تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 399 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 399

398

24- "فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه" هذا رجوع إلى خطاب إبراهيم بعد الاعتراض بما تقدم من خطاب محمد صلى الله عليه وسلم على قول من قال: إن قوله قل سيروا في الأرض خطاب محمد صلى الله عليه وسلم، وأما على قول من قال: إنه خطاب لإبراهيم عليه السلام، فالكلام في سياقه سابقاً ولاحقاً: أي قال بعضهم لبعض عند المشاورة بينهم: افعلوا بإبراهيم أحد الأمرين المذكورين، ثم اتفقوا على تحريقه "فأنجاه الله من النار" وجعلها عليه برداً وسلاماً "إن في ذلك" أي في إنجاء الله لإبراهيم "لآيات" بينة: أي دلالات واضحة وعلامات ظاهرة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه: حيث أضرموا تلك النار العظيمة وألقوه فيها ولم تحرقه ولا أثرت فيه أثراً، بل صارت إلى حالة مخالفة لما هو شأن عنصرها من الحرارة والإحراق، وإنما خص المؤمنون، لأنهم الذين يعتبرون بآيات الله سبحانه، وأما من عداهم فهم عن ذلك غافلون. قرأ الجمهور بنصب "جواب قومه" على أنه خبر كان وما بعده اسمها. وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار والحسن برفعه على أنه اسم كان وما بعده في محل نصب على الخبر.
25- "وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا" أي قال إبراهيم لقومه: أي للتوادد بينكم والتواصل لاجتماعكم على عبادتها، وللخشية من ذهاب المودة فيما بينكم إن تركتم عبادتها. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي "مودة بينكم" برفع مودة غير منونة، وإضافتها إلى بينكم. وقرأ الأعمش وابن وثاب مودة برفعها منونة. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بنصب "مودة" منونة ونصب "بينكم" على الظرفية. وقرأ حمزة وحفص بنصب مودة مضافة إلى بينكم. فأما قراءة الرفع فذكر الزجاج لها وجهين: الأول أنها ارتفعت على خبر إن في إنما اتخذتم وجعل ما موصوفة، والتقدير: إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثاناً مودة بينكم. والوجه الثاني أن تكون على إضمار مبتدأ: أي هي مودة أو تلك مودة. والمعنى: أن المودة هي التي جمعتكم على عبادة الأوثان واتخاذها. قيل ويجوز أن تكون مودة مرتفعة بالابتداء وخبرها في الحياة الدنيا. ومن قرأ برفع مودة منونة فتوجيهه كالقراءة الأولى، ونصب بينكم على الظرفية. ومن قرأ بنصب مودة ولم ينونها جعلها اتخذتم وجعل إنما حرفاً واحداً للحصر، وهكذا من نصبها ونونها. ويجوز أن يكون النصب في هاتين القراءتين على أن المودة علة فهي مفعول لأجله، وعلى قراءة الرفع يكون مفعول اتخذتم الثاني محذوفاً: أي أوثان آلهة، وعلى تقدير أن ما في قوله إنما اتخذتم موصولة يكون المفعول الأول ضميرها: أي اتخذتموه، والمفعول الثاني أوثاناً "ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض" أي يكفر بعض هؤلاء المتخذين للأوثان العابدين لها بالبعض الآخر منهم فيتبرأ القادة من الأتباع والأتباع من القادة، وقيل المعنى يتبرأ العابدون للأوثان من الأوثان وتتبرأ الأوثان من العابدين لهم "ويلعن بعضكم بعضاً" أي يلعن كل فريق الآخرة على التفسيرين المذكورين "ومأواكم النار" أي الكفار، وقيل يدخل في ذلك الأوثان: أي هي منزلكم الذي تأوون إليه "وما لكم من ناصرين" يخلصونكم منها ينصرتهم لكم.
26- "فآمن له لوط" أي آمن لإبراهيم لوط فصدقه في جميع ما جاء به، وقيل إنه لم يؤمن به إلا حين رأى النار لا تحرقه، وكان لوط ابن أخي إبراهيم "وقال إني مهاجر إلى ربي" قال النخعي وقتادة: الذي قال إني مهاجر إلى ربي وهو إبراهيم. قال قتادة: هاجر من كوثى وهي قرية من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارة، والمعنى: إني مهاجر على مقتضى الحكمة.
