تفسير الطبري تفسير الصفحة 454 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 454
455
453
 الآية : 17-20
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {اصْبِر عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيْدِ إِنّهُ أَوّابٌ * إِنّا سَخّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِيّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطّيْرَ مَحْشُورَةً كُلّ لّهُ أَوّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: اصبر يا مـحمد علـى ما يقول مشركو قومك لك مـما تكره قـيـلهم لك, فإنا مـمتـحنوك بـالـمكاره امتـحاننا سائر رسلنا قبلك, ثم جاعلو العلوّ والرفعة والظفر لك علـى من كذبك وشاقّك سنتنا فـي الرسل الذين أرسلناهم إلـى عبـادنا قبلك فمنهم عبدنا أيوب وداود بن إيشا, فـاذكره ذا الأيد ويعنـي بقوله: ذَا الأَيْدِ ذا القوّة والبطش الشديد فـي ذات الله والصبر علـى طاعته. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22872ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس دَاوُد ذَا الأَيْدِ قال: ذا القوّة.
22873ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: ثنـي أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: ذَا الأَيْد قال: ذا القوّة فـي طاعة الله.
22874ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَاذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأَيْد قال: أعطي قوّة فـي العبـادة, وفقها فـي الإسلام.
وقد ذُكر لنا أن داود صلى الله عليه وسلم كان يقوم اللـيـل ويصوم نصف الدهر.
22875ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ ذا القوّة فـي طاعة الله.
22876ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ قال: ذا القوّة فـي عبـادة الله, الأيد: القوّة, وقرأ: والسّماءَ بَنَـيْناها بأَيْدٍ قال: بقوّة.
وقوله: إنّهُ أوّابٌ يقول: إن داود رَجّاع لـما يكرهه الله إلـى ما يرضيه أوّاب, وهو من قولهم: آب الرجل إلـى أهله: إذا رجع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22877ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد إنّهُ أوّابٌ قال: رجاع عن الذنوب.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد إنّهُ أوّابٌ قال: الراجع عن الذنوب.
22878ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أنّهُ أوّابٌ: أي كان مطيعا لله كثـير الصلاة.
22879ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: إنّهُ أوّابٌ قال: الـمسبّح.
22880ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: إنّهُ أوّابٌ قال: الأوّاب التوّاب الذي يؤوب إلـى طاعة الله ويرجع إلـيها, ذلك الأوّاب, قال: والأوّاب: الـمطيع.
وقوله: إنّا سَخّرْنا الـجِبـالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بـالعَشِيّ وَالإشْرَاقِ يقول تعالـى ذكره: إنا سخرنا الـجبـال يسبّحن مع داود بـالعشيّ, وذلك من قوت العصر إلـى اللـيـل, والإشراق, وذلك بـالغداة وقت الضحى. ذُكر أن داود كان إذا سبح سبحت معه الـجبـال, كما:
22881ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنّا سخّرْنا الـجِبـالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بـالعَشِيّ والإشْراقِ يسبحن مع داود إذا سبح بـالعشيّ والإشراق.
22882ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: بـالعَشيّ والإشْرَاقِ قال: حين تُشرق الشمس وتضحى.
22883ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا مـحمد بن بشر, عن مسعر بن عبد الكريـم, عن موسى بن أبـي كثـير, عن ابن عبـاس أنه بلغه أن أمّ هانىء ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتـح مكة, صلـى الضحى ثمان ركعات, فقال ابن عبـاس: قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة, يقول الله: يُسَبّحْنَ بـالعَشيّ والإشْراقِ.
22884ـ حدثنا ابن عبد الرحيـم البرقـي, قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة, قال: حدثنا صدقة, قال: ثنـي سعيد بن أبـي عَروبة, عن أبـي الـمتوكل, عن أيوب بن صفوان, عن عبد الله بن الـحارث بن نوفل أن ابن عبـاس كان لا يصلـي الضحى, قال: فأدخـلته علـى أم هانىء, فقلت: أخبري هذا بـما أخبرتنـي به, فقالت أمّ هانىء: دخـل علـيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتـح فـي بـيتـي, فأمر بـماء فصبّ فـي قصعة, ثم أمر بثوب فأخذ بـينـي وبـينه, فـاغتسل, ثم رشّ ناحية البـيت فصلّـى ثمان ركعات, وذلك من الضحى قـيامهنّ وركوعهنّ وسجودهنّ وجلوسهنّ سواء, قريب بعضهنّ من بعض, فخرج ابن عبـاس, وهو يقول: لقد قرأت ما بـين اللوحين, ما عرفت صلاة الضحى إلا الاَن يُسَبّحْنَ بـالعَشَيّ والإشْراق وكنت أقول: أين صلاة الإِشراق, ثم قال: بعدهنّ صلاة الإِشراق.
حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا سعيد بن أبـي عروبة, عن متوكل, عن أيوب بن صفوان, مولـى عبد الله بن الـحارث, عن عبد الله بن الـحارث, أن أمّ هانىء ابنة أبـي طالب, حَدّثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتـح دخـل علـيها ثم ذكر نـحوه.
وعن ابن عبـاس فـي قوله: يُسَبّحْنَ بـالعَشِيّ مثل ذلك.
وقوله: والطّيْرَ مَـحْشُورَةً يقول تعالـى ذكره: وسخرنا الطير يسبحن معه مـحشورة بـمعنى: مـجموعة له ذُكر أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سبح أجابته الـجبـال, واجتـمعت إلـيه الطير, فسبحت معه واجتـماعها إلـيه كان حشرها. وقد ذكرنا أقوال أهل التأويـل فـي معنى الـحشر فـيـما مضى, فكرهنا إعادته. وكان قتادة يقول فـي ذلك فـي هذا الـموضع ما:
22885ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة والطّيْرَ مَـحْشُورَةً: مسخّرة.
