تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 392 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 392

391

51- "ولقد وصلنا لهم القول" قرأ الجمهور "وصلنا" بتشديد الصاد، وقرأ الحسن بتخفيفها، ومعنى الآية: أتبعنا بعضه بعضاً وبعثنا رسولاً بعد رسول. وقال أبو عبيدة والأخفش: معناه أتممنا. وقال ابن عيينة والسدي: بينا. وقال ابن زيد. وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا، والأولى أولى. وهو مأخوذ من وصل الحبال بعضها ببعض، ومنه قول الشاعر: فقل لبني مروان ما بال ذمتي بحبل ضعيف لا تزال توصل وقال امرؤ القيس: يقلب كفيه بخيط موصل والضمير في لهم عائد إلى قريش، وقيل إلى اليهود، وقيل للجميع "لعلهم يتذكرون" فيكون التذكر سبباً لإيمانهم مخافة أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم.
52- "الذين آتيناهم الكتاب من قبله" أي من قبل القرآن، والموصول مبتدأ وخبره "هم به يؤمنون" أخبر سبحانه أن طائفة من بني إسرائيل آمنوا بالقرآن كعبد الله بن سلام وسائر من أسلم من أهل الكتاب، وقيل الضمير في من قبله يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والأول أولى. والضمير في به راجع إلى القرآن على القول الأول، وإلى محمد على القول الثاني.
53- "وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به" أي وإذا يتلى القرآن عليهم قالوا صدقنا به "إنه الحق من ربنا" أي الحق الذي نعرفه المنزل من ربنا "إنا كنا من قبله مسلمين" أي مخلصين لله بالتوحيد، أو مؤمنين بمحمد وبما جاء به لما نعلمه من ذكره في التوراة والإنجيل من التبشير به، وأنه سيبعث آخر الزمان وينزل عليه القرآن.
والإشارة بقوله: 54- "أولئك يؤتون أجرهم مرتين" إلى الموصوفين بتلك الصفات، والباء في "بما صبروا" للسببية: أي بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمان بالكتاب الأول والكتاب الآخر، وبالنبي الأول والنبي الآخر " ويدرؤون بالحسنة السيئة " الدرء الدفع: أي يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن ما يلاقونه من الأذى. وقيل يدفعون بالطاعة المعصية، وقيل بالتوبة والاستغفار من الذنوب، وقيل بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك "ومما رزقناهم ينفقون" أي ينفقون أموالهم في الطاعات وفيما أمر به الشرع.
ثم مدحهم سبحانه بإعراضهم عن اللغو فقال: 55- "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه" تكرماً وتنزهاً وتأدباً بآداب الشرع، ومثله قوله سبحانه: "وإذا مروا باللغو مروا كراماً"، واللغو هنا هو ما يسمعونه من المشركين من الشتم لهم ولدينهم والاستهزاء بهم "وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم" لا يلحقنا من ضرر كفركم شيء، ولا يلحقكم من نفع إيماننا شيء "سلام عليكم" ليس المراد بهذا السلام سلام التحية، ولكن المراد به سلام المتاركة، ومعناه أمنة لكم منا وسلامة لا نجاريكم ولا نجاوبكم فيما أنتم فيه. قال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال "لا نبتغي الجاهلين" أي لا نطلب صحبتهم. وقال مقاتل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه. وقال الكلبي: لا نحب دينكم الذي أنتم عليه.
56- "إنك لا تهدي من أحببت" من الناس وليس ذلك إليك "ولكن الله يهدي من يشاء" هدايته "وهو أعلم بالمهتدين" أي القابلين للهداية المستعدين لها، وهذه الآية نزلت في أبي طالب كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، وقد تقدم ذلك في براءة. قال الزجاج: أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب، وقد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيدخل في ذلك أبو طالب دخولاً أولياً.
57- "وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا" أي قال مشركو قريش ومن تابعهم: إن ندخل في دينك يا محمد نختطف من أرضنا: أي يختطفنا العرب من أرضنا: يعنون مكة ولا طاقة لنا بهم، وهذا من جملة أعذارهم الباطلة وتعللاتهم العاطلة، والتخطف في الأصل هو الانتزاع بسرعة. قرأ الجمهور "نتخطف" بالجزم جواباً للشرط، وقرأ المنقري بالرفع على الاستئناف. ثم رد الله ذلك عليهم رداً مصدراً باستفهام التوبيخ والتقريع فقال: " أولم نمكن لهم حرما آمنا " أي ألم نجعل لهم حرماً ذا أمن. قال أبو البقاء: عداه بنفسه لأنه بمعنى جعل كما صرح بذلك في قوله: " أولم يروا أنا جعلنا حرما "، ثم وصف هذا الحرم بقوله: "يجبى إليه ثمرات كل شيء" أي تجمع إليه الثمرات على اختلاف أنواعها من الأراضي المختلفة وتحمل إليه. قرأ الجمهور "يجبى" بالتحتية اعتباراً بتذكير كل شيء ووجود الحائل بين الفعل وبين ثمرات، وأيضاً ليس تأنيث ثمرات بحقيقي، واختار قراءة الجمهور أبو عبيد لما ذكرنا، وقرأ نافع بالفوقية اعتباراً بثمرات. وقرأ الجمهور أيضاً "ثمرات" بفتحتين، وقرأ أبان بضمتين، جمع ثمر بضمتين، وقرئ بفتح الثاء وسكون الميم "رزقاً من لدناً" منتصب على المصدرية لأن معنى يجبى: نرزقهم، ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول له لفعل محذوف: أي نسوقه إليهم رزقاً من لدنا، ويجوز أن ينتصب على الحال أي رازقين "ولكن أكثرهم لا يعلمون" لفرط جهلهم ومزيد غفلتهم وعدم تفكرهم في أمر معادهم ورشادهم لكونهم ممن طبع الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة. وقد أخرج الفريابي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل عن أبي هريرة في قوله: "وما كنت بجانب الطور إذ نادينا" قال: نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني، واستجبت لكم قبل أن تدعوني. