تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 395 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 395

394

78- "قال إنما أوتيته على علم عندي" قال قارون: هذه المقالة رداً على من نصحه بما تقدم: أي إنما أعطيت ما أعطيت من المال لأجل علمي، فقوله على علم في محل نصب على الحال، وعندي إما ظرف لأوتيته، وإما صلة العلم، وهذا العلم الذي جعله سبباً لما ناله من الدنيا. قيل هو علم التوراة، وقيل علمه بوجوه المكاسب والتجارات، وقيل معرفة الكنوز والدفائن، وقيل علم الكيمياء، وقيل المعنى: إن الله آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل علمه مني. واختار هذا الزجاج وأنكر ما عداه. ثم رد الله عليه قوله هذا فقال: " أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا " المراد بالقرون الأمم الخالية، ومعنى أكثر جمعاً: أكثر منه جمعاً للمال، ولو كان المال أو القوة يدلان على فضيلة لما أهلكهم الله. وقيل القوة الآلات، والجمع الأعوان. وهذا الكلام خارج مخرج التقريع والتوبيخ لقارون، لأنه قد قرأ التوراة، وعلم علم القرون الأولى وإهلاك الله سبحانه لهم "ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون" أي لا يسألون سؤال استعتاب كما في قوله: "ولا هم يستعتبون" " فما هم من المعتبين " وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ كما في قوله: "فوربك لنسألنهم أجمعين" وقال مجاهد: لا تسأل الملائكة غداً عن المجرمين لأنهم يعرفون بسيماهم، فإنهم يحشرون سود الوجوه زرق العيون. وقال قتادة: لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها، بل يدخلون النار. وقيل لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية.
79- "فخرج على قومه في زينته" الفاء للعطف على قال وما بينهما اعتراض، و في زينته متعلق بخرج، أو بمحذوف هو حال من فاعل خرج. وقد ذكر المفسرون في هذه الزينة التي خرج فيها روايات مختلفة، والمراد أنه خرج في زينة انبهر لها من رآها، ولهذا تمنى الناظرون إليه أن يكون لهم مثلها كا حكى الله عنهم بقوله: "قال الذين يريدون الحياة الدنيا" وزينتها "يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم" أي نصيب وافر من الدنيا. واختلف في هؤلاء القائلين بهذه المقالة، فقيل هم من مؤمني ذلك الوقت، وقيل هم قوم من الكفار.
80- "وقال الذين أوتوا العلم" وهم أحبار بني إسرائيل قالوا للذين تمنوا "ويلكم ثواب الله خير" أي ثواب الله في خير مما تمنونه "لمن آمن وعمل صالحاً" فلا تمنوا عرض الدنيا الزائل الذي لا يدوم "ولا يلقاها" أي هذه الكلمة التي تكلم بها الأحبار، وقيل الضمير يعود إلى الأعمال الصالحة، وقيل إلى الجنة "إلا الصابرون" على طاعة الله والمصبرون أنفسهم عن الشهوات.
81- "فخسفنا به وبداره الأرض" يقال: خسف المكان يخسف خسوفاً: ذهب في الأرض، وخسف به الأرض خسفاً: أي غاب فيها، والمعنى: أن الله سبحانه غيبه وغيب داره في الأرض "فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله" أي ما كان له جماعة يدفعون ذلك عنه "وما كان" هو في نفسه "من المنتصرين" من الممتنعين مما نزل به من الخسف.
82- "وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس" أي منذ زمان قريب "يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر" أي يقول كل واحد منهم متندماً على ما فرط منه من التمني. قال النحاس: أحسن ما قيل في هذا ما قاله الخليل وسيبويه ويونس والكسائي أن القوم تنبهوا فقالوا: وي. والمتندم من العرب يقول في خلال ندمه وي. قال الجوهري: وي كلمة تعجب، ويقال ويك، وقد تدخل وي على كأن المخففة والمشددة ويكأن الله. قال الخليل: هي مفصولة تقول وي، ثم تبتدئ فيقول كأن. وقال الفراء: هي كلمة تقرير كقولك: أما ترى صنع الله وإحسانه، وقيل هي كلمة تنبيه بمنزلة ألا. وقال قطرب: إنما وهو ويلك فأسقطت لامه، ومنه قول عنترة: ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها قول الفوارس ويك عنتر أقدم وقال ابن الأعرابي: معنى ويكأن الله: أعلم أن الله. وقال القتيبي: معناها بلغة حمير رحمة، وقيل هي بمعنى ألم تر. وروي عن الكسائي أنه قال: هي كلمة تفجع "لولا أن من الله علينا" برحمته وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البطر والبغي ولم يؤاخذنا بما وقع منا من ذلك التمني و "لخسف بنا" كما خسف به. قرأ حفص "لخسف" مبيناً للفاعل، وقرأ الباقون مبنياً للمفعول "ويكأنه لا يفلح الكافرون" أي لا يفوزون بمطلب من مطالبهم.
83- "تلك الدار الآخرة" أي الجنة، والإشارة إليها لقصد التعظيم لها والتفخيم لشأنها كأنه قال: تلك التي سمعت بخبرها وبلغك شأنها " نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض " أي رفعة وتكبراً على المؤمنين "ولا فساداً" أي عملاً بمعاصي الله سبحانه فيها، وذكر العلو والفساد منكرين في حيز النفي يدل على شمولهما لكل ما يطلق عليه أنه علو وأنه فساد من غير تخصيص بنوع خاص، أما الفساد فظاهر أنه لا يجوز شيء منه كائناً ما كان، وأما العلو فالممنوع منه ما كان على طريق التكبر على الغير والتطاول على الناس، وليس منه طلب العلو في الحق والرئاسة في الدين ولا محبة اللباس الحسن والمركوب الحسن والمنزل الحسن.
84- " من جاء بالحسنة فله خير منها " وهو أن الله يجازيه بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف " ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون " أي إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقد تقدم بيان معنى هذه الآية في سورة النمل.