وقوله: كُلّ لَهُ أوّابٌ يقول: كل ذلك له مطيع رجّاع إلـى طاعته وأمره. ويعنـي بـالكلّ: كلّ الطير. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22886ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة كُلّ لَهُ أوّابٌ: أي مطيع.
22887ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: والطّيْرَ مَـحْشُورَةً كُلّ لَهُ أوّابٌ قال: كلّ له مطيع.
وقال آخرون: معنى ذلك: كل ذلك لله مسبّح. ذكر من قال ذلك:
22888ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: والطّيْر مَـحْشُورَةً كُلّ لَهُ أوّابٌ يقول: مسبّح لله.
وقوله: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي به شدّد ملكه, فقال بعضهم: شدّد ذلك بـالـجنود والرجال, فكان يحرسه كلّ يوم ولـيـلة أربعة آلاف, أربعة آلاف. ذكر من قال ذلك:
22889ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدّيّ, قوله: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قال: كان يحرسه كلّ يوم ولـيـلة أربعة آلاف, أربعة آلاف.
وقال آخرون: كان الذي شدد به ملكه, أن أُعطِيَ هيبة من الناس له لقضية كان قضاها. ذكر من قال ذلك:
22890ـ حدثنـي ابن حرب, قال: حدثنا موسى, قال: حدثنا داود, عن علبـاء بن أحمر, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, أن رجلاً من بنـي إسرائيـل استعدى علـى رجل من عظمائهم, فـاجتـمعا عند داود النبـيّ صلى الله عليه وسلم فقال الـمستعدي: إن هذا اغتصبنـي بقرا لـي, فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده, فسأل الاَخر البـينة, فلـم يكن له بـيّنة, فقال لهما داود: قوما حتـى أنظر فـي أمركما فقاما من عنده, فأوحى الله إلـى داود فـي منامه أن يقتل الرجل الذي استُعدي علـيه, فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتـى أتثبت, فأوحى الله إلـى داود فـي منامه مرّة أخرى أن يقتل الرجل, وأوحى الله إلـيه الثالثة أن يقتله أو تأتـيه العقوبة من الله, فأرسل داود إلـى الرجل: إن الله قد أوحى إلـيّ أن أقتلك, فقال الرجل: تقتلنـي بغير بـينة ولا تثبت؟ فقال له داود: نعم, والله لأنفذنّ أمر الله فـيك فلـما عرف الرجل أنه قاتله, قال: لا تعجل علـيّ حتـى أخبرك, إنـي والله وما أُخِذت بهذا الذنب, ولكنـي كنت اغتلت والد هذا فقتلته, فبذلك قُتلت, فأمر به داود فقُتل, فـاشتدّت هيبة بنـي إسرائيـل عند ذلك لداود, وشدد به ملْكه, فهو قول الله: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله تبـارك وتعالـى أخبر أنه شَدّد ملك داود, ولـم يحضر ذلك من تشديده علـى التشديد بـالرجال والـجنود دون الهيبة من الناس له ولا علـى هيبة الناس له دون الـجنود. وجائز أن يكون تشديده ذلك كان ببعض ما ذكرنا, وجائز أن يكون كان بجميعها, ولا قول أولـى فـي ذلك بـالصحة من قول الله, إذ لـم يحصُرْ ذلك علـى بعض معانـي التشديد خبر يجب التسلـيـم له.
وقوله: وآتَـيْناهُ الـحِكْمَةَ اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـحكمة فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: عُنـي بها النبوّة. ذكر من قال ذلك:
22891ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط عن السديّ, قوله: وآتَـيْناهُ الـحِكْمَةَ قال: النبوّة.
وقال آخرون: عُنـي بها أنه علـم السنن. ذكر من قال ذلك:
22892ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وآتَـيْناهُ الـحِكْمَةَ: أي السنة.
وقد بـيّنا معنى الـحكمة فـي غير هذا الـموضع بشواهده, فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وقوله: وفَصْلَ الـخِطابِ اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك, فقال بعضهم: عنـي به أنه علـم القضاء والفهم به. ذكر من قال ذلك:
22893ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس وَآتَـيْناهُ الـحِكْمَةَ وَفَصْلَ الـخِطابِ قال: أعطي الفهم.
22894ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن لـيث, عن مـجاهد وَفَصْلَ الـخِطاب قال: إصابة القضاء وفهمه.
22895ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـي قوله: وَفَصْل الـخِطابِقال: علـم القضاء.
22896ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وآتَـيْناهُ الـحِكْمَةَ وَفَصْلَ الـخِطابِ قال: الـخصومات التـي يخاصم الناس إلـيه فصل ذلك الـخطاب, الكلام الفهم, وإصابة القضاء والبـيّنات.
22897ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي حُصين, قال: سمعت أبـا عبد الرحمن يقول: فصل الـخطاب: القضاء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفصل الـخطاب, بتكلـيف الـمدّعي البـينة, والـيـمين علـى الـمدّعَى علـيه. ذكر من قال ذلك:
22898ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا داود بن أبـي هند, قال: ثنـي الشعبـيّ أو غيره, عن شريح أنه قال فـي قوله: وفَصْلَ الـخِطابِ قال: بـيّنة الـمدّعي, أو يـمين الـمُدّعى علـيه.
22899ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن عُلـيّة, عن داود بن أبـي هند, فـي قوله: وآتَـيْناه الـحِكْمَةَ وَفَصْلَ الـخِطابِ قال: نُبّئت عن شريح أنه قال: شاهدان أو يـمين.
حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا معتـمر, قال: سمعت داود قال: بلغنـي أن شريحا قال فصل الـخِطابِ الشاهدان علـى الـمدعي, والـيـمين علـى من أنكر.
