تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 433 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 433

432

40- "ويوم نحشرهم جميعاً" الظرف منصوب بفعل مقدر نحو اذكر، أو هو متصل بقوله: "ولو ترى إذ الظالمون موقوفون" أي ولو تراهم أيضاً يوم نحشرهم جميعاً للحساب العابد والمعبود والمستكبر والمستضعف، " ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون " تقريعاً للمشركين وتوبيخاً لمن عبد غير الله عز وجل كما في قوله لعيسى " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " وإنما خصص الملائكة بالذكر مع أن بعض الكفار قد عبد غيرهم من الشياطين والأصنام لأنهم أشرف معبودات المشركين. قال النحاس: والمعنى أن الملائكة إذا أكذبتهم كان في ذلك تبكيت للمشركين.
وجملة "قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم" مستأنفة جواب سؤال مقدر: أي تنزيهاً لك أنت الذي نتولاه ونطيعه ونعبده من دونهم، ما اتخذناهم عابدين ولا توليناهم وليس لنا غيرك ولياً، ثم صرحوا بما كان المشركون يعبدونه فقالوا: "بل كانوا يعبدون الجن" أي الشياطين وهم إبليس وجنوده ويزعمون أنهم يرونهم وأنهم ملائكة وأنهم بنات الله، وقيل كانوا يدخلون أجواف الأصنام ويحاطبونهم منها "أكثرهم بهم مؤمنون" أي أكثر المشركين بالجن مؤمنون بهم مصدقون لهم، قيل والأكثر في معنى الكل.
42- "فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً" يعني العابدين والمعبودين لا يملك بعضهم وهم المعبودون لبعض، وهم العابدون "نفعاً" أي شفاعة ونجاة "ولا ضراً" أي عذاباً وهلاكاً، وإنما قيل لهم هذا القول إظهاراً لعجزهم وقصورهم وتبكيتاً لعابديهم، وقوله: "ولا ضراً" هو على حذف مضاف: أي لا يملكون لهم دفع ضر، وقوله "ونقول للذين ظلموا" عطف على قوله: " يقول للملائكة " أي للذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله "ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون" في الدنيا. وقد أخرج وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال:" كان رجلان شريكين، خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الآخر، فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل؟ فكتب إلأيه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال: دلني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إلى ما تدعو؟ قال: إلى كذا وكذا، قال: أشهد أنك رسول الله، قال: وما علمك بذلك؟ قال: إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم، فنزلت هذه الآيات: "وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها" الآيات، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إن الله قد أنزل تصديق ما قلت". وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "جزاء الضعف" قال: تضعيف الحسنة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال: إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين، وتلا هذه الآية "وما أموالكم ولا أولادكم" إلى قوله: "فأولئك لهم جزاء الضعف" قال: تضعيف الحسنة. وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب المفرد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه" قال: في غير إسراف ولا تقتير، وعن مجاهد مثله، وعن الحسن مثله. وأخرج الدارقطني والبيهقي في الشعب عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلما أنفق العبد من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً إلا نفقة في بيان أو معصية". وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل أنفق يا ابن آدم أنفق عليك" وثبت في الصحيح من حديثه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً". وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لكل يوم نحساً، فادفعوا نحس ذلك اليوم بصدقة" ثم قال: اقرأوا مواضع الخلف، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه" إذا لم تنفقوا كيف يخلف. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المعونة تنزل من السماء على قدر المؤونة".
ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من أنواع كفرهم، فقال: 43- "وإذا تتلى عليهم آياتنا" أي الآيات القرآنية حال كونهم "بينات" واضحات الدلالات ظاهرات المعاني "قالوا ما هذا" يعنون التالي لها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم " إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم " أي أسلافكم من الأصنام التي كانوا يعبدونها " وقالوا " ثانيا " ما هذا " يعنون القرآن الكريم " إلا إفك مفترى " أي كذب مختلق " وقال الذين كفروا " ثالثا " للحق لما جاءهم " أي لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن هذا إلا سحر مبين" وهذا لاإنكار منهم خاص بالتوحيد، وأما إنكار القرآن والمعجزة فكان متفقاً عليه بين أهل الكتاب والمشركين، وقيل أريد بالأول، وهو قولهم: "إلا إفك مفترى" معناه، وبالثاني، وهو قولهم: "إن هذا إلا سحر مبين" نظمه المعجز. وقيل إن طائفة منهم قالوا: إنه إفك، وطائفة قالوا: إنه سحر، وقيل إنهم جميعاً قالوا تارة إنه إفك، وتارة إنه سحر، والأول أولى.
44- "وما آتيناهم من كتب يدرسونها" أي ما أنزلنا على العرب كتباً سماوية يدرسون فيها "وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير" يدعوهم إلى الحق وينذرهم بالعذاب، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه، ولا شبهة يتشبثون بها. قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال الفراء: أي من أين كذبوك، ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه.
