تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 390 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 390

389

35- "قال سنشد عضدك بأخيك" أي نقويك به، فشد العضد كناية عن التقوية، ويقال في دعاء الخير: شد الله عضدك، وفي ضده: فت الله في عضدك. قرأ الجمهور "عضدك" بفتح العين. وقرأ الحسين وزيد بن علي بضمها. وروي عن الحسن أيضاً أنه قرأ بضمة وسكون. وقرأ عيسى بن عمر بفتحهما "ونجعل لكما سلطاناً" أي حجة وبرهاناً. أو تسلطاً عليه، وعلى قومه "فلا يصلون إليكما" بالأذى ولا يقدرون على غلبتكما بالحجة، و"بآياتنا" متعلق بمحذوف: أي تمتنعان منهم بآياتنا، أو اذهبا بآياتنا. وقيل الباء للقسم، وجوابه يصلون، وما أضعف هذا القول. وقال الأخفش وابن جرير: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير "أنتما ومن اتبعكما الغالبون" بآياتنا، وأول هذه الودوه أولاها، وفي "أنتما ومن اتبعكما الغالبون" تبشير لهما وتقوية لقلوبهما.
36- "فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات" البينات الواضحات الدلالة، وقد تقدم وجه إطلاق الآيات، وهي جمع على العصا واليد في سورة طه "قالوا ما هذا إلا سحر مفترى" أي مختلق مكذوب اختلقته من قبل نفسك "وما سمعنا بهذا" الذي جئت به من دعوى النبوة، أو ما سمعنا بهذا السحر "في آبائنا الأولين" أي كائناً أو واقعاً في آبائنا الأولين.
37- "وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده" يريد نفسه، وإنما جاء بهذه العبارة لئلا يصرح لهم بما يريده قبل أن يوضح لهم الحجة، والله أعلم. قرأ الجمهور "وقال موسى" بالواو، وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن "قال موسى" بلا واو، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة. وقرأ الكوفيون إلا عاصماً " من تكون له عاقبة الدار " بالتحتية على أن اسم يكون عاقبة الدار. والتذكير لوقوع الفصل، ولأنه تأنيث مجازي، وقرأ الباقون "تكون" بالفوقية، وهي أوضح من القراءة الأولى، والمراد بالدار هنا الدنيا وعاقبتها هي الدار الآخرة، والمعنى: لمن تكون له العاقبة المحمودة، والضمير في "إنه لا يفلح الظالمون" للشأن: أي إن الشأن أنه لا يفلح الظالمون: أي لا يفوزون بمطلب خير، ويجوز أن يكون المراد بالعاقبة الدار خاتمة الخير.
وقال فرعون 38- "يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري" تمسك اللعين بمجرد الدعوى الباطلة مغالطة لقومه منه، وقد كان يعلم أنه ربه الله عز وجل، ثم رجع إلى تكبره وتجبره وإيهام قومه بكمال اقتداره فقال: "فأوقد لي يا هامان على الطين" أي اطبخ لي الطين حتى يصير آجراً "فاجعل لي صرحاً" أي اجعل لي من هذا الطين الذي توقد عليه حتى يصير آجراً صرحاً: أي قصراً عالياً "لعلي أطلع إلى إله موسى" أي أصعد إليه "وإني لأظنه من الكاذبين" والطلوع والاطلاع واحد، يقال طلع الجبل واطلع.
39- "واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق" المراد بالأرض أرض مصر، والاستكبار التعظيم بغير استحقاق، بل بالعدوان لأنه لم يكن له حجة يدفع بها ما جاء به موسى، ولا شبهة ينصبها في مقابلة ما أظهره من المعجزات "وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون" أي فرعون وجنوده، والمراد بالرجوع البعث والمعاد، قرأ نافع وشيبة وابن محيصن وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي "لا يرجعون" بفتح الياء وكسر الجيم مبنياً للفاعل. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الجيم مبنياً للمفعول، واختار القراءة الثانية أبو عبيد.
40- "فأخذناه وجنوده" بعد أن عتوا في الكفر وجازوا الحد فيه "فنبذناهم في اليم" أي طرحناهم في البحر، وقد تقدم بيان الكلام في هذا "فانظر كيف كان عاقبة الظالمين" الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أي انظر يا محمد كيف كان آخر أمر الكافرين حين صاروا إلى الهلاك.
41- "وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار" أي صيرناهم رؤساء متبوعين مطاعين في الكافرين فكأنهم بإصرارهم على الكفر والتمادي فيه يدعون أتباعهم إلى النار لأنهم اقتدوا وسلكوا طريقتهم تقليداً لهم. وقيل المعنى: إنه لم يأتم بهم: أي يعتبر بهم من جاء بعدهم ويتعظ بما أصيروا به، والأول أولى "ويوم القيامة لا ينصرون" أي لا ينصرهم أحد ولا يمنعهم مانع من عذاب الله.
42- "وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة" أي طرداً وإبعاداً، أو أمرنا العباد بلعنهم، فكل من ذكرهم لعنهم، والأول أولى "ويوم القيامة هم من المقبوحين" المقبوح المطرود المبعد. وقال أبو عبيدة وابن كيسان: معناه من المهلكين الممقوتين. وقال أبو زيد: قبح الله فلاناً قبحاً وقبوحاً أبعده من كل خير. قال أبو عمرو: قبحت وجهه بالتخفيف بمعنى قبحت بالتشديد، ومثله قول الشاعر: ألا قبح الله البراجم كلها وقبح يربوعا وقبح دارما وقيل المقبوح المشوه الخلقة، والعامل في يوم محذوف يفسره من المقبوحين، والتقدير: وقبحوا يوم القيامة، أو هو معطوف على موضع في هذه الدنيا: أي وأتبعناهم لعة يوم القيامة، أو معطوف على لعنة على حذف مضاف: أي ولعنة يوم القيامة.
43- "ولقد آتينا موسى الكتاب" يعني التوراة "من بعد ما أهلكنا القرون الأولى" أي قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، وقيل من بعد ما أهلكنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون، وانتصاب "بصائر للناس" على أنه مفعول له أو حال: أي آتيناه الكتاب لأجل يتبصر به الناس، أو حال كونه بصائر الناس يبصرون به الحق ويهتدون إليه وينقذون أنفسهم به من الضلالة بالاهتداء به "ورحمة" لهم من الله رحمهم بها "لعلهم يتذكرون" هذه النعم فيشكرون الله ويؤمنون ويجيبون داعيه إلى ما فيه خير لهم. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "ردءاً يصدقني" كي يصدقني. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: لما قال فرعون: "يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري" قال جبريل: يا رب طغى عبدك فائذن لي في هلكه، فقال: يا جبريل هو عبدي ولن يسبقني، له أجل يجيء ذلك الأجل، فلما قال: "أنا ربكم الأعلى" قال الله: يا جبريل سبقت دعوتك في عبدي وقد جاء أوان هلاكه. وأخرج ابن مردويه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان قالهما فرعون "ما علمت لكم من إله غيري" وقوله "أنا ربكم الأعلى" قال: كان بينهما أربعون عاماً: "فأخذه الله نكال الآخرة والأولى"". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: بلغني أن فرعون أول من طبخ الآجر. وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج. واخرج البزار وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أهلك الله قوماً ولا قرناً ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة". ألم تر إلى قوله: "ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى". وأخرجه البزار وابن جرير وابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سعيد موقوفاً.