تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 434 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 434

433

49- "قل جاء الحق" أي الإسلام والتوحيد. وقال قتادة: القرآن. وقال النحاس: التقدير صاحب الحق: أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج. وأقول: لا وجه لتقدير المضاف، فإن القرآن قد جاء كما جاء صاحبه "وما يبدئ الباطل وما يعيد" أي ذهب الباطل ذهاباً لم يبق منه إقبال ولا إدبار ولا إبداء ولا إعادة قال قتادة: الباطل هو الشيطان: أي ما يخلق الشيطان ابتداء ولا يبعث، وبه قال مقاتل والكلبي. وقيل يجوز أن تكون ما استفهامية: أي أي شيء يبديه وأي شيء يعيده؟ والأول أولى.
50- "قل إن ضللت" عن الطريق الحقة الواضحة "فإنما أضل على نفسي" أي إثم ضلالتي يكون على نفسي، وذلك أن الكفار قالوا له تركت دين آبائك فضللت، فأمره الله أن يقول لهم هذا القول "وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي" من الحكمة والموعظة والبيان بالقرآن "إنه سميع قريب" مني ومنكم يعلم الهدى والضلالة، قرأ الجمهور ضللت بفتح اللام، وقرأ الحسن ويحيى بن وثاببكسر اللام، وهي لغة أهل العالية. وقد أخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "وما بلغوا معشار ما آتيناهم" يقول: من القوة في الدنيا. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال: يقوم الرجل مع الرجل أو وحده فيفكر ما بصاحبه من جنة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة "ما بصاحبكم من جنة" يقول: إنه ليس بمجنون. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله: "ما سألتكم من أجر" أي من جعل فهو لكم، يقول: لم أسألكم على الإسلام جعلاً، وفي قوله: "قل إن ربي يقذف بالحق" قال: بالوحي، وفي قوله: "وما يبدئ الباطل وما يعيد" قال: الشيطان لا يبدئ ولا يعيد إذا هلك. وأخرج هؤلاء أيضاً عنه في قوله: "وما يبدئ الباطل وما يعيد" قال: ما يخلق إبليس شيئاً ولا يبعثه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله: "إن ضللت فإنما أضل على نفسي" قال: إنما أوخذ بجنايتي.
ثم ذكر سبحانه حالاً من أحوال الكفار فقال: 51- "ولو ترى إذ فزعوا" والخطاب لرسول الله، أو لكل من يصلح له، قيل المراد فزعهم عند نزول الموت بهم. وقال الحسن: هو فزعهم في القبور من الصيحة، وقال قتادة: هو فزعهم إذا خرجوا من قبورهم. وقال السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فراراً ولا رجوعاً إلى التوبة. وقال ابن مغفل: هو فزعهم إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة. وقال سعيد بن جبير: هو الخسف الذي يخسف بهم في البيداء، فيبقى رجل منهم فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعون. وجواب لو محذوف: أي لرأيت أمراً هائلاً، ومعنى "فلا فوت" فلا يفوتني أحد منم ولا ينجو منهم ناج. قال مجاهد: فلا مهرب "وأخذوا من مكان قريب" من ظهر الأرض أو من القبور أو من موقف الحساب وقيل من حيث كانوا، فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه. قيل ويجوز أن يكون هذا الفزع هو الفزع الذي بمعنى الإجابة، يقال فزع الرجل: إذا أجاب الصارخ الذي يستغيث بهم كفزعهم إلى الحرب يوم بدر.
52- "وقالوا آمنا به" أي بمحمد، قاله قتاده، أو بالقرآن. وقال مجاهد: بالله عز وجل. وقال الحسن: بالبعث "وأنى لهم التناوش" التناوش التناول، وهوتفاعل ن التناوش الذي هو التناول، والمعنى: كيف لهم أن يتناولوا الإيمان من بعد، يعني في الآخرة وقد تركوه في الدنيا، وهو معنى "من مكان بعيد" وهو تمثيل لحالهم في طلب الخلاص بعد ما فات عنهم. قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلاً ليأخذ برأسه أو بلحيته ناشه ينوشه نوشاً، وأنشد: فهي تنوش الحوض نوشاً من علا نوشا به تقطع أحواز الفلا أي تناول ماء الحوض من فوق، ومنه المناوشة في القتال، وقيل التناوش الرجعة: أي وأنى لهم الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا، ومنه قول الشاعر: تمنى أن تئوب إلي مي وليس إلى تناوشها سبيل
وجملة 53- "وقد كفروا به من قبل" في محل نصب على الحال: أي والحال أن قد كفروا بما آمنوا به الآن من قبل هذا الوقت، وذلك حال كونهم في الدنيا. قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي والأعمش " التناوش " بالهمز، وقرأ الباقون بالواو، واستبعد أبو عبيد والنحاس القراءة الأولى، ولا وجه للاستبعاد، فقد ثبت ذلك في لغة العرب وأشعارها، ومنه قول الشاعر: قعدت زماناً عن طلابك للعلا وجئت نئيشاً بعد ما فاتك الخير أي وجئت أخيراً. قال الفراء: الهمز وترك الهمز متقارب "ويقذفون بالغيب" أي يرمون بالظن فيقولون: لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار "من مكان بعيد" أي من جهة بعيدة ليس فيها مستند لظنهم الباطل. وقيل المعنى: يقولون في القرآن أقوال باطلة: إنه سحر وشعر وأساطير الأولين. وقيل يقولون في محمد إنه ساحر شاعر كاهن مجنون. وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو "يقذفون" مبنياً للمفعول: أي يرجمون بما يسوؤهم من جراء أعمالهم من حيث لا يحتسبون، وفيه تمثيل لحالهم بحال من يرمي شيئاً لا يراه من مكان بعيد لا مجال للوهم في لحوقه، والجملة إما معطوفة على: وقدكفروا به على أنه حكاية للحال الماضية واستحضار لصورتها، أو مستأنفة لبيان تمثيل حالهم.