22900ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن طاوس, أن شريحا قال لرجل: إن هذا يعيب علـيّ ما أُعْطِيَ داود, الشهود والأيـمان.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الـحكم, عن شريح أنه قال فـي هذه الاَية وَفَصْلَ الـخِطابِ قال: الشهود والأيـمان.
22901ـ حدثنا عمران بن موسى, قال: حدثنا عبد الوارث, قال: حدثنا داود, عن الشعبـيّ, فـي قوله: وآتَـيْناهُ الـحِكْمَةَ وَفَصْلَ الـخِطابِ قال: يـمين أوْ شاهِدٌ.
22902ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَفَصْلَ الـخِطابِ البـينة علـى الطالب, والـيـمين علـى الـمطلوب, هذا فصل الـخطاب.
وقال آخرون: بل هو قولُ: أما بعد. ذكر من قال ذلك:
22903ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا جابر بن نوح, قال: حدثنا إسماعيـل, عن الشعبـيّ فـي قوله: وَفَصْلَ الـخِطابِ قال: قول الرجل: أما بعد.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه آتـى داود صلوات الله علـيه فصل الـخطاب, والفصل: هو القطع, والـخطاب هو الـمخاطبة, ومن قطع مخاطبة الرجل الرجل فـي حال احتكام أحدهما إلـى صاحبه قطع الـمـحتكم إلـيه الـحكم بـين الـمـحتكم إلـيه وخصمه بصواب من الـحكم, ومن قطع مخاطبته أيضا صاحبه إلزام الـمخاطب فـي الـحكم ما يجب علـيه إن كان مدعيا, فإقامة البـينة علـى دعواه وإن كان مدعى علـيه فتكلـيفه الـيـمين إن طلب ذلك خصمه. ومن قطع الـخطاب أيضا الذي هو خطبة عند انقضاء قصة وابتداء فـي أخرى الفصل بـينهما بأما بعد. فإذ كان ذلك كله مـحتـملاً ظاهر الـخبر ولـم تكن فـي هذه الاَية دلالة علـى أيّ ذلك الـمرادُ, ولا ورد به خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابت, فـالصواب أن يعم الـخبر, كما عمه الله, فـيقال: أُوتـي داود فصل الـخطاب فـي القضاء والـمـحاورة والـخطب.

الآية : 21-22
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَاُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوّرُواْ الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَىَ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىَ بَعْضُنَا عَلَىَ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَىَ سَوَآءِ الصّرَاطِ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وهل أتاك يا مـحمد نبأ الـخصم وقـيـل: إنه عُنـي بـالـخصم فـي هذا الـموضع ملكان, وخرج فـي لفظ الواحد, لأنه مصدر مثل الزور والسفر, لا يثنى ولا يجمع ومنه قول لبـيد:
وَخَصْمٍ يَعُدّونَ الذّحُولَ كأنّهُمْقُرُومٌ غَيَارَى كلّ أزْهَرَ مُصْعَب
وقوله: إذْ تَسَوّرُوا الـمِـحْرَابَ يقول: دخـلوا علـيه من غير بـاب الـمـحراب والـمـحراب مقدّم كل مـجلس وبـيت وأشرفه. وقوله: إذْ دَخَـلُوا عَلـى دَاوُدَ فكرّر إذ مرّتـين, وكان بعض أهل العربـية يقول فـي ذلك: قد يكون معناهما كالواحد, كقولك: ضربتك إذ دخـلت علـيّ إذ اجترأت, فـيكون الدخول هو الاجتراء, ويكون أن تـجعل إحداهما علـى مذهب لـما, فكأنه قال: إذ تسوّروا الـمـحراب لـما دخـلوا, قال: وإن شئت جعلت لـما فـي الأوّل, فإذا كان لـما أوّلا أو آخرا, فهي بعد صاحبتها, كما تقول: أعطيته لـما سألنـي, فـالسؤال قبل الإعطاء فـي تقدّمه وتأخره.
وقوله: فَفَزِعَ مِنْهُمْ يقول القائل: وما كان وجه فزعه منهما وهما خصمان, فإنّ فزعه منهما كان لدخولهما علـيه من غير البـاب الذي كان الـمَدْخَـل علـيه, فراعه دخولهما كذلك علـيه. وقـيـل: إن فزعه كان منهما, لأنهما دخلا علـيه لـيلاً فـي غير وقت نظره بـين الناس قالوا: لا تَـخَفْ يقول تعالـى ذكره: قال له الـخصم: لا تـخف يا داود, وذلك لـمّا رأياه قد ارتاع من دخولهما علـيه من غير البـاب. وفـي الكلام مـحذوف استغنـي بدلالة ما ظهر من الكلام منه, وهو مرافع خصمان, وذلك نـحن. وإنـما جاز ترك إظهار ذلك مع حاجة الـخصمين إلـى الـمرافع, لأن قوله خَصْمانِ فعل للـمتكلـم, والعرب تضمر للـمتكلـم والـمكلّـم والـمخاطب ما يرفع أفعالهما, ولا يكادون أن يفعلوا ذلك بغيرهما, فـيقولون للرجل يخاطبونه: أمنطلق يا فلان ويقول الـمتكلـم لصاحبه: أحسن إلـيك وتـجمل, وإنـما يفعلون ذلك كذلك فـي الـمتكلـم والـمكلّـم, لأنهما حاضران يعرف السامع مراد الـمتكلـم إذا حُذف الاسم, وأكثر ما يجِيـيء ذلك فـي الاستفهام, وإن كان جائزا فـي غير الاستفهام, فـيقال: أجالس راكب؟ فمن ذلك قوله خَصْمان ومنه قول الشاعر:
وَقُولا إذَا جاوَزْتُـمَا أرْضَ عامِرٍوَجاوَزْتُـمَا الـحَيّـيْنَ نَهْدا وخَثْعَما
نَزيعانِ مِنْ جَرْمِ بْنِ رَبّـانِ إنهمْأَبَوْا أن يُـميرُوا فـي الهَزَاهِزِ مِـحْجَما
وقول الاَخر:
تَقُولُ ابْنَةُ الكَعْبِـيّ يوْمَ لَقِـيتُهاأمُنْطَلِقٌ فـي الـجَيْشِ أمْ مُتَثاقِلُ