ثم خولهم سبحانه وأخبر عن عاقبتهم وعاقبة من كان قبلهم فقال: 45- "وكذب الذين من قبلهم" من القرون الخالية "وما بلغوا معشار ما آتيناهم" أي ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوة وكثرة المال وطول العمر فأهلكهم الله، كعاد وثمود وأمثالهم. والمعشار: هو العشر. قال الجوهري: معشار الشيء عشره. وقيل المعشار: عشر العشر، والأول أولى. وقيل إن المعنى: ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى. وقيل ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم، وقيل ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان، والأول أولى. وقيل: المعشار عشر العشير، والعشير عشر العشر، فيكون جزءاً من ألف جزء. قال الماوردي: وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل قلت مراعاة المبالغة في التقليل، لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي، وقوله: "فكذبوا رسلي" عطف على "كذب الذين من قبلهم" على طريقة التفسير، كقوله: "كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا" الآية، والأولى أن يكون من عطف الخاص على العام، لأن التكذيب الأول لما حذف من المتعلق للتكذيب أفاد العموم، فمعناه: كذبوا الكتب المنزلة والرسل المرسلة والمعجزات الواضحة، وتكذيب الرسل أخص منه، وإن كان مستلزماً له فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الالتزامية "فكيف كان نكير" أي فكيف كان إنكاري لهم بالعذاب والعقوبة، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك، قيل وفي الكلام حذف، والتقدير: فأهلكناهم فكيف كان نكير، والنكير اسم بمعنى الإنكار.
ثم أمر سبحانه رسول أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها فقال: 46- "قل إنما أعظكم بواحدة" أي أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وأوصيكم بخصلة واحدة، وهي "أن تقوموا لله مثنى وفرادى" هذا تفسير للخصلة الواحدة، أو بدل منها: أي هي قيامكم وتشميركم في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين إثنين إثنين، وواحداً واحداً، لأن الاجتماع يشوش الفكر، وليس المراد القيام على الرجلين، بل المراد القيام بطلب الحق وإصداق الفكر فيه، كما يقال قام فلان بأمر كذا "ثم تتفكروا" وذلك لأنهم كانوا يقولون: إن محمداً مجنون، فقال الله سبحانه قل لهم اعتبروا أمري بواحدة، وهي أن تقوموا لله، وفي ذاته مجتمعين، فيقول الرجل لصاحبه هلم فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل من جنة: أي جنون أو جربنا عليه كذباً، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيتفكر وينظر، فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق وأنه رسول من عند الله، وأنه ليبس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون، وهو معنى قوله: " إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد " أي ما هو إلا نذير لكم بين يدي الساعة، وقيل إن جملة "ما بصاحبكم من جنة" مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر العظيم والدعوى الكبيرة لا يعرض نفسه له إلا مجنون لا يبالي بما يقال فيه وما ينسب إليه من الكذب، وقد علموا أنه أرجح الناس عقلاً، فوجب أن يصدقوه في دعواه، لا سيما مع انضمام المعجزة الواضحة وأجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب، ولا قد جربوا عليه كذباً مدة عمره وعمرهم. وقيل يجوز أن تكون ما في "ما بصاحبكم" استفهامية: أي ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون، وقيل المراد بقوله: "إنما أعظكم بواحدة" هي لا إله إلا الله كذا قال مجاهد والسدي. وقيل القرآن لأنه يجمع المواعظ كلها، والأولى ما ذكرناه أولاً. وقال الزجاج: إن أن في قوله: "أن تقوموا" في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا. وقال السدي: معنى مثنى وفرادى: منفرداً برأيه ومشاوراً لغيره. وقال القتيبي: مناظراً مع عشيرته ومفكراً في نفسه. وقيل المثنى عمل النهار، والفرادى عمل الليل، وقال القتيبي: مناظراً مع عشيرته ومفكراً في نفسه. وقيل المثنى عمل النهار، والفرادى عمل الليل، قاله الماوردي. وما أبرد هذا القول وأقل جدواه. واختار أبو حاتم وابن الأنباري الوقف على قوله: "ثم تتفكروا" وعلى هذا تكون جملة "ما بصاحبكم من جنة" مستأنفة كما قدمنا، وقيل ليس بوقف، لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذباً، أو رأيتم من جنة، أو في أحواله من فساد.
ثم أمر سبحانه أن يخبرهم أنه لم يكن له غرض في الدنيا ولا رغبة فيها حتى تنقطع عندهم الشكوك ويرتفع الريب فقال: 47- "قل ما سألتكم من أجر فهو لكم" أي ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي مقابل الرسالة فهو لكم إن سألتكموه، والمارد نفي السؤال بالكلية، كما يقول القائل: ما أملكه في هذا فقد وهبته لك، يريد أنه لا ملك له فيه أصلاً، ومثل هذه الآية قوله: "قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى" وقوله: " ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ". ثم بين لهم أن أجره عند الله سبحانه فقال: "إن أجري إلا على الله" أي ما أجري إلا على الله لا على غيره "وهو على كل شيء شهيد" أي مطلع لا يغيب عنه من شيء.
48- "قل إن ربي يقذف بالحق" القذف الرمي بالسهم والحصى والكلام. قال الكلبي: يرمي على معنى يأتي به، وقال مقاتل: يتكلم بالحق وهو القرآن والوحي: أي يلقيه إلى أنبيائه. وقال قتادة "بالحق" أي بالوحي، والمعنى: أنه يبين الحجة ويظهرها للناس على ألسن رسله، وقيل يرمي الباطل بالحق فيدمغه "علام الغيوب" قرأ الجمهور برفع "علام" على أنه خبر ثان لإن، أوخبر مبتدأ محذوف، أو بدل من الضمير في يقذف، أو معطوف على محل اسم إن. قال الزجاج: الرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل. وقرأ زيد بن علي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بالنصب نعتاً لاسم إن، أو بدلاً منه، أو على المدح. قال الفراء: والرفع في مثل هذا أكثر كقوله: "إن ذلك لحق تخاصم أهل النار"، وقرئ الغيوب بالحركات الثلاث في الغين، وهو جمع غيب، والغيب هوالأمر الذي غاب وخفي جداً.