وقيل إن القائل إني مهاجر إلى ربي هو لوط، والأول أولى لرجوع الضمير في قوله: "ووهبنا له إسحاق ويعقوب" إلى إبراهيم، وكذا في قوله: "وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب"، وكذا في قوله: "وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين" فإن هذه الضمائر كلها لإبراهيم بلا خلاف: أي من الله عليه بالأولاد فوهب له إسحاق ولداً له ويعقوب ولداً لولده إسحاق وجعل في ذريته النبوة والكتاب فلم يبعث الله نبياً بعد إبراهيم إلا من صلبه، ووحد الكتاب لأن الألف واللام فيه للجنس الشامل للكتب، والمراد التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ومعنى "وآتيناه أجره في الدنيا" أنه أعطي في الدنيا الأولاد، وأخبره الله باستمرار النبوة فيهم، وذلك مما تقر به عينه ويزداد به سروره، وقيل أجره في الدنيا أن أهل الملل كلها تدعيه وتقول هو منهم. وقيل أعطاه في الدنيا عملاً صالحاً وعاقبة حسنة "وإنه في الآخرة لمن الصالحين": أي الكاملين في الصلاح المستحقين لتوفير الأجرة وكثرة العطاء من الرب سبحانه. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال: بعث الله نوحاً وهو ابن أربعين سنة ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: كان عمر نوح قبل أن يبعث إلى قومه وبعد ما بعث ألفاً وسبعمائة سنة. وأخرج ابن جرير عن عوف بن أبي شداد قال: إن الله أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا عن أنس بن مالك قال: جاء ملك الموت إلى نوح فقال: يا أطول النبيين عمراً كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: كرجل دخل بيتاً له بابان، فقال في وسط البيت هنيهة، ثم خرج من الباب الآخر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وجعلناها آية للعالمين" قال: أبقاها الله آية فهي على الجودي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وتخلقون إفكاً" قال: تقولون كذباً. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: " النشأة الآخرة " قال: هي الحياة بعد الموت، وهو النشور. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "فآمن له لوط" قال: صدق لوط إبراهيم. وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن أنس قال: "أول من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط". وأخرج ابن منده وابن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت: " هاجر عثمان إلى الحبشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه أول من هاجر بعد إبراهيم ولوط". وأخرج ابن عساكر والطبراني والحاكم في الكنى عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان بين عثمان وبين رقية وبين لوط مهاجر". وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: أول من هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان كما هاجر لوط إلى إبراهيم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ووهبنا له إسحاق ويعقوب" قال هما ولدا إبراهيم، وفي قوله: "وآتيناه أجره في الدنيا" قال إن الله وصى أهل الأديان بدينه فليس من أهل الأديان دين إلا وهم يقولون إبراهيم ويرضون به. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله: "وآتيناه أجره في الدنيا" قال الذكر الحسن. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: الولد الصالح والثناء، وقول ابن عباس: هما ولدا إبراهيم لعله يريد ولده وولد ولده، لأن ولد الولد بمنزلة الولد، ومثل هذا لا يخفى على مثل ابن عباس فهو حبر هذه الأمة، وهذه الرواية عنه هي من رواية العوفي،وفي الصحيحين "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".
قوله: 28- "ولوطاً" منصوب بالعطف على نوحاً، أو على إبراهيم، أو بتقدير اذكر. قال الكسائي: المعنى وأنجينا لوطاً، أو وأرسلنا لوطاً "إذ قال لقومه" ظرف للعامل في لوط "إنكم لتأتون الفاحشة" قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر أإنكم بالاستفهام. وقرأ الباقون بلا استفهام، والفاحشة الخصلة المتناهية في القبح، وجملة "ما سبقكم بها من أحد من العالمين" مقررة لكمال قبح هذه الخصلة، وأنهم منفردون بذلك لم يسبقهم إلى عملها أحد من الناس على اختلاف أجناسهم.
