم منهم وناكح ومنه أيضاً قول الآخر: لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاء سليمى أن تأيم كما إمت والخطاب في الآية للأولياء، وقيل للأزواج، والأول أرجح، وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها، وقد خالف في ذلك أبو حنيفة. واختلف أهل العلم في النكاح هل مباح، أو مستحب، أو واجب؟ فذهب إلى الأول الشافعي وغيره، وإلى الثاني مالك وأبو حنيفة، وإلى الثالث بعض أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك، فقالوا: إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية وجب عليه وإلا فلا. والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع تلك الخشية، وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بعد ترغيبه في النكاح: "ومن رغب عن سنتي فليس مني" ولكن مع القدرة عليه، وعلى مؤنه كما سيأتي قريباً، والمراد بالأيامى هنا الأحرار والحرائر، وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله: "والصالحين من عبادكم وإمائكم" قرأ الجمهور "عبادكم" وقرأ الحسن عبيدكم قال الفراء:ويجوز يالنصب برده على الصالحين، والصلاح هو الايمان. وذكر سبحانه الصلاح في المماليك دون الأحرار لأن الغالب في الأحرار الصلاح بخلاف المماليك، وفيه دليل على أن المملوك لا يزوج نفسه، وإنما يزوجه مالكه. وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح. وقال مالك: لا يجوز. ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار فقال: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله"أي لا تمتنعوا من تزويج الأحرار بسبب فقر الرجل والمرأة أو أحدهما، فإنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله سبحانه ويتفضل عليهم بذلك. قال الزجاج: حث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر، ولا يلزم أن يكون هذا حاصلاً لكل فقير إذا تزوج فإن ذلك مقيد بالمشيئة، وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا. وقيل المعنى: إنه يغنيه بغنى النفس، وقيل المعنى: إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا. والوجه الأول أولى، ويدل عليه قوله سبحانه: "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء" فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك، وجملة "والله واسع عليم" مؤكدة لما قبلها ومقررة لها، والمراد أنه سبحانهذو سعة لا ينقص من سعة ملكه غنى من يغنيه من عباده عليم بمصالح خلقه، يغني من يشاء ويفقر من يشاء.
ثم ذكر سبحانه حال العاجزين عن النكاح بعد بيان جواز مناكحتهم إرشاداً لهم إلى ما هو الأولى فقال: 33- "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً" استعف طلب أن يكون عفيفاً: أي ليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد نكاحاً أي سبب نكاح، وهو المال. وقيل النكاح هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة كاللحاف اسم لما يلتحف به، واللباس اسم لما يلبس، وقيد سبحانه هذا النهي بتلك الغاية، وهي "حتى يغنيهم الله من فضله" أي يرزقهم رزقاً يستغنون به ويتمكنون بسببه من النكاح، وفي هذه الآية ما يدل على تقييد، الجملة الأولى: وهي أن يكونوا فقراء يغنهم الله بالمشيئة كما ذكرنا، فإنه لو كان وعداً حتماً لا محالة في حصوله لكان الغنى والزواج متلازمين، وحينئذ لا يكون للأمر بالاستعفاف مع الفقر كثير فائدة، فإنه سيغنى عند تزوجه لا محالة، فيكون في تزوجه مع فقره تحصيل للغنى، إلا أن يقال: إن هذا الأمر بالاستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادىء النكاح، ولا ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح، فإنه قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحاً إذا كان غير واجد لأسبابه التي يتحصل بها، وأعظمها المال. ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء، أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار فقال: "والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم" الموصول في محل رفع على الابتداء، ويجوز أن يكون في محل نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده:أي وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب: والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة، يقال: كاتب يكاتب كتاباً ومكاتبة، كما يقال قاتل يقاتل قتالاً ومقاتلة. وقيل الكتاب هاهنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه الشيء، وذلك لأنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتاباً، فيكون المعنى الذين يطلبون كتاب المكاتبة. ومعنى المكاتبة في الشرع: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجماً، فإذا أداه فهو حر، وظاهر قوله: "فكاتبوهم" أن العبد إذا طلب الكتابة من سيده وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده، وهو "إن علمتم فيهم خيراً" والخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه وإن لم يكن له مال، وقيل هو المال فقط، كما ذهب إليه مجاهد والحسن وعطاء والضحاك وطاوس ومقاتل. وذهب إلى الأول ابن عمر وابن زيد، واختاره مالك، والشافعي والفراء والزجاج. قال الفراء: يقول إن رجوتم عندهم وفاء وتأدية للمال. وقال الزجاج: لما قال "فيهم" كان الأظهر الاكتساب، والوفاء وأداء الأمانة. وقال النخعي: إن الخير الدين والأمانة. وروي مثل هذا عن الحسن. وقال عبيدة السلماني: إقامة الصلاة. قال الطحاوي: وقول من قال إنه المال لا يصح عندنا، لأن العبد مال لمولاه فكيف يكون له مال؟ قال: والمعنى عندنا إن علمتم فيهم الدين والصدق. قال أبو عمر بن عبد البر: من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال: إن علمتم فيهم مالاً، وإنما يقال علمت فيه الخير والصلاح والأمانة، ولا يقال علمت فيه المال. هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم في الخير المذكور في هذه الآية. وإذا تقرر لك هذا، فاعلم أنه قد ذهب ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور في الآية من الوجوب، [أما] عكرمة ومسروق وعمر بن دينار والضحاك: وأهل الظاهر، فقالوا: يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك وعلم فيه خيراً. وقال الجمهور من أهل العلم: لا يجب ذلك، وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك ولم يجبر عليه، فكذا الكتابة لأنها معاوضة. ولا يخفاك أن هذه حجة واهية وشبهة داحضة، والحق ما قاله الأولون، وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس واختاره ابن جرير. ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين، فقال: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" ففي هذه الآية الأمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة، إما بأن يعطوهم شيئاً من المال وبأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه، وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار، وقيل الثلث، وقيل الربع، وقيل العشر، ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم، وسياق الكلام معهم فإنهمم المأمورون بالكتابة. وقال الحسن والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقوله: وآتوهم لجميع الناس. وقالزيد بن أسلم: إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم كما في قوله سبحانه: "وفي الرقاب"، وللمكاتب أحكام معروفة إذا وفى ببعض مال الكتابة. ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا فقال: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء" والمراد بالفتيات هنا الإماء وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر. والبغاء: الزنا، مصدر بغت المرأة تبغي بغاءً إذا زنت، وهذا مختص بزنا النساء، فلا يقال للرجل إذا زنا إنه بغي، وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله: "إن أردن تحصناً" لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادتهم للتحصن، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها مكرهة على الزنا، والمراد بالتحصن هنا: التعفف والتزوج. وقيل إن هذا القيد راجع إلى الأيامى. قال الزجاج والحسن بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير: أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم وإمائكم إن أردن تحصناً. وقيل هذا الشرط. ملغى. وقيل إن هذا الشرط باعتبار ما كانوا عليه، فإنهم كانوا يكرهونهن وهن يردن التعفف، وليس لتخصص النهي بصورة إرادتهن التعفف. وقيل إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب، لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن، وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه، فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال ولا للحرام كما فيمن لا رغبة لها في النكاح، والصغيرة فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن، فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن، إلا أن يقال إن المراد بالتحصن هنا مجرد التعفف، وأنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن وهو بعيد، فقد قال الحبر بن العباس: إن المراد بالتحصن التعفف والتزوج، وتابعه على ذلك غيره. ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: "لتبتغوا عرض الحياة الدنيا" وهو ما تكسبه الأمة بفرجها، وهذا التعليل أيضاً خارج مخرج الغالب، والمعنى: أن هذا العرض هو الذي كان يحملهم على إكراهالإماء على البغاء في الغالب، لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا لفائدة له أصلاً لا يصدر مثله عن العقلاء، فلا يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها، إذا لم يكن مبتغياً بإكراهها عرض الحياة الدنيا. وقيل إن هذا التعليل للإكراه هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك، لا أنه مدار للنهي عن الإكراه لهن، وهذا يلاقي المعنى الأول ولا يخالفه "ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" هذا مقرر لما قبله ومؤكد له،والمعنى أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرهين لا إلى المكرهات، كما تدل عليه قراءة ابن مسعود وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير: فإن الله غفور رحيم لهن. قيل وفي هذا التفسير بعد، لأن المكرهة على الزنا غير أثمة. واجيب بأنها وإن كانت مكرهة، فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة إما بحكم الجبلة البشرية، أو يكون الإكراه قاصراً عن حد الإلجاء المزيل للاختيار. وقيل إن المعنى: فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم: إما مطلقاً، أو بشرط التوبة. ولما فرغ سبحانه من بيان تلك الأحكام، شرع في وصف القرآن بصفات ثلاث: الأولى أنه آيات مبينات: أي واضحات في أنفسهن أو موضحات، فتدخل الآيات المذكورة في هذه الصورة دخولاً أولياً. والصفة الثانية كونه مثلاً من الذين خلوا من قبل هؤلاء: أي مثلاً كائناً من جهة أمثال الذين مضوا من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، فإن العجب من قصة عائشة رضي الله عنها، هو كالعجب من قصة يوسف ومريم وما أتهما به، ثم تبين بطلانه وبراءتهما سلام الله عليهما.
34-والصفة الثالثة كونه "موعظة"ينتفع بها المتقون خاصة، فيقتدون بما فيه من الأوامر، وينزجرون عما فيه من النواهي. وأما غيز المتقين، فإن الله قد ختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة عن سماع المواعظ والاعتبار بقصص الذين خلوا، وفهم ما تشتمل عليه الآيات البينات. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " وأنكحوا الأيامى " الآية قال: أمر الله سبحانه بالنكاح ورغبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى فقال: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق قال: أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، قال تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله". وأخرج عبد الرزاق في المصنف وعبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة، وقد وعد الله فيها ما وعد، فقال: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عنه نحوه من طريق أخرى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه. وأخرج البزار والدارقطني في العلل والحاكم وابن مردويه والديلمي من طريق عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنكحوا النساء، فإنهن يأتينكم بالمال". وأخرجه عبد الرزاق وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله" وقد ورد في الترغيب في مطلق النكاح أحاديث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس في قوله: "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً" قال: ليتزوج من لا يجد فإن الله سيغنيه. وأخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال: كنت مملوكاً لحويطب بن عبد العزى، فسألته الكتابة فأبى، فنزلت " والذين يبتغون الكتاب " الآية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب فأقبل علي بالدرة وقال: كاتبه وتلا "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" فكاتبته. قال ابن كثير إن إسناده صحيح. وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي في سننه عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:""فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" قال إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلا على الناس". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس "إن علمتم فيهم خيراً" قال: المال. وأخرج ابن مردويه عن علي مثله. وأخرج البيهقي عن ابن عباس في الآية قال: أمانة ووفاء.وأخرج عنه أيضاً قال: إن علمت مكاتبك يقضيك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه في الآية قال: إن علمتم لهم حيلة، ولا تلقوا مؤنتهم على المسلمين "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" يعني ضعوا عنهم في مكاتبتهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن نافع قال: كان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة ويقول: يطعمني من أوساخ الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله: "وآتوهم من مال الله" الآية: أمر المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقال علي بن أبي طالب: أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه. وهذا تعليم من الله ليس بفريضة، ولكن فيه أجر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والروياني في مسنده والضياء المقدسي في المختارة عن بريدة في الآية قال: حث الناس عليه أن يعطوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة ومسلم والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي من طريق أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: كان عبد الله بن أبي يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً،وكانت كارهة، فأنزل الله " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " هكذا كان يقرأها، وذكر مسلم في صحيحه عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي: يقال لها مسيكة، وأخرى يقال لها أميمة، فكان يريدهما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله "ولا تكرهوا فتياتكم" الآية. وأخرج البزار وابن مردويه عن أنس نحو حديث جابر الأول. وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب في الآية قال: كان أهل الجاهلية يبغين إماءهم، فنهوا عن ذلك في الإسلام. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا، يأخذون أجورهن فنزلت الآية. وقد ورد النهي منه صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن.
