تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 367 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 367

366

وآياتها مائتان، وسبع وعشرون آية وهي مكية عند الجهمور، وكذا أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير. وأخرج النحاس عن ابن عباس قال: سورة الشعراء أنزلت بمكة سوى خمس آيات من آخرها نزلت بالمدينة، وهي "والشعراء يتبعهم الغاوون" إلى آخرها. وأخرج الطبراني في تفسيره عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطان المئين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي". وأخرج أيضاً عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الأول، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلة". قال ابن كثير في تفسيره: ووقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتها بسورة الجمعة. قوله: 1- "طسم" قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وأبو بكر والمفضل وحمزة والكسائي وخلف بإمالة الطاء، وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري بين اللفظين، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ الباقون بالفتح مشبعاً. وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي بإدغام النون من طاسن في الميم، وقرأ الأعمش وحمزة بإظهارها. قال الثعلبي: الإدغام اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. قال النحاس: وحكى الزجاج في كتابه فيما يجري وما لا يجري أنه يجوز أن يقال طاسين ميم بفتح النون وضم الميم كما يقال: هذا معدي كرب. وقرأ عيسى ويروي عن نافع بكسر الميم على البناء. وفي مصحف عبد الله بن مسعود ط س م هكذا حروفاً مقطعة فيوقف على كل حرف وقفة يتميز بها عن غيره، وكذلك قرأ أبو جعفر ومحله الرفع على الابتداء إن كان اسماً للسورة كما ذهب إليه الأكثر أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون في محل نصب بتقدير: اذكر أو اقرأ. وأما إذا كان مسروداً على نمط التعديد كما تقدم في غير موضع من هذا التفسير فلا محل له من الإعراب. وقد قيل إنه اسم من أسماء الله سبحانه، وقيل اسم من أسماء القرآن.
والإشارة بقوله: 2- "تلك آيات الكتاب المبين" إلى السورة، ومحلها الرفع على أنها وما بعدها خبر للمبتدأ إن جعلنا طسم مبتدأ، وأن جعلناه خبراً لمبتدأ محذوف فمحلها الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف أبو بدل من طسم، والمراد بالكتاب هنا القرآن، والمبين المبين المظهر، أو البين الظاهر إن كان من أبان بمعنى بان.
3- "لعلك باخع نفسك" أي قاتل نفسك ومهلكاً " أن لا يكونوا مؤمنين " أي لعد إيمانهم بما جئت به، والبخع في الأصل أن يبلغ بالذبح النخاع بالنون قاموس، وهو عرق في القفا، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الكهف، وقرأ قتادة باخع نفسك بالإضافة، وقرأ الباقون بالقطع قال: الفراء أن في قوله: " أن لا يكونوا مؤمنين " في موضع نصب لأنها جزاء قال النحاس وإنما يقال إن مكسورة لأنها جزء هكذا التعارف والقول في هذا ما قاله الزجاج في كتابه في القرآن إنها في موضع نصب مفعول لأجله والمعنى لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان حريصاً على إيمان قومه شديد الأسف لما يراه من إعراضهم.
وجملة 4- "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية" مستأنفة مسوقة لتعليل ما سبق من التسلية، والمعنى: إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان، ولكن قد سبق القضاء بأنا لا ننزل ذلك، ومعنى "فظلت أعناقهم لها خاضعين" أنهم صاروا مناقدين لها: أي فتظل أعناقهم إلخ، قيل وأصله فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لزيادة التقرير والتصوير، لأن الأعناق موضع الخضوع، وقيل إنها لما وضعت الأعناق موضع الخضوع، وقيل إنها لما وضعت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم ووصفت بما يوصفون به. قال عيسى بن عمر: خاضعين وخاضعة هنا سواء، واختاره المبرد، والمعنى: أنها إذا ذلت رقابهم ذلوا، فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها، ويسوغ في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأول ويخبر عن الثاني، ومنه قول الراجز: طول الليالي أسرعت في نقضي طوين طولي وطوين عرضي فأخبر عن الليالي وترك الطول، ومنه قول جرير: أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال وقال ابو عبيد والكسائي: إن المعنى خاضعيها هم، وضعفه النحاس. وقال مجاهد: أعناقهم كبراؤهم. قال النحاس: وهذا معروف في اللغة، يقال جاءني عنق من الناس: أي رؤساء منهم. وقال أبو زيد والأخفش: أعناقهم جماعاتهم، يقال جاءني عنق من الناس: أي جماعة.