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعاً. وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عنه في وجه آخر بنحوه. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل وأبو نصر السجزي في الإبانة والديلمي عن عمرو بن عبسة قال: " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: "وما كنت بجانب الطور إذ نادينا" ما كان النداء وما كانت الرحمة قال: كتبه الله قبل أن يخلق خلقه بألفي عام، ثم وضعه على عرشه، ثم نادى: يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدي ورسولي صادقاً أدخلته الجنة". وأخرج الختلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعاً مثله. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن حذيفة في قوله: "وما كنت بجانب الطور إذ نادينا" مرفوعاً، قال نودوا: يا أمة محمد ما دعوتمونا إذ استجبنا لكم، ولا سألتمونا إذ أعطيناكم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً "إن الله نادى: يا أمة محمد أجيبوا ربكم، قال: فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبيك أنت ربنا حقاً ونحن عبيدك حقاً، قال: صدقتم أنا ربكم وأنتم عبيدي حقاً، قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة". وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الهالك في الفترة يقول: رب لم يأتني كتاب ولا رسول، ثم قرأ هذه الآية "ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً" الآية". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " قالوا سحران تظاهرا " إلخ. قال: هم أهل الكتاب "إنا بكل كافرون" يعني بالكتابين: التوراة والفرقان. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو القاسم البغوي والباوردي وابن قانع الثلاثة في معاجم الصحابة. والطبراني وابن مردويه بسند جيد عن رفاعة القرظي قال: نزلت "ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون" إلى قوله: "أولئك يؤتون أجرهم مرتين" في عشرة رهط أنا أحدهم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون" قال: يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بالكتاب الأول والآخر، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها. وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث المسيب ومسلم وغيره من حديث أبي هريرة أن قوله "إنك لا تهدي من أحببت" نزلت في أبي طالب لما امتنع من الإسلام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن ناساً من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن نتبعك يتخطفنا الناس، فنزلت "وقالوا إن نتبع الهدى معك" الآية: وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "يجبى إليه ثمرات كل شيء" قال: ثمرات الأرض.
قوله: 58- "وكم أهلكنا من قرية" أي من أهل قرية كانوا في خفض عيش ودعة ورخاء، فوقع منهم البطر فأهلكوا. قال الزجاج: البطر الطغيان عند النعمة. قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام. قال الزجاج والمازني: معنى "بطرت معيشتها" بطرت في معيشتها، فلما حذفت في تعدى الفعل كقوله: "واختار موسى قومه" وقال الفراء: هو منصوب على التفسير كما تقول: أبطرك مالك وبطرته، ونظيره عند قوله تعالى: "إلا من سفه نفسه" ونصب المعارف على التمييز غير جائز عند البصريين، لأن معنى التفسير أن تكون النكرة دالة على الجنس. وقيل إن معيشتها منصوبة ببطرت على تضمينه معنى جهلت "فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً" أي لم يسكنها أحد بعدهم إلا زمناً قليلاً، كالذي يمر بها مسافراً فإنه يلبث فيها يوماً أو بعض يوم، أو لم يبق من يسكنها فيها إلا أياماً قليلة لشؤم ما وقع فيها من معاصيهم. وقيل إن الاستثناء يرجع إلى المساكن: أي لم تسكن بعد هلاك أهلا إلا قليلاً من المساكن وأكثرها خراب، كذا قال الفراء وهو قول ضعيف "وكنا نحن الوارثين" منهم لأنهم لم يتركوا وارثاً يرث منازلهم وأموالهم، ومحل جملة لم تسكن الرفع على أنها خبر ثان لاسم الإشارة، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال.
59- " وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا " أي وما صح ولا استقام أن يكون الله مهلك القرى الكافرة: أي الكافر أهلها حتى يبعث في أمها رسولاً ينذرهم ويتلوا عليهم آيات الله الناطقة بما أوجبه الله عليهم وما أعده من الثواب للمطيع والعقاب للعاصي، ومعنى أمها: أكبرها وأعظمها، وخص الأعظم منها بالبعثة إليها، لأن فيها أشراف القوم، وأهل الفهم والرأي، وفيها الملوك والأكابر، فصارت بهذا الاعتبار كالأم لما حولها من القرى. وقال الحسن: أم القرى أولها. وقيل المراد بأم القرى هنا مكة كما في قوله: "إن أول بيت وضع للناس" الآية، وقد تقدم بيان ما تضمنته هذه الآية في آخر سورة يوسف، وجملة يتلوا عليهم آياتنا في محل نصب على الحال: أي تالياً عليهم ومخبراً لهم أن العذاب سينزل بهم إن لم يؤمنوا "وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون" هذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال: أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد أن نبعث إلى أمها رسولاً يدعوهم إلى الحق إلا حال كونهم ظالمين قد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم، وتأكيد الحجة عليهم كما في قوله سبحانه: "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون".