تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 399 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 399

399- تفسير الصفحة رقم399 من المصحف
"فما كان جواب قومه" حين دعاهم إلى الله تعالى: "إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه" اتفقوا على تحريقه "فأنجاه الله من النار" أي من إذايتها "إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون" أي إنجائه من النار العظيمة حتى لم تحرقه بعد ما ألقي فيها "لآيات". وقراءة العامة: "جواب" بنصب الباء على أنه خبر كان و"أن قالوا" في محل الرفع اسم كان وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار: "جواب" بالرفع على أنه اسم "كان" و"أن" في موضع الخبر نصبا.
قوله تعالى: "وقال" إبراهيم "إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا" وقرأ حفص وحمزة: "مودةَ بينكم" وابن كثير وأبو عمرو والكسائي: "مودةٌ بينِكم" والأعشى عن أبي بكر عن عاصم وابن وثاب والأعمش: "مودةٌ بينَكم" الباقون "مودةُ بينَكم" فأما قراءة ابن كثير ففيها ثلاثة أوجه؛ ذكر الزجاج منها وجهين: أحدهما: أن المودة ارتفعت على خبر إن وتكون "ما" بمعنى الذي والتقدير إن الذي أتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم والوجه الآخر أن يكون على إضمار مبتدأ أي وهي مودة أو تلك مودة بينكم والمعنى ألهتكم أو جماعتكم مودة بينكم قال ابن الأنباري: "أوثانا" وقف حسن لمن رفع المودة بإضمار ذلك مودة بينكم ومن رفع المودة على أنها خبر إن لم يقف والوجه الثالث الذي لم يذكره أن يكون "مودة" رفعا بالابتداء و"في الحياة الدنيا" خبره؛ فأما إضافة "مودة" إلى "بينكم" فإنه جعل "بينكم" اسما غير ظرف والنحويون يقولون جعله مفعولا على السعة وحكى سيبويه: يا سارق الليلة أهل الدار ولا يجوز أن يضاف إليه وهو ظرف؛ لعلةٍ ليس هذا موضع ذكرها ومن رفع "مودة" ونونها فعلى معنى ما ذكر و"بينكم" بالنصب ظرفا ومن نصب "مودة" ولم ينونها جعلها مفعولة بوقوع الاتخاذ عليها وجعل "إنما" حرفا واحدا ولم يجعلها بمعنى الذي ويجوز نصب المودة على أنه مفعول من أجله كما تقول: جئتك ابتغاء الخير وقصدت فلانا مودة له "بينكم" بالخفض ومن نون "مودة" ونصبها فعلى ما ذكر "بينكم" بالنصب من غير إضافة قال ابن الأنباري: ومن قرأ: "مودةً بينكم" و"مودة بينكم" لم يقف على الأوثان ووقف على الحياة الدنيا ومعنى الآية جعلتم الأوثان تتحابون عليها وعلى عبادتها في الحياة الدنيا "ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا" تتبرأ الأوثان من عبادها والرؤساء من السفلة كما قال الله عز وجل: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" [الزخرف: 67]. "ومأواكم النار وما لكم من ناصرين" هو خطاب لعبدة الأوثان الرؤساء منهم والأتباع وقيل: تدخل فيه الأوثان كقوله تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" [الأنبياء: 98].
الآية: 26 - 27 {فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم، ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}
قوله تعالى: "فآمن له لوط" لوط أول من صدق إبراهيم حين رأى النار عليه بردا وسلاما قال ابن إسحاق آمن لوط بإبراهيم وكان ابن أخته وآمنت به سارة وكانت بنت عمه "وقال إني مهاجر إلى ربي" قال النخعي وقتادة: الذي قال: "إني مهاجر إلى ربي" هو إبراهيم عليه السلام قال قتاده هاجر من كوثا وهي قرية من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط بن هاران بن تارخ وامرأته سارة قال الكلبى: هاجر من أرض حران إلى فلسطين وهو أول من هاجر من أرض الكفر قال مقاتل: هاجر إبراهيم وهو ابن خمس وسبعين سنة وقيل: الذي قال: "إني مهاجر إلى ربي" لوط عليه السلام ذكر البيهقي عن قتاده قال: أول من هاجر إلى الله عز وجل بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قتادة: سمعت النضر بن أنس يقول سمعت أبا حمزة يعني أنس بن مالك يقول: خرج عثمان بن عفان ومعه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة فأبطأ على وسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد رأيت ختنك ومعه امرأته قال: (على أي حال رأيتهما) قالت: رأيته وقد حمل امرأته على حمار من هذه الدّبّابة وهو بسوقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط) قال البيهقي: هذا في الهجرة الأولى وأما الهجرة الثانية إلى الحبشة فهي فيما زعم الواقدي سنة خمس من مبعث رسول الله صلى الله عليه سلم "إلي ربي" أي إلى رضا ربي وإلى حيث أمرني "إنه هو العزيز الحكيم" تقدم.