ثم بين سبحانه هذه الفاحشة فقال: 29- " أإنكم لتأتون الرجال " أي تلوطون بهم "وتقطعون السبيل" قيل إنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين، فلما فعلوا ذلك ترك الناس المرور بهم، فقطعوا السبيل بهذا السبب. قال الفراء: كانوا يعترضون الناس في الطرق بعملهم الخبيث، وقيل كانوا يقطعون الطريق على المارة بقتلهم ونهبهم. والظاهر أنهم كانوا يفعلون ما يكون سبباً لقطع الطريق من غير تقييد بسبب خاص، وقيل إن معنى قطع الطريق: قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال "وتأتون في ناديكم المنكر" النادي والندي والمنتدى مجلس القوم ومتحدثهم. واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه، فقيل كانوا يحذفون الناس بالحصباء، وستخفون بالغريب، وقيل كانوا يتضارطون في مجالسهم، وقيل كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضاً، وقيل كانوا يلعبون بالحمام، وقيل كانوا يخضبون أصابعهم بالحناء، وقيل كانوا يناقرون بين الديكة ويناطحون بين الكباش، وقيل يلعبون بالنرد والشطرنج ويلبسون المصبغات، ولا مانع من أنهم كانوا يفعلون جميع هذه المنكرات. قال الزجاج: وفي هذه إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المنكر وأن لا يجتمعوا على الهزؤ والمناهي. ولما أنكر لوط عليهم ما كانوا يفعلونه أجابوا بما حكى الله عنهم بقوله: "فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين" أي فما أجابوا بشيء إلا بهذا القول رجوعاً منهم إلى التكذيب واللجاج والعناد، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وقد تقدم في سورة النمل "فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم" وتقدم في سورة الأعراف " وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم " وقد جمع بين هذه الثلاثة المواضع بأن لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد ومكرراً للنهي لهم والوعيد عليهم، فقالوا له أولاً: ائتنا بعذاب الله كما في هذه الآية، فلما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا: أخرجوهم كما في الأعراف والنمل، وقيل إنهم قالوا أولاً أخرجوهم من قريتكم، ثم قالوا ثانياً ائتنا بعذاب الله.
ثم إن لوطاً لما يئس منهم طلب النصرة عليهم من الله سبحانه فـ 30- "قال رب انصرني على القوم المفسدين" بإنزال عذابك عليهم، وإفسادهم هو بما سبق من إتيان الرجال وعمل المنكر في ناديهم، فاستجاب الله سبحانه وبعث لعذابهم ملائكته وأمرهم بتبشير إبراهيم قبل عذابهم.
ولهذا قال: 31- "ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى" أي بالبشارة بالولد وهو إسحاق، وبولد الولد وهو يعقوب " قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية " أي قالوا لإبراهيم هذه المقالة، والقرية هي قرية سدوم التي كان فيها قوم لوط، وجملة "إن أهلها كانوا ظالمين" تعليل للإهلاك: أي أهلاكنا لهم بهذا السبب.
32- "قال إن فيها لوطاً" أي قال لهم إبراهيم: إن في هذه القرية التي أنتم مهلكوها لوطاً فكيف تهلكونها؟ "قالوا نحن أعلم بمن فيها" من الأخيار والأشرار ونحن أعلم من غيرنا بمكان لوط "لننجينه وأهله" من العذاب. قرأ الأعمش وحمزة ويعقوب والكسائي "لننجينه" بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد "إلا امرأته كانت من الغابرين" أي الباقين في العذاب، وهو لفظ مشترك بين الماضي والباقي، وقد تقدم تحقيقه، وقيل المعنى: من الباقين في القرية التي سينزل بها العذاب، فتعذب من جملتهم ولا تنجو فيمن نجا.
33- "ولما أن جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم" أي لما جاءت الرسل لوطاً بعد مفارقتهم إبراهيم سيء بهم: أي جاءه ما ساءه وخاف منه، لأنه ظنهم من البشر، فخاف عليهم من قومه لكونهم في أحسن صورة من الصور البشرية، و أن في أن جاءت زائدة للتأكيد "وضاق بهم ذرعاً" أي عجز عن تدبيرهم وحزن وضاق صدره، وضيق الذراع كناية عن العجز، كما يقال في الكناية عن الفقر: ضاقت يده، وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في سورة هود. ولما شاهدت الملائكة ما حل به من الحزن والتضجر "قالوا لا تخف ولا تحزن" أي لا تخف علينا من من قومك ولا تحزن فإنهم لا يقدرون علينا "إنا منجوك وأهلك" من العذاب الذي أمرنا الله بأن ننزله بهم "إلا امرأتك كانت من الغابرين" أخبروا لوطاً بما جاءوا به من إهلاك قومه وتنجيته وأهله إلا امرأته كما أخبروا بذلك إبراهيم، قرأ حمزة والكسائي وشعبة ويعقوب والأعمش "منجوك" بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد. قال المبرد: الكاف في منجوك مخفوض ولم يجز عطف الظاهر على المضمر المخفوض، فحمل الثاني على المعنى وصار التقدير: وننجي أهلك.