تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 368 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 368

367

20- " قال فعلتها إذا وأنا من الضالين " أي قال موسى مجيباً لفرعون: فعلت هذه الفعلة التي ذكرت، وهي قتل القبطي وأنا إذ ذاك من الضالين: أي الجاهلين، فنفى عليه السلام عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل قبل أن يأتيه العلم الذي علمه الله. وقيل المعنى: من الجاهلين أن تلك الوكزة تبلغ القتل. وقال أبو عبيدة: من الناسين.
21- "ففررت منكم لما خفتكم" أي خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة القصص "فوهب لي ربي حكماً" أي نبوة أو علماً وفهماً. وقال الزجاج: المراد بالحكم تعليمه التوراة التي فيها حكم الله "وجعلني من المرسلين".
22- "وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل" قيل هذا الكلام من موسى على جهة الإقرار بالنعمة كأنه قال نعم تلك التربية نعمة تمن بها علي، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي، وبهذا قال الفراء وابن جرير. وقيل هو من موسى على جهة الإنكار: أي أتمن علي بأن ربيتني وليداً وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم وهم قومي؟. قال الزجاج: المفسرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار بأن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى، واللفظ لفظ خبر، وفيه تبكيت للمخاطب على معنى: أنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكانت أمي مستغنية عن قذفي في اليم، فكأنك تمن علي ما كان بلاؤك سبباً له، وذكر نحوه الأزهري بأبسط منه. وقال المبرد: يقول الربية كانت بالسبب الذي ذكرت من التعبيد: أي تربيتك إياي كانت لأجل التملك والقهر لقومي. وقيل إن في الكلام تقدير الاستفهام: أي أو تلك نعمة؟ قاله الأخفش، وأنكره النحاس. قال الفراء: ومن قال إن الكلام إنكار قال معناه: أو تلك نعمة؟ ومعنى "أن عبدت بني إسرائيل" أن اتخذتهم عبيداً، يقال عبدته وأعبدته بمعنى. كذا قال الفراء، ومحله الرفع على أنهخبر مبتدأ محذوف بدل من نعمة، والجر بإضمار الباء، والنصب بحذفها. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس "فظلت أعناقهم لها خاضعين" قال: ذليلين. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة "ولهم علي ذنب" قال قتل النفس. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين" قال: للنعمة، إن فرعون لم يكن ليعلم ما الكفر؟، وفي قوله: " فعلتها إذا وأنا من الضالين " قال: من الجاهلين. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "أن عبدت بني إسرائيل" قال: قهرتهم واستعملتهم.
لما سمع فرعون قول موسى وهارون "إنا رسول رب العالمين" قال مستفسراً لهما عن ذلك عازماً على الاعتراض لما قالاه فقال: 23- "وما رب العالمين" أي أي شيء هو؟ جاء في الاستفهام بما التي يستفهم بها عن المجهول ويطلب بها تعيين الجنس.
فلما قال فرعون ذلك 24- "قال" موسى "رب السموات والأرض وما بينهما" فعين له ما أراد بالعالمين، وترك جواب ما سأل عنه فرعون لأنه سأله عن جنس رب العالمين ولا جنس له، فأجابه موسى بما يدل على عظيم القدرة الإلهية التي تتضح لكل سامع أنه سبحانه الرب ولا رب غيره "إن كنتم موقنين" أي إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء فهذا أولى بالإيقان.
25- "قال" فرعون "لمن حوله ألا تستمعون" أي لمن حوله من الأشراف ألا تستمعون ما قاله، يعني موسى معجباً لهم من ضعف المقالة كأنه قال: أتسمعون وتعجبون، وهذا من اللغني مغالطة، لما لم يجد جواباً عن الحجة التي أوردها عليه موسى، فلما سمع موسى ما قال فرعون، أورد عليه حجة أخرى هي مندرجة تحت الحجة الأولى ولكنها أقرب إلى فهم السامعين له.
فـ 26- "قال ربكم ورب آبائكم الأولين" فأوضح لهم أن فرعون مربوب لا رب كما يدعيه، والمعنى: أن هذا الرب الذي أدعوكم إليه هو الذي خلق آباءكم الأولين وخلقكم، فكيف تعبدون من هو ماحد منكم مخلقو كخلقكم وله آباء قد فنوا كآبائكم، فلم يجبه فرعون عند ذلك بشيء يعتد به، بل جاء بما يشكك قومه ويخيل إليهم أن هذا الذي قاله موسى مما لا يقوله العقلاء.
