تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 390 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 390

390- تفسير الصفحة رقم390 من المصحف
الآية: 36 {فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون، وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين، واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين}
قوله تعالى: "فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات" أي ظاهرات واضحات "قالوا ما هذا إلا سحر مفترى" مكذوب مختلق "وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين" أي في الأمم الماضية؛ قال ابن عباس. والباء في "بهذا" زائدة؛ أي ما سمعنا هذا كائنا في أبائنا الأولين، وقيل: إن هذه الآيات وما احتج به موسى في إثبات التوحيد من الحجج العقلية وقيل: هي معجزاته.
قوله تعالى: "وقال موسى" قراءة العامة بالواو وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن: "قال" بلا واو؛ وكذلك هو في مصحف أهل مكة "ربي أعلم بمن جاء بالهدى" أي بالرشاد. "من عنده" "ومن تكون له" قرأ الكوفيون إلا عاصما: "يكون" بالياء والباقون بالتاء وقد تقدم هذا "عاقبة الدار" أي دار الجزاء "إنه" الهاء ضمير الأمر والشأن "لا يفلح الظالمون"
قوله تعالى: "وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري" قال ابن عباس: كان بينها وبين قوله: "أنا ربكم الأعلى" [النازعات: 24] أربعون سنة، وكذب عدو الله بل علم أن له ثم ربا هو خالقه وخالق قومه "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" [الزخرف: 87]. "فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى" أي أطبخ لي الآجر؛ عن ابن عباس رضي الله عنه وقال قتادة: هو أول من صنع الآجر وبنى به ولما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال - قيل خمسين ألف بناء سوى الأتباع والأجراء - وأمر بطبخ الآجر والجص، ونشر الخشب وضرب المسامير، فبنوا ورفعوا البناء وشيدوه بحيث لم يبلغه بنيان منذ خلق الله السموات والأرض، فكان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه، حتى أراد الله أن يفتنهم فيه فحكى السدي: أن فرعون صعد السطح ورمى بنشابة نحو السماء، فرجعت متلطخة بدماء، فقال قد قتلت إله موسى فروي أن جبريل عليه السلام بعثه الله تعالى عند مقالته، فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع؛ قطعة على عسكر فرعون قتلت منهم ألف ألف، وقطعة في البحر، وقطعة في الغرب، وهلك كل من عمل فيه شيئا والله أعلم بصحة ذلك. "وإني لأظنه من الكاذبين" الظن هنا شك، فكفر على الشك؛ لأنه قد رأى من البراهين ما لا يخيل على ذي فطرة.
قوله تعالى: "واستكبر" أي تعظم "هو وجنوده" أي تعظموا عن الإيمان بموسى "بغير الحق" أي بالعدوان، أي لم تكن له حجة تدفع ما جاء به موسى "وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون" أي توهموا أنه لا معاد ولا بعث. وقرأ نافع وابن محيصن وشيبة وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي: "لا يرجعون" بفتح الياء وكسر الجيم على أنه مسمى الفاعل الباقون: "يرجعون" على الفعل المجهول وهو اختيار أبي عبيد، والأول اختيار أبي حاتم. "فأخذناه وجنوده" وكانوا ألفي ألف وستمائة ألف "فنبذناهم في اليم" أي طرحناهم في البحر المالح. قال قتادة: بحر من وراء مصر يقال له إساف أغرقهم الله فيه وقال وهب والسدي: المكان الذي أغرقهم الله فيه بناحية القلزم يقال له بطن مريرة، وهو إلى اليوم غضبان وقال مقاتل، يعني نهر النيل وهذا ضعف والمشهور الأول. "فانظر" يا محمد "كيف كان عاقبة الظالمين" أي آخر أمرهم.
قوله تعالى: "وجعلناهم أئمة" أي جعلناهم زعماء يتبعون على الكفر، فيكون عليهم وزرهم ووزر من اتبعهم حتى يكون عقابهم أكثر وقيل: جعل الله الملأ من قومه رؤساء السفلة منهم، فهم يدعون إلى جهنم وقيل: أئمة يأتم بهم ذوو العبر ويتعظ بهم أهل البصائر "يدعون إلى النار" أي إلى عمل أهل النار "ويوم القيامة لا ينصرون". "وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة" أي أمرنا العباد بلعنهم فمن ذكرهم لعنهم وقيل: أي ألزمناهم اللعن أي البعد عن الخير "ويوم القيامة هم من المقبوحين" أي من المهلكين الممقوتين قاله ابن كيسان وأبو عبيدة وقال ابن عباس: المشوهين الخلقة بسواد الوجوه وزرقة العيون وقيل: من المبعدين يقال: قبحه الله أي نحاه من كل خير، وقبَحَه وقبّحه إذا جعله قبيحا وقال أبو عمرو: قبحت وجهه بالتخفيف معناه قبحت قال الشاعر:
ألا قبح الله البراجم كلها وقبح يربوعا وقبح دارما
وانتصب يوما على الحمل على موضع "في هذه الدنيا" واستغنى عن حرف العطف في قوله: "من المقبوحين" كما استغنى عنه في قوله: "سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم" [الكهف: 22] ويجوز أن يكون العامل في "يوم" مضمرا يدل عليه قوله: "هم من المقبوحين" فيكون كقوله: "يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين" [الفرقان: 22] ويجوز أن يكون العامل في "يوم" قوله "هم من المقبوحين" وإن كان الظرف متقدما ويجوز أن يكون مفعولا على السعة، كأنه قال: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم القيامة.
الآية: 43 {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون}
قوله تعالى: "ولقد آتينا موسى الكتاب" يعني التوراة؛ قاله قتادة قال يحيى بن سلام: هو أول كتاب - يعني التوراة - نزلت فيه الفرائض والحدود والأحكام وقيل: الكتاب هنا ست من المثاني السبع التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عباس، ورواه مرفوعا. "من بعد ما أهلكنا القرون الأولى" قال أبو سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التوراة على موسى غير القرية التي مسخت قردة ألم تر إلى قوله تعالى: "ولقد أتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى" أي من بعد قوم نوح وعاد وثمود وقيل: أي من بعد ما أغرقنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون. "بصائر للناس" أي آتيناه الكتاب بصائر أي ليتبصروا "وهدى" أي من الضلالة لمن عمل بها "ورحمة" لمن آمن بها. "لعلهم يتذكرون" أي ليذكروا هذه النعمة فيقموا على إيمانهم في الدنيا، ويثقوا بثوابهم في الآخرة.