لما بين سبحانه من الأحكام ما بين أردف ذلك بكونه سبحانه في غاية الكمال فقال: 35- "الله نور السماوات والأرض" وهذه الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها، والاسم الشريف مبتدأ، ونور السماوات والأرض خبره، إما على حذف مضاف: أي ذو نور السماوات والأرض، أو لكون المراد المبالغة في وصفه سبحانه بأنه نور لكمال جلاله وظهور عدله وبسطه أحكامه، كما يقال فلان نور البلد وقمر الزمن وشمس العصر، ومنه قول النابغة: فإنك شمس والملوك كواكب إذا ظهرت لم يبق فيهن كوكب وقول الآخر: هلا قصدت من البلاد لمفضل قمر القبائل خالد بن يزيد ومن ذلك قول الشاعر: إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها وقول الآخر: نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراومن فلق الصباح عمودا ومعنى النور في اللغة: الضياء، وهو الذي يبين الأشياء ويري الأبصار حقيقة ما تراه، فيجوز إطلاق النور على الله سبحانه على طريقة المدح، ولكونه أوجد الأشياء المنورة وأوجد أنوارها ونورها، ويدل على هذا المعنى قراءة زيد بن علي وابي جعفر وعبد العزيز المكي "الله نور السماوات والأرض" على صيغة الفعل الماضي، وفاعله ضمير يرجع إلى منيرتين باستقامة أحوال أهلهما وكمال تدبيره عز وجل لمن فيهما، كما يقال الملك نور البلد، هكذا قال الحسن ومجاهد والأزهري والضحاك والقرظي وابن عرفة وابن جرير وغيرهم، ومثله قول الشاعر: وانت لنا نور وغيث وعصمة ونبت لمن يرجو نداك وريف وقال هشام الجواليقي وطائفة من المجسمة: إنه سبحانه نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام، وقوله: "مثل نوره" مبتدأ وخبره "كمشكاة" أي صفة نوره الفائض عنه، عنه، الظاهر على الأشياء كمشكاة، والمشكاة الكوة في الحائط غير النافذة، كذا حكاه الواحدي عن جميع المفسرين، وحكاه القرطبي عن جمهورهم. ووجه تخصيص المشكاة أنها أجمع للضوء الذي يكون فيه من مصباح أو غيره، وأصل المشكاة الوعاء الذي يجعل فيه الشيء. وقيل المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد هي القنديل. والأول أولى، ومنه قول الشاعر: كأن عينيه مشكاتان في جحر ثم قال: "فيها مصباح" وهو السراج "المصباح في زجاجة" قال الزجاج: النور في الزجاج وضوء النار أبين منه في كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج، ووجه ذلك: أن الزجاج جسم شفاف يظهر فيه النور أكمل ظهور. ثم وصف الزجاجة فقال: "الزجاجة كأنها كوكب دري" أي منسوب إلى الدر لكون فيه من الصفاء والحسن ما يشابه الدر. وقال الضحاك: الكوكب الدري الزهرة. قرأ أبو عمر "دري" بكسر الدال. قال أبو عمرو: لم أسمع أعرابياً يقول: إلا كأنه كوكب دري بكسر الدال، أخذوه من درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت. وقرأ حمزة بضم الدال مهموزاً، وأنكره الفراء والزجاج والمبرد. قال أبو عبيد: إن ضممت الدال وجب أن لا تهمز، لأنه ليس في كلام العرب. والدراري هي المشهورة من الكواكب كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت. ثم وصف المصباح بقوله: "يوقد من شجرة مباركة" ومن هذه هي الإبتدائية: أي ابتداء إيقاد المصباح منها، وقيل هو على تقدير مضاف: أي يوقد من زيت شجرة مباركة، والمباركة الكثيرة المنافع. وقيل المنماة، والزيتون من أعظم الثمار نماء، ومنه قول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس: ليت شعري مسافر بن أبي عمرو وليت يقولها المحزون بورك الميت الغريب كما بورك نبع الرمان والزيتون قيل ومن بركتها أن أغصانها تورق من أسفلها إلى أعلاها، وهي إدام ودهان ودباغ ووقود، وليس فيها شيء إلا وفيه منفعة، ثم وصفها بأنها "لا شرقية ولا غربية". وقد اختلف المفسرون في معنى هذا الوصف، فقال عكرمة وقتادة وغيرهم: إن الشرقية هي التي تصيبها الشمس إذا شرقت. ولا تصيبها إذا غربت. والغربية هي التي تصيبها إذا غربت، ولا تصيبها إذا شرقت. وهذه الزيتونة هي في صحراء بحيث لا يسترها عن الشمس شيء لا في حال شروقها ولا في حال غروبها، وما كانت من الزيتون هكذا فثمرها أجود. وقيل إن المعنى: إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها، فهي غير منكشفة من جهة الشرق، ولا من جهة الغرب، حكى هذاابن جرير عن ابن عباس. قال ابن عطية: وهذا لا يصح عن ابن عباس، لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها، وذلك مشاهد في الوجود. ورجح القول الأول الفراء والزجاج. وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية. قال الثعلبي: قد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا، لأن قوله زيتونة بدل من قوله شجرة. قال ابن زيد: إنها من شجر الشام، فإن الشام لا شرقي ولا غربي، والشام هي الأرض المباركة. وقد قرىء "توقد" بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الزجاجة دون المصباح، وبها قرأ الكوفيون. وقرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام وحفص "يوقد" بالتحتية مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال. وقرأ الحسن والسلمي وأبو عمر بن العلاء وأبو جعفر "توقد" بالفوقية مفتوحة وفتح الواو وتشديد القاف وفتح الدال على أنه فعل ماض من توقد يتوقد، والضمير في هاتين القراءتين راجع إلى المصباح. قال النحاس: وهاتان القراءتان متقاربتان لأنهما جميعاً للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف لأنه الذي ينير ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له. وقرأ نصر بن عاصم كقراءة أبي عمرو ومن معه إلا أنه ضم الدال على أنه فعل مضارع، وأصله تتوقد. ثم وصف الزيتونة بوصف آخر فقال: "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار" قرأ الجمهور "تمسسه" بالفوقية، لأن النار مؤنثة. قال أبو عبيد: إنه لا يعرف إلا هذه القراءة. وحكى أبو حاتم أن السدي روى عن ابي مالك عن ابن عباس أنه قرأ "يمسسه" بالتحتية لكون تأنيث النار غير حقيقي. والمعنى: أن هذا الزيت في صفائه وإنارته يكاد يضيء بنفسه من غير أن تمسه النار أصلاً، وارتفاع "نور" على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هي نور، و"على نور" متعلق بمحذوف هو صفة لنور مؤكدة له، والمعنى: هو نور كائن على نور. قال مجاهد: والمراد النار على الزيت. وقال الكلبي: المصباح نور، والزجاجة نور وقال السدي: نور الإيمان ونور القرأن "يهدي الله لنوره من يشاء" من عباده: أي هداية خاصة موصلة إلى المطلوب، وليس المراد بالهداية هنا مجرد الدلالة "ويضرب الله الأمثال للناس"أي يبين الأشياء بأشباهها ونظائرها تقريباً لها إلى الأفهام وتسهيلاً لإدراكها، لأن إبراز المعقول في هيئة المحسوس وتصويره بصورته يزيده وضوحاً وبياناً "والله بكل شيء عليم" لا يغيب عنه شيء من الأشياء معقولاً كان أو محسوساً، ظاهراً أو باطناً.