ومنه قولهم: «مُـحْسِنة فهيـلـي». وقول النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «آئِبُونَ تائِبُونَ». وقوله: «جاءَ يَوْمَ القِـيامَةِ مَكْتُوبٌ بـينَ عَيْنَـيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ» كلّ ذلك بضميرٍ رَفَعه. وقوله عزّ وجلّ بَغَى بَعْضُنا علـى بَعْضٍ يقول: تعدّى أحدنا علـى صاحبه بغير حقّ فـاحْكُمْ بَـيْنَنا بـالـحَقّ يقول: فـاقضِ بـيننا بـالعدّل وَلا تُشْطِطْ: يقول: ولا تَـجُر, ولا تُسْرِف فـي حكمك, بـالـميـل منك مع أحدنا علـى صاحبه. وفـيه لغتان: أشَطّ, وشَطّ. ومن الإشطاط قول الأحوص:
ألا يا لَقَوْمٍ قَدْ أشَطّتْ عَوَاذِلـيوَيَزْعُمْنَ أنْ أَوْدَي بحَقّـيَ بـاطِلِـي
ومسموع من بعضهم: شَطَطْتَ علـيّ فـي السّوْم. فأما فـي البعد فإن أكثر كلامهم: شَطّت الدار, فهي تَشِطّ, كما قال الشاعر:
تَشِطّ غَدا دَارُ جِيرَانِناوللدّارُ بَعْدَ غَدٍ أبْعَدُ
وقوله: وَاهْدِنا إلـى سَوَاءِ الصّراطِ يقول: وأرشدنا إلـى قَصْد الطريق الـمستقـيـم. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله: وَلا تُشْطِطْ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22904ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَلا تُشْطِطْ: أي لا تـمل.
22905ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ وَلا تُشْطِطْ يقول: لا تُـحِف.
22906ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلا تُشْطِطْ تـخالف عن الـحقّ.
وكالذي قلنا أيضا فـي قوله: وَاهْدِنا إلـى سَوَاءِ الصّراطِ قالوا: ذكر من قال ذلك:
22907ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَاهْدِنا إلـى سَوَاء الصّراطِ إلـى عدله وخيره.
22908ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ وَاهْدنا إلـى سَوَاءِ الصّراطِ إلـى عدل القضاء.
22909ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَاهْدِنا إلـى سَوَاء الصّراطِ قال: إلـى الـحقّ الذي هو الـحقّ: الطريق الـمستقـيـم وَلا تُشْطِطْ تذهب إلـى غيرها.
22910ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه: وَاهْدِنا إلـى سَوَاء الصّراطِ: أي احملنا علـى الـحقّ, ولا تـخالف بنا إلـى غيره.
الآية : 23
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزّنِي فِي الْخِطَابِ }.
وهذا مثل ضربه الـخصم الـمتسوّرون علـى داود مـحرابه له, وذلك أن داود كانت له فـيـما قـيـل: تسع وتسعون امرأة, وكانت للرجل الذي أغزاه حتـى قُتل امرأة واحدة فلـما قُتل نكح فـيـما ذُكر داود امرأته, فقال له أحدهما: إنّ هَذَا أخي يقول: أخي علـى دينـي, كما:
22911ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن مبنه: إنّ هَذَا أَخي: أي علـى دينـي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ولـي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ.
وذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: «إنّ هَذَا أخي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى» وذلك علـى سبـيـل توكيد العرب الكلـمة, كقولهم: هذا رجل ذكر, ولا يكادون أن يفعلوا ذلك إلا فـي الـمؤنث والـمذكر الذي تذكيره وتأنـيثه فـي نفسه كالـمرأة والرجل والناقة, ولا يكادون أن يقولوا هذه دار أنثى, وملـحفة أنثى, لأن تأنـيثها فـي اسمها لا فـي معناها. وقـيـل: عنى بقوله: أنثى: أنها حسنة. ذكر من قال ذلك:
22912ـ حُدثت عن الـمـحاربـي, عن جُوَيبر, عن الضحاك «إن هَذَا أخي لَهُ تَسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى» يعنـي بتأنـيثها. حسنها.
وقوله: فقالَ أكْفِلْنِـيها يقول: فقال لـي: انزل عنها لـي وضمها إلـيّ, كما:
22913ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: أكْفلْنِـيها قال: أعطنـيها, طلّقها لـي, أنكحها, وخـلّ سبـيـلها.
22914ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه, فقال: أكْفِلْنِـيها أي أحملنـي علـيها.
وقوله: وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ يقول: وصار أعزّ منـي فـي مخاطبته إياي, لأنه إن تكلـم فهو أبـين منـي, وإن بطش كان أشدّ منـي فقهرنـي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22915ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن الأعمش, عن أبـي الضحى, عن مسروق, قال: قال عبد الله فـي قوله: وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ قال: ما زاد داود علـى أن قال: انزل لـي عنها.
حدثنا ابن وكيع, قال: ثنـي أبـي, عن الـمسعودي, عن الـمنهال, عن سعيد بن جُبَـير, عن ابن عبـاس قال: ما زاد علـى أن قال: انزل لـي عنها.
وحدثنـي يحيى بن إبراهيـم الـمسعودي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن جده, عن الأعمش, عن مسلـم, عن مسروق, قال: قال عبد الله: ما زاد داود علـى أن قال: أكْفِلْنِـيها.