54- "وحيل بينهم وبين ما يشتهون" من النجاة من العذاب ومنعوا من ذلك، وقيل حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم، أو حيل بينهم وبين ما يشتهونه من الرجوع إلى الدنيا "كما فعل بأشياعهم من قبل" أي بأمثالهم ونظائرهم من كفار الأمم الماضية، والأشياع جمع شيع، وشيع جمع شيعة، وجملة "إنهم كانوا في شك مريب" تعليل لما قبلها: أي في شك موقع في الريبة أو ذي ريبة من أمر الرسل والبعث والجنة والنار، أو في التوحيد وما جاءتهم به الرسل من الدين، يقال أراب الرجل إذا صار ذا ريبة فهو مريب، وقيل هو من الريب الذي هو الشك، فهو كما يقال عجب عجيب وشعر شاعر. وقد أخرج وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فلا فوت" قال: فلا نجاة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب" قال: هو جيش السفياني، قيل من أين أخذوا؟ قال: من تحت أقدامهم. وقد ثبت في الصحيح أنه يخسف بجيش في البيداء من حديث حفصة وعائشة، وخارج الصحيح من حديث أم سلمة وصفية وأبي هريرة وابن مسعود، وليس في شيء منها أن ذلك سبب نزول هذ الآية، ولكنه أخرج ابن جرير من حديث حذيفة بين اليمان قصة الخسف هذه مرفوعة، وقال في آخرها: فذلك قوله عز وجل في سورة سبأ "ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت" الآية. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "وأنى لهم التناوش" قال: كيف لهم الرد "من مكان بعيد" قال: يسألون الرد، وليس بحين رد. وأخرج ابن المنذر عن التيمي قال: أتيت ابن عباس قلت: ما التناوش؟ قال: تناول الشيء وليس بحين ذاك. سورة فاطرهي خمس وأربعون آية وهي مكية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج البخاري وابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة فاطر بمكة. الفطر: الشق عن الشيء، يقال فطرته فانفطر، ومنه فطر ناب البعير إذا طلع فهو بعير فاطر، وتفطر الشيء تشقق، والفطر الابتداء والاختراع، وهو المراد هنا، والمعنى 1- "الحمد لله" مبدع "السموات والأرض" ومخترعهما، والمقصود من هذا أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم فهو قادر عل الإعادة. قرأ الجمهور فاطر على صيغة اسم الفاعل، وقرأ الزهري والضحاك فطر على صيغة الفعل الماضي، فعلى القراءة الأولى هو نعت لله لأن إضافته مخضة لكونه بمعنى الماضي، وإن كانت غير محضة كان بدلاً، ومثله "جاعل الملائكة رسلاً" يجوز فيه الوجهان، وانتصاب رسلاً بفعل مضمر على الوجه الأول، لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل، وجوز الكسائي عمله. وأما على الوجه الثاني فهو منصوب بجاعل، والرسل من الملائكة هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وقرأ الحسن جاعل بالرفع، وقرأ خليل بن نشيط ويحيى بن يعمر جعل على صيغة الماضي. وقرأ الحسن وحميد رسلاًبسكون السين ، وهي لغة تميم " أولي أجنحة " صفة لرسلا ، والأجنحة جمع جناح " مثنى وثلاث ورباع " صفة لأجنحة، وقد تقدم الكلام في مثنى وثلاث ورباع في النساء. قال قتادة: بعضهم له جناحان. وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة ينزلون بها من السماء إلى الأرض ويعرجون بها من الأرض إلى السماء. قال يحيى بن سلام: يرسلهم الله إلى الأنبياء. وقال السدي: إلى العباد بنعمه أو نقمه، وجملة "يزيد في الخلق ما يشاء" مستأنفة مقررة لما قبلها من تفاوت أحوال الملائكة، والمعنى: أنه يزيد في خلق الملائكة ما يشاء، وهو قول أكثر المفسرين، واختاره الفراء والزجاج: وقيل إن هذه الزيادة في الخلق غير خاصة بالملائكة فقال الزهري وابن جريج: إنها حسن الصوت. وقال قتادة: الملاحة في العينين والحسن في الأنف والحلاوة في الفم، وقيل الوجه الحسن، وقيل الخط الحسن، وقيل الشعر الجعد، وقيل العقل والتمييز، وقيل العلوم والصنائع ولا وجه لقصر ذلك على نوع خاص بل يتناول كل زيادة، وجملة "إن الله على كل شيء قدير" تعليل لما قبلها من أنه يزيد في الخلق ما يشاء.