36-واختلف في قوله: "في بيوت أذن الله أن ترفع" بما هو متعلق، فقيل متعلق بما قبله: أي كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد، كأنه قيل مثل نوره كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت، وقيل متعلق بمصباح. وقال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس يقول: هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب، كأنه قيل: وهي في بيوت، وقيل متعلق يتوقد، أي توقد في بيون، وقد قيل متعلق بما بعده، وهو "يسبح": أي يسبح له رجال في بيوت، وعلى هذا يكون قوله: "فيها" تكريراً كقولك، زيد في الدار جالس فيها. وقيل إنه منفصل عما قبله، كأنه قال الله: في بيوت أذن الله أن ترفع. قال الحكيم الترمذي: وبذلك جاءت الأخبار أنه من جلس في المساجد فإنما يجالس ربه. وقد قيل على تقدير تعلقه بمشكاة أو مصباح أو بتوقد ما الوجه في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيت؟ ولا تكون المشكاة الواحدة ولا المصباح الواحد إلا في بيت واحد. وأجيب بأن هذا من الخطاب الذي يفتح أوله بالتوحيد، ويختم بالجمع كقوله سبحانه "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء" ونحوه.وقيل معنى في بيوت: في كل واحد من البيوت، فكأنه قال: في كل بيت، أو في كل واحد من البيت. واختلف الناس في البيوت، على أقوال: الأول أنها المساجد، وهو قول مجاهد والحسن وغيرها. الثاني لأن المراد بها بيوت بيت المقدس، روي ذلك عن الحسن. الثالث أنها بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، روي عن مجاهد: الرابع هي البيوت كلها، قاله عكرمة. الخامس أنها المساجد الأربعة: الكعبة، ومسجد قباء، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، قاله ابن زيد. والقول الأول أظهر لقوله: "يسبح له فيها بالغدو والآصال" والباء من بيت تضم وتكسر كل ذلك ثابت في اللغة، ومعنى أذن الله أن ترفع: أمر وقضى، ومعنى ترفع وتبنى، قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما، ومنه قوله سبحانه "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" وقال الحسن البصري وغيره: معنى ترفع تعظم ويرفع شأنها وتطهر من الأنجاس والأقذار، ورجحه الزجاج وقيل المراد بالرفع هنا مجموع الأمرين، ومعنى "يذكر فيها اسمه" كل ذكر لله عز وجل، وقيل هو التوحيد، وقيل المراد تلاوة القرآن، والأول أولى " يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال " قرأ ابن عامر وأبو بكر "يسبح" بفتح الباء الموحدة مبنياً للمفعول، وقرأ الباقون بكسرها مبنياً للفاعل إلا ابن وثاب وأبا حيوة فإنهما قرآ بالتاء الفوقية وكسر الموحدة، فعلى القراءة الأولى يكون القائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثلاثة، ويكون رجال مرفوع على أحد وجهين: إما بفعل مقدر، وكأنه جواب سؤال مقدر، كأنه من يسبحه؟ فقيل يسبحه رجال. الثاني أن رجال مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. وعلى القراءة الثانية يكون "رجال" فاعل "يسبح" وعلى القراءة الثالثة يكون الفاعل أيضاً "رجال"، وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال. واختلف في هذا التسبيح ما هو؟ فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة، قالوا: الغدو صلاة الصبح، والأصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين، لأن اسم الآصال يشملها، ومعنى بالغدو والآصال: بالغداة والعشي وقيل صلاة الصبح والعصر، وقيل المراد صلاة الضحى، وقيل المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي، وهو تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله، ويؤيد هذا ذكر الصلاة والزكاة بعده، وهذا أرجح مما قبله، لكونه المعنى الحقيقي مع وجود دليل على خلاف ما ذهب إليه الأولون.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 354
35332- لما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى ما يحل للعباد من النكاح الذي يكون به قضاء الشهوة وسكون دواعي الزنا ويسهل بعده غض البصر عن المحرمات وحفظ الفرج عما لا يحل، 32- فقال "وأنكحوا الأيامى منكم" الأيم التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً، والجمع أيامى والأصل أيايم، بتشديد الياء، ويشمل الرجل والمرأة. قال أبو عمرو والكسائي: اتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي المرأة التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً. قال أبو عبيد: يقال رجل أيم وامرأة أيم، وأكثر ما يكون في النساء، وهو كالمستعار في الرجال، ومنه قول أمية بنت أبي الصلت: لله در بني علي أيم منهم وناكح ومنه أيضاً قول الآخر: لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاء سليمى أن تأيم كما إمت والخطاب في الآية للأولياء، وقيل للأزواج، والأول أرجح، وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها، وقد خالف في ذلك أبو حنيفة. واختلف أهل العلم في النكاح هل مباح، أو مستحب، أو واجب؟ فذهب إلى الأول الشافعي وغيره، وإلى الثاني مالك وأبو حنيفة، وإلى الثالث بعض أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك، فقالوا: إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية وجب عليه وإلا فلا. والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع تلك الخشية، وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بعد ترغيبه في النكاح: "ومن رغب عن سنتي فليس مني" ولكن مع القدرة عليه، وعلى مؤنه كما سيأتي قريباً، والمراد بالأيامى هنا الأحرار والحرائر، وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله: "والصالحين من عبادكم وإمائكم" قرأ الجمهور "عبادكم" وقرأ الحسن عبيدكم قال الفراء:ويجوز يالنصب برده على الصالحين، والصلاح هو الايمان. وذكر سبحانه الصلاح في المماليك دون الأحرار لأن الغالب في الأحرار الصلاح بخلاف المماليك، وفيه دليل على أن المملوك لا يزوج نفسه، وإنما يزوجه مالكه. وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح. وقال مالك: لا يجوز. ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار فقال: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله"أي لا تمتنعوا من تزويج الأحرار بسبب فقر الرجل والمرأة أو أحدهما، فإنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله سبحانه ويتفضل عليهم بذلك. قال الزجاج: حث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر، ولا يلزم أن يكون هذا حاصلاً لكل فقير إذا تزوج فإن ذلك مقيد بالمشيئة، وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا. وقيل المعنى: إنه يغنيه بغنى النفس، وقيل المعنى: إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا. والوجه الأول أولى، ويدل عليه قوله سبحانه: "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء" فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك، وجملة "والله واسع عليم" مؤكدة لما قبلها ومقررة لها، والمراد أنه سبحانهذو سعة لا ينقص من سعة ملكه غنى من يغنيه من عباده عليم بمصالح خلقه، يغني من يشاء ويفقر من يشاء.