قوله تعالى: "ووهبنا له إسحاق" أي منّ الله عليه بالأولاد فوهب له إسحاق ولدا ويعقوب ولد ولد وإنما وهب له إسحاق من بعد إسماعيل ويعقوب من إسحاق "وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" فلم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا من صلبه ووحد الكتاب لأنه أراد المصدر كالنبوة والمراد التوراة والإنجيل والفرقان فهو عبارة عن الجمع فالتوارة انزلت على موسى من ولد إبراهيم والإنجيل على عيسى من ولده؛ والفرقان على محمد من ولده صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. "وآتيناه أجره في الدنيا" يعني اجتماع أهل الملل عليه؛ قاله عكرمة وروى سفيان عن حميد بن قيس قال: أمر سعيد بن جبير إنسانا أن يسأل عكرمة عن قوله جل ثناؤه: "وآتيتاه أجره في الدنيا" فقال عكرمة: أهل الملل كلها تدعيه وتقول هو منا؛ فقال سعيد بن جبير: صدق وقال قتادة: هو مثل قوله: "وآتيناه في الدنيا حسنة" [النحل: 122] أي عاقبة وعملا صالحا وثناء حسنا وذلك أن أهل كل دين يتولونه وقيل: "آتيناه أجره في الدنيا" أن أكثر الأنبياء من ولده "وإنه في الآخرة لمن الصالحين" ليس "في الآخرة" داخلا في الصلة وإنما هو تبيين وقد مضى في "البقرة" بيانه وكل هذا حث على الاقتداء بإبراهيم في الصبر على الدين الحق.
الآية: 28 - 35 {ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، قال رب انصرني على القوم المفسدين، ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين، قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين، إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون، ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون}
قوله تعالى: "ولوطا إذ قال لقومه" قال الكسائي: المعنى وأنجينا لوطا أو أرسلنا لوطا قال: وهذا الوجه أحب إلي ويجوز أن يكون المعنى واذكر لوطا إذ قال لقومه موبخا أو محذرا "أئنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين" تقدم القراءة فيها. "وتقطعون السبيل" قيل: كانوا قطاع الطريق؛ قال ابن زيد وقيل: كانوا يأخذون الناس من الطرق لقضاء الفاحشة؛ حكاه ابن شجرة وقيل: إنه قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال قال وهب بن منبه أي استغنوا بالرجال عن النساء.
قلت: ولعل الجميع كان فيهم فكانوا يقطعون الطريق لأخذ الأموال والفاحشة ويستغنون عن النساء بذلك.
قوله تعالى: "وتأتون في ناديكم المنكر" النادي المجلس واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه؛ فقالت فرقة: كانوا يخذفون النساء بالحصى ويستخفون بالغريب والخاطر عليهم وروته أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت أم هانئ: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: "وتأتون في ناديكم المنكر" قال: (كانوا يخذفون من يمر بهم ويسخرون منه فذلك المنكر الذي كانوا بأتونه) أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده وذكره النحاس والثعلبي والمهدوي والماوردي وذكر الثعلبي قال معاوية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل قصعة فيها الحصى للخذف فإذا مر بهم عابر قذفوه فأيهم أصابه كان أولى به) يعني يذهب به للفاحشة فذلك قوله: "وتأتون في ناديكم المنكر" وقالت عائشة وابن عباس والقاسم بن أبي بزة والقاسم بن محمد: إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم وقال منصور عن مجاهد كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضا وعن مجاهد: كان من أمرهم لعب الحمام وتطريف الأصابع بالحسناء والصفير والخذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم قال ابن عطية: وقد توجد هذه الأمور في بعض عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالتناهي واجب قال مكحول: في هذه الأمة عشرة من أخلاق قوم لوط: مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار وتنقيض الأصابع والعمامة التي تلف حول الرأس والتشابك ورمي الجلاهق والصفير والخذف واللوطية وعن ابن عباس قال: إن قوم لوط كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة منها أنهم يتظالمون فيما بينهم ويشم بعضهم بعضا ويتضارطون في مجالسهم ويخذفون ويلعبون بالنرد والشطرنج ويلبسون المصبغات ويتناقرون بالديكة ويتناطحون بالكباش ويطرفون أصابعهم بالحناء وتتشبه الرجال بلباس النساء والنساء بلباس الرجال ويضربون المكوس على كل عابر ومع هذا كله كانوا يشركون بالله وهم أول من ظهر على أيديهم اللوطية والسحاق فلما وقفهم لوط عليه السلام على هذه القبائح رجعوا إلى التكذيب واللجاج فقالوا: "ائتنا بعذاب الله" أي إن ذلك لا يكون ولا يقدر عليه وهم لم يقولوا هذا إلا وهم مصممون على أعتقاد كذبه وليس يصح في الفطرة أن يكون معاند يقول هذا ثم استنصر لوط عليه السلام ربه فبعث عليهم ملائكة لعذابهم فجاؤوا إبراهيم أولا مبشرين بنصرة لوط على قومه حسبما تقدم بيانه في "هود" وغيرها. وقرأ الأعمش ويعقوب وحمزة والكسائي: "لننجينه وأهله" بالتخفيف وشدد الباقون وقرأ ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي: "إنا منجوك وأهلك" بالتخفيف وشدد الباقون وهما لغتان: أنجى ونجى بمعنى وقد تقدم وقوله ابن عامر: "إنا منزلون" بالتشديد وهي قراءة ابن عباس الباقون بالتخفيف وقول: "ولقد نركنا منها آية بينة لقوم يعقلون" قال قتادة: هي الحجارة التي أبقيت وقال أبو العالية وقيل: إنه يرجم بها قوم من هذه الأمة وقال ابن عباس: هي آثار منازلهم الخربة وقال مجاهد: هو الماء الأسود على وجه الأرض وكل ذلك باق فلا تعارض.