فـ 27- "قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون" قاصداً بذلك المغالطة وإيقاعهم في الحيرة، مظهراً أنه مستخف بما قاله موسى مستهزئ به، فأجابه موسى عند ذلك بما هو تكميل لجوابه الأول.
فـ 28- "قال رب المشرق والمغرب وما بينهما" ولم يشتغل موسى بدفع ما نسبه إليه من الجنون، بل بين لفرعون شمول ربوبية الله سبحانه للمشرق والمغرب وما بينهما وإن كان ذلك داخلاً تحت ربوبيته سبحانه للسموات والأرض وما بينهما، لكن في تصريح بإسناد حركات السموات وما فيها، وتغيير أحوالها وأوضاعها، تارة بالنور وتارة بالظلمة إلى الله سبحانه، وتثنية الضمير في وما بينهما الأول لجنسي السموات والأرض كما في قول الشاعر: تنقلت في أشرف التنقل بين رماحي نهشل ومالك "إن كنتم تعقلون" أي شيئاً من الأشياء، أو إن كنتم من أهل العقل: أي إن كنت يا فرعون ومن معك من العقلاء عرفت وعرفوا أنه لا جواب لسؤالك إلا ما ذكرت لك. ثم إن اللعين لما انقطع عن الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب.
فـ 29- "قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين" أي لأجعلنك من أهل السجن، وكان سجن فرعون أشد من القتل لأنه إذا سجن أحداً لم يخرجه حتى يموت، فلما سمع موسى عليه السلام ذلك لاطفه طمعاً في إجابته وإرخاء لعنان المناظرة معه، مريداً لقهره بالحجة المعتبرة في باب النبوة، وهي إظهار المعجزة، فعرض له على وجه يلجئه إلى طلب المعجزة.
فـ 30- " قال أو لو جئتك بشيء مبين " أي أتجعلني من المسجونين ولو جئتك بشيء يتبين به صدقي ويظهر عنده صحة دعواي، والهمزة هنا للاستفهام، والواو للعطف على مقدر كما مر مراراً، فلما سمع فرعون ذلك طلب ما عرضه عليه موسى.
فـ 31- "قال فأت به إن كنت من الصادقين" في دعواك، وهذا الشرط جوابه محذوف، لأنه قد تقدم ما يدل عليه فعند ذلك أبرز موسى المعجزة.
32- "فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين" وقد تقدم تفسير هذا وما بعده في سورة الأعرفا، واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء في الأرض فانثعب: أي فجرته فانفجر، وقد عبر سبحانه في موضع آخر مكان الثعبان بالحية بقوله: "فإذا هي حية تسعى" وفي موضع بالجان، فقال: "كأنها جان" والجان هو المائل إلى الصغر، والثعبان هو المائل إلى الكبر، والحية جنس يشمل الكبير والصغير، ومعنى "فماذا تأمرون" ما رأيكم فيه وما مشورتكم في مثله؟ فأظهر لهم الميل إلى ما يقولونه تألفاً لهم واستجلاباً لمودتهم، لأنه قد أشرف ما كان فيه من دعوى الربوبية على الزوال، وقارب ما كان يغرر به عليهم الاضمحلال، وإلا فهو أكبر تيهاً وأعظم كبراً من أن يخاطبهم مثل هذه المخاطبة المشعرة بأنه فرد من أفرادهم وواحد منهم، مع كونه قبل هذا الوقت يدعي أنه إلههم ويذعنون له بذلك ويصدقونه في دعواه.
33- "ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين".
34- "قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم".
35- "يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون".
ومعنى 36- "أرجه وأخاه" أخر أمرهما، من أرجأته إذا أخرته، وقيل المعنى احبسهما "وابعث في المدائن حاشرين" وهم الشرط الذي يحشرون الناس: أي يجمعونهم.
37- "يأتوك بكل سحار عليم" هذا ما أشاروا به عليه، والمراد بالسحار العليم: الفائق في معرفة السحر وصنعته.
38- "فجمع السحرة لميقات يوم معلوم" هو يوم الزينة كما في قوله: "قال موعدكم يوم الزينة".
39- "وقيل للناس هل أنتم مجتمعون" حثاً لهم على الاجتماع ليشاهدوا ما يكون من موسى والسحرة ولمن تكون الغلبة ذلك ثقة من فرعون بالظهور وطلباً أن يكون بمجمع من الناس حتى لا يؤمن بموسى أحد منهم، فوقع ذلك من موسى الموقع الذي يريده، لأنه يعلم أن حجة الله هي الغالبة، وحجة الكافرين هي الداحضة، وفي ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة في الاستظهار للمحقين، والنقهار للمبطلين.