ثم ذكر سبحانه حال العاجزين عن النكاح بعد بيان جواز مناكحتهم إرشاداً لهم إلى ما هو الأولى فقال: 33- "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً" استعف طلب أن يكون عفيفاً: أي ليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد نكاحاً أي سبب نكاح، وهو المال. وقيل النكاح هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة كاللحاف اسم لما يلتحف به، واللباس اسم لما يلبس، وقيد سبحانه هذا النهي بتلك الغاية، وهي "حتى يغنيهم الله من فضله" أي يرزقهم رزقاً يستغنون به ويتمكنون بسببه من النكاح، وفي هذه الآية ما يدل على تقييد، الجملة الأولى: وهي أن يكونوا فقراء يغنهم الله بالمشيئة كما ذكرنا، فإنه لو كان وعداً حتماً لا محالة في حصوله لكان الغنى والزواج متلازمين، وحينئذ لا يكون للأمر بالاستعفاف مع الفقر كثير فائدة، فإنه سيغنى عند تزوجه لا محالة، فيكون في تزوجه مع فقره تحصيل للغنى، إلا أن يقال: إن هذا الأمر بالاستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادىء النكاح، ولا ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح، فإنه قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحاً إذا كان غير واجد لأسبابه التي يتحصل بها، وأعظمها المال. ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء، أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار فقال: "والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم" الموصول في محل رفع على الابتداء، ويجوز أن يكون في محل نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده:أي وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب: والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة، يقال: كاتب يكاتب كتاباً ومكاتبة، كما يقال قاتل يقاتل قتالاً ومقاتلة. وقيل الكتاب هاهنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه الشيء، وذلك لأنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتاباً، فيكون المعنى الذين يطلبون كتاب المكاتبة. ومعنى المكاتبة في الشرع: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجماً، فإذا أداه فهو حر، وظاهر قوله: "فكاتبوهم" أن العبد إذا طلب الكتابة من سيده وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده، وهو "إن علمتم فيهم خيراً" والخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه وإن لم يكن له مال، وقيل هو المال فقط، كما ذهب إليه مجاهد والحسن وعطاء والضحاك وطاوس ومقاتل. وذهب إلى الأول ابن عمر وابن زيد، واختاره مالك، والشافعي والفراء والزجاج. قال الفراء: يقول إن رجوتم عندهم وفاء وتأدية للمال. وقال الزجاج: لما قال "فيهم" كان الأظهر الاكتساب، والوفاء وأداء الأمانة. وقال النخعي: إن الخير الدين والأمانة. وروي مثل هذا عن الحسن. وقال عبيدة السلماني: إقامة الصلاة. قال الطحاوي: وقول من قال إنه المال لا يصح عندنا، لأن العبد مال لمولاه فكيف يكون له مال؟ قال: والمعنى عندنا إن علمتم فيهم الدين والصدق. قال أبو عمر بن عبد البر: من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال: إن علمتم فيهم مالاً، وإنما يقال علمت فيه الخير والصلاح والأمانة، ولا يقال علمت فيه المال. هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم في الخير المذكور في هذه الآية. وإذا تقرر لك هذا، فاعلم أنه قد ذهب ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور في الآية من الوجوب، [أما] عكرمة ومسروق وعمر بن دينار والضحاك: وأهل الظاهر، فقالوا: يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك وعلم فيه خيراً. وقال الجمهور من أهل العلم: لا يجب ذلك، وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك ولم يجبر عليه، فكذا الكتابة لأنها معاوضة. ولا يخفاك أن هذه حجة واهية وشبهة داحضة، والحق ما قاله الأولون، وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس واختاره ابن جرير. ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين، فقال: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" ففي هذه الآية الأمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة، إما بأن يعطوهم شيئاً من المال وبأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه، وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار، وقيل الثلث، وقيل الربع، وقيل العشر، ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم، وسياق الكلام معهم فإنهمم المأمورون بالكتابة. وقال الحسن والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقوله: وآتوهم لجميع الناس. وقالزيد بن أسلم: إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم كما في قوله سبحانه: "وفي الرقاب"، وللمكاتب أحكام معروفة إذا وفى ببعض مال الكتابة. ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا فقال: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء" والمراد بالفتيات هنا الإماء وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر. والبغاء: الزنا، مصدر بغت المرأة تبغي بغاءً إذا زنت، وهذا مختص بزنا النساء، فلا يقال للرجل إذا زنا إنه بغي، وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله: "إن أردن تحصناً" لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادتهم للتحصن، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها مكرهة على الزنا، والمراد بالتحصن هنا: التعفف والتزوج. وقيل إن هذا القيد راجع إلى الأيامى. قال الزجاج والحسن بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير: أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم وإمائكم إن أردن تحصناً. وقيل هذا الشرط. ملغى. وقيل إن هذا الشرط باعتبار ما كانوا عليه، فإنهم كانوا يكرهونهن وهن يردن التعفف، وليس لتخصص النهي بصورة إرادتهن التعفف. وقيل إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب، لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن، وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه، فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال ولا للحرام كما فيمن لا رغبة لها في النكاح، والصغيرة فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن، فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن، إلا أن يقال إن المراد بالتحصن هنا مجرد التعفف، وأنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن وهو بعيد، فقد قال الحبر بن العباس: إن المراد بالتحصن التعفف والتزوج، وتابعه على ذلك غيره. ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: "لتبتغوا عرض الحياة الدنيا" وهو ما تكسبه الأمة بفرجها، وهذا التعليل أيضاً خارج مخرج الغالب، والمعنى: أن هذا العرض هو الذي كان يحملهم على إكراهالإماء على البغاء في الغالب، لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا لفائدة له أصلاً لا يصدر مثله عن العقلاء، فلا يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها، إذا لم يكن مبتغياً بإكراهها عرض الحياة الدنيا. وقيل إن هذا التعليل للإكراه هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك، لا أنه مدار للنهي عن الإكراه لهن، وهذا يلاقي المعنى الأول ولا يخالفه "ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" هذا مقرر لما قبله ومؤكد له،والمعنى أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرهين لا إلى المكرهات، كما تدل عليه قراءة ابن مسعود وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير: فإن الله غفور رحيم لهن. قيل وفي هذا التفسير بعد، لأن المكرهة على الزنا غير أثمة. واجيب بأنها وإن كانت مكرهة، فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة إما بحكم الجبلة البشرية، أو يكون الإكراه قاصراً عن حد الإلجاء المزيل للاختيار. وقيل إن المعنى: فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم: إما مطلقاً، أو بشرط التوبة. ولما فرغ سبحانه من بيان تلك الأحكام، شرع في وصف القرآن بصفات ثلاث: الأولى أنه آيات مبينات: أي واضحات في أنفسهن أو موضحات، فتدخل الآيات المذكورة في هذه الصورة دخولاً أولياً. والصفة الثانية كونه مثلاً من الذين خلوا من قبل هؤلاء: أي مثلاً كائناً من جهة أمثال الذين مضوا من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، فإن العجب من قصة عائشة رضي الله عنها، هو كالعجب من قصة يوسف ومريم وما أتهما به، ثم تبين بطلانه وبراءتهما سلام الله عليهما.
34-والصفة الثالثة كونه "موعظة"ينتفع بها المتقون خاصة، فيقتدون بما فيه من الأوامر، وينزجرون عما فيه من النواهي. وأما غيز المتقين، فإن الله قد ختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة عن سماع المواعظ والاعتبار بقصص الذين خلوا، وفهم ما تشتمل عليه الآيات البينات. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " وأنكحوا الأيامى " الآية قال: أمر الله سبحانه بالنكاح ورغبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى فقال: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق قال: أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، قال تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله". وأخرج عبد الرزاق في المصنف وعبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة، وقد وعد الله فيها ما وعد، فقال: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عنه نحوه من طريق أخرى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه. وأخرج البزار والدارقطني في العلل والحاكم وابن مردويه والديلمي من طريق عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنكحوا النساء، فإنهن يأتينكم بالمال". وأخرجه عبد الرزاق وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله" وقد ورد في الترغيب في مطلق النكاح أحاديث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس في قوله: "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً" قال: ليتزوج من لا يجد فإن الله سيغنيه. وأخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال: كنت مملوكاً لحويطب بن عبد العزى، فسألته الكتابة فأبى، فنزلت " والذين يبتغون الكتاب " الآية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب فأقبل علي بالدرة وقال: كاتبه وتلا "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" فكاتبته. قال ابن كثير إن إسناده صحيح. وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي في سننه عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:""فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" قال إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلا على الناس". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس "إن علمتم فيهم خيراً" قال: المال. وأخرج ابن مردويه عن علي مثله. وأخرج البيهقي عن ابن عباس في الآية قال: أمانة ووفاء.وأخرج عنه أيضاً قال: إن علمت مكاتبك يقضيك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه في الآية قال: إن علمتم لهم حيلة، ولا تلقوا مؤنتهم على المسلمين "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" يعني ضعوا عنهم في مكاتبتهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن نافع قال: كان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة ويقول: يطعمني من أوساخ الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله: "وآتوهم من مال الله" الآية: أمر المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقال علي بن أبي طالب: أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه. وهذا تعليم من الله ليس بفريضة، ولكن فيه أجر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والروياني في مسنده والضياء المقدسي في المختارة عن بريدة في الآية قال: حث الناس عليه أن يعطوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة ومسلم والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي من طريق أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: كان عبد الله بن أبي يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً،وكانت كارهة، فأنزل الله " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " هكذا كان يقرأها، وذكر مسلم في صحيحه عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي: يقال لها مسيكة، وأخرى يقال لها أميمة، فكان يريدهما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله "ولا تكرهوا فتياتكم" الآية. وأخرج البزار وابن مردويه عن أنس نحو حديث جابر الأول. وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب في الآية قال: كان أهل الجاهلية يبغين إماءهم، فنهوا عن ذلك في الإسلام. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا، يأخذون أجورهن فنزلت الآية. وقد ورد النهي منه صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن.