22916ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ قال: إن دعوت ودعا كان أكثر, وإن بطشت وبطش كان أشدّ منـي, فذلك قوله: وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ.
22917ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَعَزّنـي فِـي الـخِطابِ أي ظلـمنـي وقهرنـي.
22918ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قلا: قال ابن زيد فـي قوله: وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ قال: قهرنـي, وذلك العزّ قال: والـخطاب: الكلام.
22919ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم عن وهب بن منبه وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ: أي قهرنـي فـي الـخطاب, وكان أقوى منـي, فحاز نعجتـي إلـى نعاجه, وتركنـي لا شيء لـي.
22920ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ قال: إن تكلـم كان أبـين منـي, وإن بطش كان أشدّ منـي, وإن دعا كان أكثر منـي.
الآية : 24
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىَ نِعَاجِهِ وَإِنّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مّا هُمْ وَظَنّ دَاوُودُ أَنّمَا فَتَنّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبّهُ وَخَرّ رَاكِعاً وَأَنَابَ }.
يقول تعالـى ذكره: قال داود للـخصم الـمتظلـم من صاحبه: لقد ظلـمك صاحبك بسؤاله نعجتك إلـى نعاجه وهذا مـما حُذفت منه الهاء فأضيف بسقوط الهاء منه إلـى الـمفعول به, ومثله قوله عزّ وجلّ: لا يَسْأَمُ الإنْسانُ مِنْ دُعاءِ الـخَيْرِ والـمعنى: من دعائه بـالـخير, فلـما أُلْقِـيت الهاء من الدعاء أضيف إلـى الـخير, وألقـي من الـخير البـاء وإنـما كنى بـالنعجة ها هنا عن الـمرأة, والعرب تفعل ذلك ومنه قول الأعشى:
قَدْ كُنْتُ رَائِدَها وَشاةِ مُـحَاذِرٍحَذَرَا يُقِلّ بعَيْنِهِ إغْفَـالَهَا
يعنـي بـالشاة: امرأة رجل يحذر الناس علـيها وإنـما يعنـي: لقد ظلـمت بسؤال امرأتك الواحدة إلـى التسع والتسعين من نسائه.
وقوله: وَإنّ كَثِـيرا مِنَ الـخُـلَطاءِ لَـيَبْغِي بَعْضُهُمْ علـى بَعْضٍ يقول: وإن كثـيرا من الشركاء لـيتعدّى بعضهم علـى بعض إلاّ الّذِينَ آمَنُوا بـالله وَعَمِلُوا الصّالِـحاتِ يقول: وعملوا بطاعة الله, وانتهوا إلـى أمره ونهيه, ولـم يتـجاوزوه وَقَلِـيـلٌ ما هُمْ. وفـي «ما» التـي فـي قوله: وَقَلِـيـلٌ ما هُم وجهان: أحدهما أن تكون صلة بـمعنى: وقلـيـل هم, فـيكون إثبـاتها وإخراجها من الكلام لا يُفسد معنى الكلام: والاَخر أن تكون اسما, و«هم» صلة لها, بـمعنى: وقلـيـل ما تـجدهم, كما يقال: قد كنت أحسبك أعقل مـما أنت, فتكون أنت صلة لـما, والـمعنى: كنت أحسب عقلك أكثر مـما هو, فتكون «ما» والاسم مصدرا, ولو لـم ترد الـمصدر لكان الكلام بـمن, لأن من التـي تكون للناس وأشبـاههم, ومـحكيّ عن العرب: قد كنت أراك أعقل منك مثل ذلك, وقد كنت أرى أنه غير ما هو, بـمعنى: كنت أراه علـى غير ما رأيت. ورُوي عن ابن عبـاس فـي ذلك ما:
22921ـ حدثنـي به علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَقَلِـيـلٌ ما هُمْ يقول: وقلـيـل الذين هم.
22922ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعملُوا الصّالِـحاتِ وَقَلِـيـلٌ ما هُمْ قال: قلـيـل من لا يبغي.
فعلـى هذا التأويـل الذي تأوّله ابن عبـاس معنى الكلام: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالـحات, وقلـيـل الذين هم كذلك, بـمعنى: الذين لا يبغي بعضهم علـى بعض, و«ما» علـى هذا القول بـمعنى: مَنْ.
وقوله: وَظَنّ دَاوُدُ أنّـمَا فَتَنّاهُ يقول: وعلـم داود أنـما ابتلـيناه, كما:
22923ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَظَنّ دَاوُدُ: علـم داود.
22924ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن أبـي رجاء, عن الـحسن وَظَنّ دَاوُدَ أنّـمَا فَتَنّاهُ قال: ظنّ أنـما ابْتُلِـي بذاك.
22925ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس وَظَنّ دَاوُدُ أنّـمَا فَتَنّاهُ قال: ظنّ أنـما ابتُلـي بذاك.
حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس وَظَنّ دَاوُدُ أنّـمَا فَتَنّاهُ اختبرناه.
والعرب توجه الظنّ إذا أدخـلته علـى الإخبـار كثـيرا إلـى العلـم الذي هو من غير وجه العيان.
وقوله: فـاسْتَغْفَرَ رَبّهُ يقول: فسأل داود ربه غفران ذنبه وَخَرّ رَاكِعا يقول: وخرّ ساجدا لله وأنابَ يقول: ورجع إلـى رضا ربه, وتاب من خطيئته.