5- "وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين" بين سبحانه أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين إلى الإيمان يأتيهم بالقرآن حالاً بعد حال، وأن لا يجدد لهم موعظة وتذكيراً إلا جددوا ما هو نقيض المقصود، وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء، ومن في من ذكر مزيدة لتأكيد العموم، ومن في من ربهم لابتداء الغاية، والاستثناء مفرغ من أعم العام محله النصب على الحالية من مفعول يأتيهم، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنبياء.
6- "فقد كذبوا" أي بالذكر الذي يأتيهم تكذيباً صريحاً ولم يكتفوا بمجرد الإعراض. وقيل إن الإعراض. وقيل إن الإعراض بمعنى التكذيب، لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله فقد كذبه، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح، والأول أولى، فالإعراض عن الشيء عدم الالتفات عن التكذيب إلى ما هو أشد منه، وهو الاستهزاء كما يدل عليه قوله: "فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون" والأنباء هي ما يستحقونه من العقوبة آجلاً وعاجلاً، وسميت أنباء لكونها مما أنبأ عنه القرآن وقال ما كانوا به يستهزئون ولم يقل ما كانوا عنه معرضين، أو ما كانوا به يكذبون، لأن الاستهزاء أشد منهما ومستلزم لهما، وفي هذا وعيد شديد، وقد مر تفسير مثل هذا في سورة الأنعام. ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته من الأمور الحسية التي يحصل بها للمتأمل فيها والناظر إليها والمستدل بها أعظم دليل وأوضح برهان.
فقال: 7- " أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم " الهمزة للتوبيخ، والواو للعطف على مقدر كما في نظائره، فنبه سبحانه على عظمته وقدرته، وأن هؤلاء المكذبين المستهزئين لو نظروا لعلموا أنه سبحانه الذي يستحق أن يعبد، والمراد بالزوج هنا الصنف. وقال الفراء: هو اللون. وقال الزجاج: معنى زوج نوع، وكريم، محمود، والمعنى: من كل زوج نافع لا يقدر على إنباته إلا رب العالمين، والكريم في الأصل: الحسن الشريف، يقال نخلة كريمة: أي كثيرة الثمرة، ورجل كريم: شريف فاضل، وكتاب كريم: إذا كان مرضياً في معانيه، والنبات الكريم هو المرضي في منافعه. قال الشعبي: الناس مثل نبات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم، ومن صار منهم إلى النار فهو لئيم.
والإشارة بقوله: 8- "إن في ذلك لآية" إلى المذكور قبله: أي إن فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالة بينة، وعلامة واضحة على كمال قدرة الله سبحانه، وبديع صنعته. ثم أخبر سبحانه بأن أكثر هؤلاء مستمر على ضلالته مصمم على جحوده وتكذيبه واستهزائه فقال: "وما كان أكثرهم مؤمنين" أي سبق علمي فيهم أنهم يسكونون هكذا. وقال سيبويه: إن كان هنا صلة.أن
9- "وإن ربك لهو العزيز الرحيم" أي الغالب القاهر لهؤلاء بالانتقام منهم مع كونه كثير الرحمة، ولذلك أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة، أو المعنى: أنه منتقم من أعدائه رحيم بأوليائه.
وجملة 10- "وإذ نادى ربك موسى" إلخ مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من الإعراض والتكذيب والاستهزاء، والعامل في الظرف محذوف تقديره. واتل إذ نادى أو اذكر، والنداء، الدعاء، و أن في قوله: "أن ائت القوم الظالمين" يجوز أن تكون مفسرة، وأن تكون مصدرية، ووصفهم بالظلم لأنهم جمعوا بين الكفر الذي ظلموا به أنفسهم وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرهم كاستعباد بني إسرائيل، وذبح أبنائهم.
وانتصاب 11- "قوم فرعون" على أنه بدل، أو عطف بيان من القوم الظالمين، ومعنى "ألا يتقون" ألا يخافون عقاب الله سبحانه فيصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته. وقيل المعنى: قل لهم ألا تتقون، وجاء بالياء التحتية لأنه غيب وقت الخطاب، وقرأ عبيد بن عمير وأبو حازم ألا تتقون بالفوقية: أي قل لهم ذلك، ومثله "قل للذين كفروا ستغلبون" بالتحتية والفوقية.
12- "قال رب إني أخاف أن يكذبون" أي قال موسى هذه المقالة، والمعنى: أخاف أن يكذبوني في الرسالة "ويضيق صدري ولا ينطلق لساني" معطوفان على أخاف: أي يضيق صدري لتكذيبهم إياي، ولا ينطلق لساني بتأدية الرسالة.