لما بين سبحانه من الأحكام ما بين أردف ذلك بكونه سبحانه في غاية الكمال فقال: 35- "الله نور السماوات والأرض" وهذه الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها، والاسم الشريف مبتدأ، ونور السماوات والأرض خبره، إما على حذف مضاف: أي ذو نور السماوات والأرض، أو لكون المراد المبالغة في وصفه سبحانه بأنه نور لكمال جلاله وظهور عدله وبسطه أحكامه، كما يقال فلان نور البلد وقمر الزمن وشمس العصر، ومنه قول النابغة: فإنك شمس والملوك كواكب إذا ظهرت لم يبق فيهن كوكب وقول الآخر: هلا قصدت من البلاد لمفضل قمر القبائل خالد بن يزيد ومن ذلك قول الشاعر: إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها وقول الآخر: نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراومن فلق الصباح عمودا ومعنى النور في اللغة: الضياء، وهو الذي يبين الأشياء ويري الأبصار حقيقة ما تراه، فيجوز إطلاق النور على الله سبحانه على طريقة المدح، ولكونه أوجد الأشياء المنورة وأوجد أنوارها ونورها، ويدل على هذا المعنى قراءة زيد بن علي وابي جعفر وعبد العزيز المكي "الله نور السماوات والأرض" على صيغة الفعل الماضي، وفاعله ضمير يرجع إلى منيرتين باستقامة أحوال أهلهما وكمال تدبيره عز وجل لمن فيهما، كما يقال الملك نور البلد، هكذا قال الحسن ومجاهد والأزهري والضحاك والقرظي وابن عرفة وابن جرير وغيرهم، ومثله قول الشاعر: وانت لنا نور وغيث وعصمة ونبت لمن يرجو نداك وريف وقال هشام الجواليقي وطائفة من المجسمة: إنه سبحانه نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام، وقوله: "مثل نوره" مبتدأ وخبره "كمشكاة" أي صفة نوره الفائض عنه، عنه، الظاهر على الأشياء كمشكاة، والمشكاة الكوة في الحائط غير النافذة، كذا حكاه الواحدي عن جميع المفسرين، وحكاه القرطبي عن جمهورهم. ووجه تخصيص المشكاة أنها أجمع للضوء الذي يكون فيه من مصباح أو غيره، وأصل المشكاة الوعاء الذي يجعل فيه الشيء. وقيل المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد هي القنديل. والأول أولى، ومنه قول الشاعر: كأن عينيه مشكاتان في جحر ثم قال: "فيها مصباح" وهو السراج "المصباح في زجاجة" قال الزجاج: النور في الزجاج وضوء النار أبين منه في كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج، ووجه ذلك: أن الزجاج جسم شفاف يظهر فيه النور أكمل ظهور. ثم وصف الزجاجة فقال: "الزجاجة كأنها كوكب دري" أي منسوب إلى الدر لكون فيه من الصفاء والحسن ما يشابه الدر. وقال الضحاك: الكوكب الدري الزهرة. قرأ أبو عمر "دري" بكسر الدال. قال أبو عمرو: لم أسمع أعرابياً يقول: إلا كأنه كوكب دري بكسر الدال، أخذوه من درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت. وقرأ حمزة بضم الدال مهموزاً، وأنكره الفراء والزجاج والمبرد. قال أبو عبيد: إن ضممت الدال وجب أن لا تهمز، لأنه ليس في كلام العرب. والدراري هي المشهورة من الكواكب كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت. ثم وصف المصباح بقوله: "يوقد من شجرة مباركة" ومن هذه هي الإبتدائية: أي ابتداء إيقاد المصباح منها، وقيل هو على تقدير مضاف: أي يوقد من زيت شجرة مباركة، والمباركة الكثيرة المنافع. وقيل المنماة، والزيتون من أعظم الثمار نماء، ومنه قول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس: ليت شعري مسافر بن أبي عمرو وليت يقولها المحزون بورك الميت الغريب كما بورك نبع الرمان والزيتون قيل ومن بركتها أن أغصانها تورق من أسفلها إلى أعلاها، وهي إدام ودهان ودباغ ووقود، وليس فيها شيء إلا وفيه منفعة، ثم وصفها بأنها "لا شرقية ولا غربية". وقد اختلف المفسرون في معنى هذا الوصف، فقال عكرمة وقتادة وغيرهم: إن الشرقية هي التي تصيبها الشمس إذا شرقت. ولا تصيبها إذا غربت. والغربية هي التي تصيبها إذا غربت، ولا تصيبها إذا شرقت. وهذه الزيتونة هي في صحراء بحيث لا يسترها عن الشمس شيء لا في حال شروقها ولا في حال غروبها، وما كانت من الزيتون هكذا فثمرها أجود. وقيل إن المعنى: إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها، فهي غير منكشفة من جهة الشرق، ولا من جهة الغرب، حكى هذاابن جرير عن ابن عباس. قال ابن عطية: وهذا لا يصح عن ابن عباس، لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها، وذلك مشاهد في الوجود. ورجح القول الأول الفراء والزجاج. وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية. قال الثعلبي: قد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا، لأن قوله زيتونة بدل من قوله شجرة. قال ابن زيد: إنها من شجر الشام، فإن الشام لا شرقي ولا غربي، والشام هي الأرض المباركة. وقد قرىء "توقد" بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الزجاجة دون المصباح، وبها قرأ الكوفيون. وقرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام وحفص "يوقد" بالتحتية مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال. وقرأ الحسن والسلمي وأبو عمر بن العلاء وأبو جعفر "توقد" بالفوقية مفتوحة وفتح الواو وتشديد القاف وفتح الدال على أنه فعل ماض من توقد يتوقد، والضمير في هاتين القراءتين راجع إلى المصباح. قال النحاس: وهاتان القراءتان متقاربتان لأنهما جميعاً للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف لأنه الذي ينير ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له. وقرأ نصر بن عاصم كقراءة أبي عمرو ومن معه إلا أنه ضم الدال على أنه فعل مضارع، وأصله تتوقد. ثم وصف الزيتونة بوصف آخر فقال: "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار" قرأ الجمهور "تمسسه" بالفوقية، لأن النار مؤنثة. قال أبو عبيد: إنه لا يعرف إلا هذه القراءة. وحكى أبو حاتم أن السدي روى عن ابي مالك عن ابن عباس أنه قرأ "يمسسه" بالتحتية لكون تأنيث النار غير حقيقي. والمعنى: أن هذا الزيت في صفائه وإنارته يكاد يضيء بنفسه من غير أن تمسه النار أصلاً، وارتفاع "نور" على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هي نور، و"على نور" متعلق بمحذوف هو صفة لنور مؤكدة له، والمعنى: هو نور كائن على نور. قال مجاهد: والمراد النار على الزيت. وقال الكلبي: المصباح نور، والزجاجة نور وقال السدي: نور الإيمان ونور القرأن "يهدي الله لنوره من يشاء" من عباده: أي هداية خاصة موصلة إلى المطلوب، وليس المراد بالهداية هنا مجرد الدلالة "ويضرب الله الأمثال للناس"أي يبين الأشياء بأشباهها ونظائرها تقريباً لها إلى الأفهام وتسهيلاً لإدراكها، لأن إبراز المعقول في هيئة المحسوس وتصويره بصورته يزيده وضوحاً وبياناً "والله بكل شيء عليم" لا يغيب عنه شيء من الأشياء معقولاً كان أو محسوساً، ظاهراً أو باطناً.
36-واختلف في قوله: "في بيوت أذن الله أن ترفع" بما هو متعلق، فقيل متعلق بما قبله: أي كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد، كأنه قيل مثل نوره كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت، وقيل متعلق بمصباح. وقال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس يقول: هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب، كأنه قيل: وهي في بيوت، وقيل متعلق يتوقد، أي توقد في بيون، وقد قيل متعلق بما بعده، وهو "يسبح": أي يسبح له رجال في بيوت، وعلى هذا يكون قوله: "فيها" تكريراً كقولك، زيد في الدار جالس فيها. وقيل إنه منفصل عما قبله، كأنه قال الله: في بيوت أذن الله أن ترفع. قال الحكيم الترمذي: وبذلك جاءت الأخبار أنه من جلس في المساجد فإنما يجالس ربه. وقد قيل على تقدير تعلقه بمشكاة أو مصباح أو بتوقد ما الوجه في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيت؟ ولا تكون المشكاة الواحدة ولا المصباح الواحد إلا في بيت واحد. وأجيب بأن هذا من الخطاب الذي يفتح أوله بالتوحيد، ويختم بالجمع كقوله سبحانه "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء" ونحوه.وقيل معنى في بيوت: في كل واحد من البيوت، فكأنه قال: في كل بيت، أو في كل واحد من البيت. واختلف الناس في البيوت، على أقوال: الأول أنها المساجد، وهو قول مجاهد والحسن وغيرها. الثاني لأن المراد بها بيوت بيت المقدس، روي ذلك عن الحسن. الثالث أنها بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، روي عن مجاهد: الرابع هي البيوت كلها، قاله عكرمة. الخامس أنها المساجد الأربعة: الكعبة، ومسجد قباء، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، قاله ابن زيد. والقول الأول أظهر لقوله: "يسبح له فيها بالغدو والآصال" والباء من بيت تضم وتكسر كل ذلك ثابت في اللغة، ومعنى أذن الله أن ترفع: أمر وقضى، ومعنى ترفع وتبنى، قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما، ومنه قوله سبحانه "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" وقال الحسن البصري وغيره: معنى ترفع تعظم ويرفع شأنها وتطهر من الأنجاس والأقذار، ورجحه الزجاج وقيل المراد بالرفع هنا مجموع الأمرين، ومعنى "يذكر فيها اسمه" كل ذكر لله عز وجل، وقيل هو التوحيد، وقيل المراد تلاوة القرآن، والأول أولى " يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال " قرأ ابن عامر وأبو بكر "يسبح" بفتح الباء الموحدة مبنياً للمفعول، وقرأ الباقون بكسرها مبنياً للفاعل إلا ابن وثاب وأبا حيوة فإنهما قرآ بالتاء الفوقية وكسر الموحدة، فعلى القراءة الأولى يكون القائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثلاثة، ويكون رجال مرفوع على أحد وجهين: إما بفعل مقدر، وكأنه جواب سؤال مقدر، كأنه من يسبحه؟ فقيل يسبحه رجال. الثاني أن رجال مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. وعلى القراءة الثانية يكون "رجال" فاعل "يسبح" وعلى القراءة الثالثة يكون الفاعل أيضاً "رجال"، وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال. واختلف في هذا التسبيح ما هو؟ فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة، قالوا: الغدو صلاة الصبح، والأصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين، لأن اسم الآصال يشملها، ومعنى بالغدو والآصال: بالغداة والعشي وقيل صلاة الصبح والعصر، وقيل المراد صلاة الضحى، وقيل المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي، وهو تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله، ويؤيد هذا ذكر الصلاة والزكاة بعده، وهذا أرجح مما قبله، لكونه المعنى الحقيقي مع وجود دليل على خلاف ما ذهب إليه الأولون.
الصفحة رقم 354 من المصحف تحميل و استماع mp3