2- "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها" أي ما يأتيهم الله به من مطر ورزق لا يقدر أحد أن يمسكه "وما يمسك" من ذلك لا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه، وقيل المعنى: إن الرسل بعثوا رحمة للناس فلا يقدر على إرسالهم غير الله، وقيل هو الدعاء، وقيل التوبة، وقيل التوفيق والهداية. ولا وجه لهذا التخصيص بل المعنى: كل ما يفتحه الله للناس من خزائن رحمته فيشمل كل نعمة ينعم الله بها على خلقه، وهكذا الإمساك يتناول كل شيء يمنعه الله من نعمه، فهو سبحانه المعطي المانع القابض الباسط لا معطي سواه ولا منعم غيره. ثم أمر الله سبحانه عباده أن يتذكروا نعمه الفائضة عليهم التي لا تعد ولا تحصى "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" ومعنى هذا الأمر لهم بالذكر هو إرشادهم إلى الشكر لاستدامتها وطلب المزيد منها.
3- "هل من خالق غير الله" من زائدة وخالق مبتدأ وغير الله صفة له. قال الزجاج: ورفع غير على معنى هل خالق غير الله لأن من زيادة مؤكدة، ومن خفض غير جعلها صفة على اللفظ. قرأ الجمهور برفع "غير" وقرأ حمزة والكسائي بخفضها، وقرأ الفضل بن إبراهيم بنصبها على الاستثناء، وجملة "يرزقكم من السماء والأرض" خبر المبتدأ، أو جملة مستأنفة أو صفة أخرى لخالق، وخبره محذوف، والرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات وغير ذلك، وجملة "لا إله إلا هو" مستأنفة لتقرر النفي المستفاد من الاستفهام "فأنى تؤفكون" من الأفك بالفتح وهو الصرف، يقال ما أفكك عن كذا: أي ما صرفك: أي فكيف تصرفون، وقيل هو مأخوذ من الإفك بالكسر، وهو الكذب لأنه مصروف عن الصدق. قال الزجاج: أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله والبعث وأنتم مقرون بأن الله خلقكم ورزقكم.
ثم عزى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: 4- "وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك" ليتأسى بمن قبله من الأنبياء ويتسلى عن تكذيب كفار العرب له "وإلى الله ترجع الأمور" لا إلى غيره فيجازي كلاً بما يستحقه. قرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف "ترجع" بفتح الفوقية على البناء للفاعل، وقرأ الباقون بضمها على البناء للمفعول.
3- "يا أيها الناس إن وعد الله حق" أي وعده بالبعث والنشور والحساب والعقاب والجنة والنار، كما أشير إليه بقوله: "وإلى الله ترجع الأمور، "فلا تغرنكم الحياة الدنيابزخرفها ونعيمها* قال سعيد بن جبير غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة حتى يقوليا ليتني قدمت لحياتي "ولا يغرنكم بالله الغرور" قرأ الجمهور بفتح الغين: أي المبالغ في الغرور، وهو الشيطان. قال ابن السكيت وأبو حاتم: الغرور الشيطان ويجوز أن يكون مصدراً، واستبعده الزجاج، لأن غرر به متعدى ومصدر المتعدي إنما هو على فعل نحو ضربه ضرباً، إلا في أشياء يسيرة معروفة لا يقاس عليها، ومعنى الآية: لا يغرنكم الشيطان بالله فيقول لكم: إن الله يتجاوز عنكم ويغفر لكم لفضلكم أو لسعة رحمته لكم. وقرأ أبو حيوة وأبو السماك ومحمد بن السميفع بضم الغين، وهو الباطل. قال ابن السكيت: والغرور بالضم ما يغر من متاع الدنيا. وقال الزجاج: يجوز أن يكون الغرور جمع غار، مثل قاعد وقعود، قيل ويجوز أن يكون مصدر غره كاللزوم والنهوك، وفيه ما تقدم عن الزجاج من الاستبعاد.