واختلف فـي سبب البلاء الذي ابتُلـي به نبـيّ الله داود صلى الله عليه وسلم, فقال بعضهم: كان سبب ذلك أنه تذكر ما أعطى الله إبراهيـم وإسحاق ويعقوب من حسن الثناء البـاقـي لهم فـي الناس, فتـمنى مثله, فقـيـل له: إنهم امتُـحنوا فصبروا, فسأل أن يُبْتَلـى كالذي ابتلوا, ويعطى كالذي أعطوا إن هو صبر. ذكر من قال ذلك:
22926ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَهَلْ أتاكَ نَبَأُ الـخَصْمِ إذْ تَسَوّرُوا الـمِـحْرَابَ قال: إن داود قال: يا ربّ قد أعطيت إبراهيـم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لوددت أنك أعطيتنـي مثله, قال الله: إنـي ابتلـيتهم بـما لـم أبتلك به, فإن شئت ابتلـيتك بـمثل ما ابتلـيتهم به, وأعطيتك كما أعطيتهم, قال: نعم, قال له: فـاعمل حتـى أرى بلاءك فكان ما شاء الله أن يكون, وطال ذلك علـيه, فكاد أن ينساه فبـينا هو فـي مـحرابه, إذ وقعت علـيه حمامة من ذهب فأراد أن يأخذها, فطار إلـى كوّة الـمـحراب, فذهب لـيأخذها, فطارت, فـاطّلع من الكوّة, فرأى امرأة تغتسل, فنزل نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم من الـمـحراب, فأرسل إلـيها فجاءته, فسألها عن زوجها وعن شأنها, فأخبرته أن زوجها غائب, فكتب إلـى أمير تلك السّرية أن يؤمّره علـى السرايا لـيهلك زوجها, ففعل, فكان يُصاب أصحابه وينـجو, وربـما نُصروا, وإن الله عزّ وجلّ لـما رأى الذي وقع فـيه داود, أراد أن يستنقذه فبـينـما داود ذات يوم فـي مـحرابه, إذ تسوّر علـيه الـخَصْمان من قِبَل وجهه فلـما رآهما وهو يقرأ فزع وسكت, وقال: لقد استضعفت فـي مُلكي حتـى إن الناس يستوّرون علـيّ مـحرابـي, قالا له: لا تـخَفْ خَصْمان بَغَى بَعْضُنا عَلـى بَعْضٍ ولـم يكن لنا بدّ من أن نأتـيك, فـاسمع منا قال أحدهما: إنّ هَذَا أخي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أنثى ولـي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقالَ أكْفِلْنِـيها يريد أن يتـمـم بها مئة, ويتركنـي لـيس لـي شيء وَعَزّنـي فِـي الـخِطابِ قال: إن دعوت ودعا كان أكثر, وإن بطشت وبطش كان أشدّ منـي, فذلك قوله: وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ قال له داود: أنت كنت أحوج إلـى نعجتك منه لَقَدْ ظَلَـمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلـى نِعاجِهِ... إلـى قوله: وَقَلِـيـلٌ ما هُمْ ونسي نفسه صلى الله عليه وسلم, فنظر الـملكان أحدهما إلـى الاَخر حين قال ذلك, فتبسّم أحدهما إلـى الاَخر, فرآه داود وظنّ أنـما فتن فـاستغفر رَبّه وَخَرّ رَاكِعا وأنابَ أربعين لـيـلة, حتـى نبتت الـخُضرة من دموع عينـيه, ثم شدد الله له ملكه.
22927ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـي قوله: وَهَلْ أتاكَ نَبأُ الـخَصْمِ إذْ تَسَوّرُوا الـمِـحْرابَ قال: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام: يوم يَقْضِي فـيه بـين الناس, ويوم يخـلو فـيه لعبـادة ربه, ويوم يخـلو فـيه لنسائه وكان له تسع وتسعون امرأة, وكان فـيـما يقْرأ من الكتب أنه كان يجد فـيه فضل إبراهيـم وإسحاق ويعقوب فلـما وجد ذلك فـيـما يقرأ من الكتب قال: يا ربّ إن الـخير كله قد ذهب به آبـائي الذين كانوا قبلـي, فأعطنـي مثل ما أعطيتهم, وافعل بـي مثل ما فعلت بهم, قال: فأوحى الله إلـيه: إن آبـاءك ابتلوا ببلايا لـم تبتل بها ابتلـي إبراهيـم بذبح ابنه, وابتُلـي إسحاق بذهاب بصره, وابتُلـي يعقوب بحُزنه علـى يوسف, وإنك لـم تبتل من ذلك بشيء, قال: يا ربّ ابتلنـي بـمثل ما ابتلـيتهم به, وأعطنـي مثل ما أعطيتهم قال: فأُوحِيَ إلـيه: إنك مبتلًـى فـاحترس قال: فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يـمكث, إذ جاءه الشيطان قد تـمثل فـي صورة حمامة من ذهب, حتـى وقع عند رجلـيه وهو قائم يصلـي, فمدّ يده لـيأخذه, فتنـحى فتبعه, فتبـاعد حتـى وقع فـي كوّة, فذهب لـيأخذه, فطار من الكوّة, فنظر أين يقع, فـيبعث فـي أثره. قال: فأبصر امرأة تغتسل علـى سطح لها, فرأى امرأة من أجمل الناس خَـلْقا, فحانت منها التفـاتة فأبصرته, فألقت شعرها فـاستترت به, قال: فزاده ذلك فـيها رغبة, قال: فسأل عنها, فأخبر أن لها زوجا, وأن زوجها غائب بـمسلـحة كذا وكذا قال: فبعث إلـى صاحب الـمسلـحة أن يبعث أهريا إلـى عدوّ كذا وكذا, قال: فبعثه, ففُتـح له. قال: وكتب إلـيه بذلك, قال: فكتب إلـيه أيضا: أن ابعثه إلـى عدوّ كذا وكذا, أشدّ منهم بأسا, قال: فبعثه ففُتـح له أيضا. قال: فكتب إلـى داود بذلك, قالَ: فكتب إلـيه أن ابعثه إلـى عدوّ كذا وكذا, فبعثه فقُتل الـمرّة الثالثة, قال: وتزوّج امرأته.