قرأ الجمهور برفع 13- "يضيق" "ولا ينطلق" بالعطف على أخاف كما ذكرنا، أو على الاستئناف، وقرأ يعقوب وعيسى بن عمر وأبو حيرة بنصبهما عطفاً على يكذبون. قال الفراء: كلا القراءتين له وجه. قال النحاس الوجه: الرفع، لأن النصب عطف على يكذبون وهذا بعيد "فأرسل إلى هارون" أي أرسل إليه جبريل بالوحي ليكون معي رسولاً موازراً مظاهراً معاوناً، ولم يذكر الموازرة هنا لأنها معلومة من غير هذا الموضع كقوله في طه "واجعل لي وزيراً"، وفي القصص "أرسله معي ردءاً يصدقني"، وهذا من موسى عليه السلام من باب طلب المعاونة له بإرسال أخيه، لا من باب الاستعفاء من الرسالة، ولا من التوقف عن المسارعة بالامتثال.
14- "ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون" الذنب هو قتله للقبطي، وسماه ذنباً بحسب زعمهم: فخاف موسى أن يقتلوه به، وفيه دليل على أن الخوف قد يحصل مع الأنبياء فضلاً عن الفضلاء، ثم أجابه سبحانه بما يشتمل على نواع من الردع وطرف من الزجر.
15- "قال كلا فاذهبا بآياتنا" وفي ضمن هذا الجواب إجابة موسى إلى ما طلبه من ضم أخيه إليه كما يدل عليه توجيه الخطاب إليهما كأنه قال: ارتدع يا موسى عن ذلك واذهب أنت ومن استدعيته ولا تخف من القبط "إنا معكم مستمعون" وفي هذا تعليل للردع عن الخوف، وهو كقوله سبحانه: "إنني معكما أسمع وأرى" وأراد بذكل سبحانه تقوية قلوبهما وأنه متول لحفظهما وكلاءتهما وأجراهما مجرى الجمع، فقال معكم لكن الاثنين أقل الجمع على ما ذهب إليه بعض الأئمة أو لكونه أراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه، ويجوز أن يكون المراد هما مع بني إسرائيل، ومعكم ومستمعون خبران، لأن، أو الخبر مستمعون، ومعكم متعلق به، ولا يخفى ما في المعية من المجاز: لأن المصاحبة من صفات الأجسام، فالمراد معية النصرة والمعونة.
16- "فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين" الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ووحد الرسول هنا ولم يثنه كما في قوله: "إنا رسولا ربك" لأنه مصدر بمعنى رسالة، والمصدر يوحد، وأما إذا كان بمعنى المرسل فإنه يثنى مع المثنى ويجمع مع الجمع. قال أبو عبيدة: رسول بمعنى رسالة، والتقدير على هذا: إنا ذوا رسالة رب العالمين، ومنه قول الشاعر: ألا أبلغ أبا عمرو رسولاً فإني عن قتاحتكم غني أي رسالة. وقال العباس بن مرداس: ألا من مبلغ عني خفافاً رسولا بيت أهلك منتهاها أي رسالة. قال أبو عبيدة أيضاً، ويجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع، تقول العرب: هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي، ومنه قوله تعالى: "فإنهم عدو لي" وقيل معناه: إن كل واحد منا رسول رب العالمين، وقيل إنهما لما كانا متعاضدين ومتساندين في الرسالة كانا بمنزلة رسول واحد.
و أن في قوله: 17- "أن أرسل معنا بني إسرائيل" مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول.
معنى القول: 18- "قال ألم نربك فينا وليداً" أي قال فرعون لموسى بعد أن أتياه وقالا له ما أمرهما الله به، ومعنى فينا أي في حجرنا ومنازلنا، أراد بذلك المن عليه والاحتقار له: أي ربيناك لدينا صغيراً ولم نقتلك فيمن قتلنا من الأطفال "ولبثت فينا من عمرك سنين" فمتى كان هذا الذي تدعيه؟ قيل لبث فيهم ثماني عشرة سنة، وقيل أربعين سنة: ثم قرر بقتل القبطي.
فقال: 19- "وفعلت فعلتك التي فعلت" الفعلة بفتح الفاء: المرة من الفعل، وقرأ الشعبي فعلتك بكسر الفاء، والفتح أولى لأنها للمرة الواحدة لا للنوع، والمعنى: أنه لما عدد عليه النعم ذكر له ذنوبه، وأراد بالفعل قتل القبطي، ثم قال "وأنت من الكافرين" أي من الكافرين للنعمة حيث قتلت رجلاً من أصحابي، وقيل المعنى: من الكافرين بأن فرعون إله، وقيل من الكافرين بالله في زعمه لأنه كان معهم على دينهم، والجملة في محل نصب على الحال.