تفسير الطبري تفسير الصفحة 390 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 390
391
389
 الآية : 36
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَمّا جَآءَهُم مّوسَىَ بِآيَاتِنَا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَـَذَا فِيَ آبَآئِنَا الأوّلِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: فلـما جاء موسى فرعون وملأه بأدلتنا وحججنا بـينات أنها حجج شاهدة بحقـيقة ما جاء به موسى من عند ربه, قالوا لـموسى: ما هذا الذي جئتنا به إلاّ سحرا افتريته من قبلك وتـخرّصته كذبـا وبـاطلاً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا الذي تدعونا إلـيه من عبـادة من تدعونا إلـى عبـادته فـي أسلافنا وآبـائنا الأوّلـين الذين مضوا قبلنا.
الآية : 37
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ مُوسَىَ رَبّيَ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَىَ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَقالَ مُوسَى مـجيبـا لفرعون: رَبّـي أعْلَـمُ بـالـمـحق منا يا فرعون من الـمبطل, ومن الذي جاء بـالرشاد إلـى سبـيـل الصواب والبـيان عن واضح الـحجة من عنده, ومن الذي له العقبى الـمـحمودة فـي الدار الاَخرة منا. وهذه معارضة من نبـيّ الله موسى علـيه السلام لفرعون, وجميـل مخاطبة, إذ ترك أن يقول له: بل الذي غرّ قومه وأهلك جنوده, وأضلّ أتبـاعه أنت لا أنا, ولكنه قال: رَبّـي أعْلَـم بِـمَنْ جاءَ بـالهُدَى مِنْ عِنْدِهِ, وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ ثم بـالغ فـي ذمّ عدوّ الله بأجمل من الـخطاب فقال: إنّهُ لا يُفْلِـحُ الظّالِـمُونَ يقول: إنه لا ينـجح ولا يدرك طلبتهم الكافرون بـالله تعالـى, يعنـي بذلك فرعون إنه لا يفلـح ولا ينـجح لكفره به.
الآية : 38
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَأَيّهَا الْملاُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لّي صَرْحاً لّعَلّيَ أَطّلِعُ إِلَىَ إِلَـَهِ مُوسَىَ وَإِنّي لأظُنّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: وقال فرعون لأشراف قومه وسادتهم: يا أيّها الـمَلأُ ما عَلِـمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي فتعبدوه, وتصدّقوا قول موسى فـيـما جاءكم به من أن لكم وله ربـا غيري ومعبودا سواي, فَأوْقِدْ لـي يا هامانُ عَلـى الطّينِ يقول: فـاعمل لـي آجرا, وذُكر أنه أوّل من طبخ الاَجر وبنى به. ذكر من قال ذلك:
20911ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد فَأَوْقِدْ لـي يا هامانُ عَلـى الطّينِ قال: علـى الـمدَر يكون لَبِنا مطبوخا.
قال ابن جُرَيج: أوّل من أمر بصنعة الاَجرّ وبنى به فرعون.
20912ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة فَأوْقِدْ لـي يا هامانُ عَلـى الطّينِ قال: فكان أوّل من طبخ الاَجرّ يبنـي به الصرح.
20913ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قول الله فَأَوْقِدْ لـي يا هامانُ عَلـى الطينِ قال: الـمطبوخ الذي يوقد علـيه هو من طين يبنون به البنـيان.
وقوله: فـاجْعَلْ لـي صَرْحا يقول: ابن لـي بـالاَجرّ بناء, وكل بناء مسطح فهو صرح كالقصر. ومنه قول الشاعر:
بِهِنّ نَعامٌ بَناها الرّجالُ يَحْسَبُ أعْلامَهُنّ الصّرُوحا
يعنـي بـالصروح: جمع صرح.
وقوله: لَعَلّـي أطّلِعُ إلـى إلَهِ مُوسَى يقول: انظر إلـى معبود موسى, الذي يعبده, ويدعو إلـى عبـادته وإنّـي لاَءَظُنّهُ فـيـما يقول من أن له معبودا يعبده فـي السماء, وأنه هو الذي يؤيده وينصره, وهو الذي أرسله إلـينا, من الكاذبـين فذكر لنا أن هامان بنى له الصرح, فـارتقـى فوقه. فكان من قصته وقصة ارتقائه ما:
20914ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: قال فرعون لقومه: يا أيّها الـمَلأُ ما عَلِـمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي, فَأوْقِدْ لـي يا هامانُ عَلـى الطّينِ, فـاجْعَلْ لـي صَرْحا لعلـي أذهب فـي السماء, فأنظر إلـى إله موسى فلـما بُنِـي له الصرح, ارتقـى فوقه, فأمر بُنّشابة فرمى بها نـحو السماء, فردّت إلـيه وهي متلطخة دما, فقال: قد قتلت إله موسى, تعالـى الله عما يقولون.
الآية : 39-40
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّالِمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: واستكبر فرعون وجنوده فـي أرض مصر عن تصديق موسى, واتبـاعه علـى ما دعاهم إلـيه من توحيد الله, والإقرار بـالعبودية له بغير الـحقّ يعنـي تعدّيا وعتوّا علـى ربهم وَظَنّوا أنّهُمْ إلَـيْنا لا يُرْجَعُونَ يقول: وحسبوا أنهم بعد مـماتهم لا يبعثون, ولا ثواب, ولا عقاب, فركبوا أهواءهم, ولـم يعلـموا أن الله لهم بـالـمرصاد, وأنه لهم مـجاز علـى أعمالهم الـخبـيثة.
وقوله: فَأخَذْناهُ وَجُنُودَهُ يقول تعالـى ذكره: فجمعنا فرعون وجنوده من القبط فَنَبَذْناهُمْ فِـي الْـيَـمّ يقول: فألقـيناهم جميعهم فـي البحر, فغرقناهم فـيه, كما قال أبو الأسود الدّؤَلِـيّ:
نَظَرْتُ إلـى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتُه كَنَبْذِكَ نَعْلاً أخْـلَقَتْ مِنْ نِعالِكا
وذُكر أن ذلك بحر من وراء مصر, كما:
20915ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة: فَنَبَذْناهُمْ فِـي الْـيَـمّ قال: كان الـيـم بحرا يقال له إساف, من وراء مصر, غرّقهم الله فـيه.
وقوله: فـانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبُةُ الظّالِـمِينَ يقول تعالـى ذكره: فـانظر يا مـحمد بعين قلبك: كيف كان أمر هؤلاء الذين ظلـموا أنفسهم, فكفروا بربهم وردّوا علـى رسوله نصيحته, ألـم نهلكهم فنُوَرّث ديارهم وأموالهم أولـياءنا, ونـخوّلهم ما كان لهم من جنات وعيون وكنوز, ومَقام كريـم, بعد أن كانوا مستضعفـين, تقتل أبناؤهم, وتُستـحيا نساؤهم, فإنا كذلك بك وبـمن آمن بك وصدّقك فـاعلون مخوّلوك وإياهم ديار مَنْ كذّبك, وردّ علـيك ما أتـيتهم به من الـحقّ وأموالهم, ومهلكوهم قتلاً بـالسيف, سنة الله فـي الذين خَـلَوا من قبل.

الآية : 41 -42
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: وجعلنا فرعون وقومه أئمة يأتـمّ بهم أهل العتوّ علـى الله, والكفر به, يدعون الناس إلـى أعمال أهل النار وَيَوْمَ القِـيامَةِ لا يُنْصَرُونَ يقول جلّ ثناؤه: ويوم القـيامة لا ينصرهم إذا عذّبهم اللّهُ ناصرٌ, وقد كانوا فـي الدنـيا يتناصرون, فـاضمـحلت تلك النصرة يومئذٍ.
وقوله: وأتْبَعْناهُمْ فِـي هَذِهِ الدّنْـيا لَعْنَةً, وَيَوْمَ القـيامَةِ يقول تعالـى ذكره: وألزمنا فرعون وقومه فـي هذه الدنـيا خِزيا وغضبـا منا علـيهم, فحتـمنا لهم فـيها بـالهلاك والبوار والثناء السيّىء, ونـحن متبعوهم لعنة أخرى يوم القـيامة, فمخزوهم بها الـخزي الدائم, ومهينوهم الهوان اللازم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20916ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة وأتْبَعْناهُمْ فِـي هَذِهِ الدّنْـيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِـيامَةِ قال: لعنوا فـي الدنـيا والاَخرة, قال: هو كقوله وأُتْبِعُوا فِـي هَذِهِ لَعْنَةً, وَيَوْمَ القِـيامَةِ بِئْسَ الرّفْدُ الـمَرْفُودِ.
20917ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: وأتْبَعْناهُمْ فِـي هَذِهِ الدّنـيْا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِـيامَةِ لعنة أخرى, ثم استقبل فقال: هُمْ مِنَ الـمَقْبُوحِينَ وقوله: هُمْ مِنَ الـمَقْبُوحِينَ يقول تعالـى ذكره: هم من القوم الذين قبحهم الله, فأهلكهم بكفرهم بربهم, وتكذيبهم رسوله موسى علـيه السلام, فجعلهم عبرة للـمعتبرين, وعظة للـمتعظين.

الآية : 43
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاُولَىَ بَصَآئِرَ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد آتـينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمـم التـي كانت قبله, كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مَدين بَصَائِرَ للنّاسِ يقول: ضياء لبنـي إسرائيـل فـيـما بهم إلـيه الـحاجة من أمر دينهم وَهُدًى يقول: وبـيانا لهم ورحمة لـمن عمل به منهم لَعَلّهُمْ يَتَذّكّرُونَ يقول: لـيتذكروا نِعْم الله بذلك علـيهم, فـيشكروه علـيها ولا يكفروا.
وبنـحو الذي قلنا فـي معنى قوله: وَلَقَدْ آتَـيْنا مُوسَى الكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أهْلَكْنا القُرُونَ الأُولـى قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20918ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد وعبد الوهاب, قالا: حدثنا عوف, عن أبـي نضرة, عن أبـي سعيد الـخدريّ, قال: ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض بعد ما أنزلت التوراة علـى وجه الأرض غير القرية التـي مسخوا قردة, ألـم تر أن الله يقول: وَلَقَدْ آتَـيْنا مُوسَى الكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أهْلَكْنا القُرُونَ الأُولـى بَصَائِرَ للنّاسِ وَهُدًى وَرَحمْةً لَعلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