قال: فلـما دخـلت علـيه, قال: لـم تلبث عنده إلا يسيرا حتـى بعث الله مَلَكين فـي صورة إنسيـين, فطلبـا أن يدخلا علـيه, فوجداه فـي يوم عبـادته, فمنعهما الـحرس أن يدخلا, فتسوّروا علـيه الـمـحراب, قال: فما شعر وهو يصلـي إذ هو بهما بـين يديه جالسين, قال: ففزع منهما, فقالا: لا تَـخَفْ إنـما نـحن خَصْمان بَغَى بَعْضُنا علـى بَعْضٍ فـاحْكُمْ بَـيْنَنا بـالـحَقّ وَلا تُشْطِطْ يقول: لا تـحف وَاهْدِنَا إلـى سَوَاءِ الصّراط: إلـى عدل القضاء. قال: فقال: قصّا علـيّ قصتكما, قال: فقال أحدهما: إنّ هَذَا أخي لَه تَسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلـي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فهو يريد أن يأخذ نعجتـي, فـيكمل بها نعاجه مئة. قال: فقال للاَخر: ما تقول؟ فقال: إن لـي تسعا وتسعين نعجة, ولأخي هذا نعجة واحدة, فأنا أريد أن آخذها منه, فأكمل بها نعاجي مئة, قال: وهو كاره؟ قال: وهو كاره, قال: وهو كاره؟ قال: إذن لا ندعك وذاك, قال: ما أنت علـى ذلك بقادر, قال: فإن ذهبت تروم ذلك أو تريد, ضربنا منك هذا وهذا وهذا, وفسر أسبـاط طرف الأنف, وأصل الأنف والـجبهة قال: يا داود أنت أحقّ أن يُضرب منك هذا وهذا وهذا, حيث لك تسع وتسعون نعجة امرأة, ولـم يكن لأهريا إلا امرأة واحدة, فلـم تزل به تعرّضه للقتل حتـى قتلته, وتزوّجت امرأته. قال: فنظر فلـم ير شيئا, فعرف ما قد وقع فـيه, وما قد ابتُلـي به. قال: فخرّ ساجدا, قال: فبكى. قال: فمكث يبكي ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لـحاجة منها, ثم يقع ساجدا يبكي, ثم يدعو حتـى نبت العشب من دموع عينـيه. قال: فأوحى الله إلـيه بعد أربعين يوما: يا داود ارفع رأسك, فقد غفرت لك, فقال: يا ربّ كيف أعلـم أنك قد غفرت لـي وأنت حكم عدل لا تـحيف فـي القضاء, إذا جاءك أهريا يوم القـيامة آخذا رأسه بـيـمينه أو بشماله تشخب أو داجه دما فـي قبل عشك يقول: يا ربّ سل هذا فـيـم قتلنـي؟ قال: فأوحى إلـيه: إذا كان ذلك دعوت أهريا, فأستوهبك منه, فـيهبك لـي, فأثـيبه بذلك الـجنة, قال: ربّ الاَن علـمت أنك قد غفرت لـي, قال: فما استطاع أن يـملأ عينـيه من السماء حياء من ربه حتـى قُبض صلى الله عليه وسلم.
22928ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, قال: ثنـي عطاء الـخراسانـي, قال: نقش داود خطيئته فـي كفه لكيلا ينساها, قال: فكان إذا رآها خفقت يده واضطربت.
وقال آخرون: بل كان ذلك لعارض كان عرض فـي نفسه من ظنّ أنه يطيق أن يتـم يوما لا يصيب فـيه حوبة, فـابتلـي بـالفتنة التـي ابتلـي بها فـي الـيوم الذي طمع فـي نفسه بإتـمامه بغير إصابة ذنب. ذكر من قال ذلك:
22929ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن مطر, عن الـحسن: إن داود جَزّأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه, ويوما لعبـادته, ويوما لقضاء بنـي إسرائيـل, ويوما لبنـي إسرائيـل يذاكرهم ويذاكرونه, ويبكيهم ويبكونه فلـما كان يوم بنـي إسرائيـل قال: ذكروا فقالوا: هل يأتـي علـى الإنسان يوم لا يصيب فـيه ذنبـا؟ فأضمر داود فـي نفسه أنه سيطيق ذلك فلـما كان يوم عبـادته, أغلق أبوابه, وأمر أن لا يدخـل علـيه أحد, وأكبّ علـى التوراة فبـينـما هو يقرؤها, فإذا حمامة من ذهب فـيها من كلّ لون حسن, قد وقعت بـين يديه, فأهوى إلـيها لـيأخذها, قال: فطارت, فوقعت غير بعيد, من غير أن تؤْيسه من نفسها, قال: فما زال يتبعها حتـى أشرف علـى امرأة تغتسل, فأعجبه خَـلْقها وحُسنها قال: فلـما رأت ظله فـي الأرض, جللت نفسها بشعرها, فزاده ذلك أيضا إعجابـا بها, وكان قد بعث زوجها علـى بعض جيوشه, فكتب إلـيه أن يسير إلـى مكان كذا وكذا, مكان إذا سار إلـيه لـم يرجع, قال: ففعل, فأُصيب فخطبها فتزوّجها. قال: وقال قتادة: بلغنا أنها أمّ سلـيـمان, قال: فبـينـما هو فـي الـمـحراب, إذ تسوّر الـملكان علـيه, وكان الـخصمان إذا أتوه يأتونه من بـاب الـمـحراب, ففزع منهم حين تسوّروا الـمـحراب, فقالوا: لا تَـخَفْ خَصْمانِ بَغَى بَعْضُنا علـى بَعْضٍ... حتـى بلغ وَلا تُشْطِطْ: أي لا تـمل وَاهْدِنا إلـى سَوَاءِ الصّراطِ: أي أعدله وخيره إنّ هَذَا أخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً, وكان لداود تسع وتسعون امرأة وَلِـي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ قال: وإنـما كان للرجل امرأة واحدة فَقالَ أكْفِلْنِـيها وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ أي: ظلـمنـي وقهرنـي, فقال: لَقَدْ ظَلَـمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلـى نِعاجِهِ... إلـى قوله: وَقَلـيـلٌ ما هُمْ وَظَنّ دَاوُدُ فعلـم داود أنـما صُمِد له: أي عنى به ذلك فَخَرّ رَاكِعا وأنابَ قال: وكان فـي حديث مطر, أنه سجد أربعين لـيـلة, حتـى أوحى الله إلـيه: إنـي قد غفرت لك, قال: ربّ وكيف تغفر لـي وأنت حكم عدل, لا تظلـم أحدا؟ قال: إنـي أقضيك له, ثم أستوهبه أو ذنبك, ثم أثـيبه حتـى يرضى, قال: الاَن طابت نفسي, وعلـمت أنك قد غفرت لـي.
22930ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه الـيـمانـيّ, قال: لـما اجتـمعت بنو إسرائيـل, علـى داود, أنزل الله علـيه الزّبور, وعلّـمه صنعة الـحديد, فألانه له, وأمر الـجبـال والطير أن يسبّحن معه إذا سبح, ولـم يعط الله فـيـما يذكرون أحدا من خـلقه مثل صوته كان إذا قرأ الزبور فـيـما يذكرون, تدنو له الوحوش حتـى يأخذ بأعناقها, وإنها لـمصيخة تسمع لصوته, وما صنعت الشياطين الـمزامير والبرابط والصنوج, إلا علـى أصناف صوته, وكان شديد الاجتهاد دائب العبـادة, فأقام فـي بنـي إسرائيـل يحكم فـيهم بأمر الله نبـيا مستـخـلفـا, وكان شديد الاجتهاد من الأنبـياء, كثـير البكاء, ثم عرض من فتنة تلك الـمرأة ما عرض له, وكان له مِـحْراب يتوحد فـيه لتلاوة الزّبور, ولصلاته إذا صلـى, وكان أسفل منه جنـينة لرجل من بنـي إسرائيـل, كان عند ذلك الرجل الـمرأة التـي أصاب داود فـيها ما أصابه.
22931ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه, أن داود حين دخـل مـحرابه ذلك الـيوم, قال: لا يدخـلنّ علـيّ مـحرابـي الـيوم أحد حتـى اللـيـل, ولا يشغلنـي شيء عما خـلوت له حتـى أُمسي ودخـل مـحرابه, ونشر زَبوره يقرؤه وفـي الـمـحراب كوّة تطلعه علـى تلك الـجنـينة, فبـينا هو جالس يقرأ زبوره, إذ أقبلت حمامة من ذهب حتـى وقعت فـي الكوّة, فرفع رأسه فرآها, فأعجبته, ثم ذكر ما كان قال: لا يشغله شيء عما دخـل له, فنكّس رأسه وأقبل علـى زَبوره, فتصوّبت الـحمامة للبلاء والاختبـار من الكوّة, فوقعت بـين يديه, فتناولها بـيده, فـاستأخرتْ غير بعيد, فـاتبعها, فنهضت إلـى الكوة, فتناولها فـي الكوّة, فتصوّبت إلـى الـجنـينة, فأتبعها بصره أين تقع, فإذا الـمرأة جالسة تغتسل بهيئةٍ اللّهُ أعلـم بها فـي الـجمال والـحُسن والـخَـلْق فـيزعمون أنها لـما رأته نقضت رأسها فوارت به جسدها منه, واختطفت قلبه, ورجع إلـى زَبوره ومـجلسه, وهي من شأنه لا يفـارق قلبه ذكرها. وتـمادى به البلاء حتـى أغزى زوجها, ثم أمر صاحب جيشه فـيـما يزعم أهل الكتاب أن يقدّم زوجها للـمهالك حتـى أصابه بعض ما أراد به من الهلاك, ولداود تسع وتسعون امرأة فلـما أصيب زوجها خطبها داود, فنكحها, فبعث الله إلـيه وهو فـي مـحرابه مَلكين يختـمصان إلـيه, مثلاً يضربه له ولصاحبه, فلـم يرع داود إلا بهما واقـفـين علـى رأسه فـي مـحرابه, فقال: ما أدخـلكما علـيّ؟ قالا: لا تـخف لـم ندخـل لبأس ولا لريبة خَصْمان بَغَى بَعْضُنا عَلـى بَعْضٍ فجئناك لتقضي بـيننا فـاحْكُمْ بَـيْنَنا بـالـحَقّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إلـى سَوَاءِ الصّراطِ: أي احملنا علـى الـحقّ, ولا تـخالف بنا إلـى غيره قال الـملك الذي يتكلـم عن أوريا بن جنانـيا زوج الـمرأة: إنّ هذَا أخي أي علـى دينـي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِـيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقالَ أكْفِلْنِـيها أي احملنـي علـيها, ثم عزّنـي فـي الـخطاب: أي قهرنـي فـي الـخطاب, وكان أقوى منـي هو وأعزّ, فحاز نعجتـي إلـى نعاجه وتركنـي لا شيء لـي فغضب داود, فنظر إلـى خصمه الذي لـم يتكلـم, فقال: لئن كان صدقنـي ما يقول, لأضربنّ بـين عينـيك بـالفأس ثم ارعوى داود, فعرف أنه هو الذي يُراد بـما صنع فـي امرأة أوريا, فوقع ساجدا تائبـا منـيبـا بـاكيا, فسجد أربعين صبـاحا صائما لا يأكل فـيها ولا يشرب, حتـى أنبت دمعه الـخضر تـحت وجهه, وحتـى أندب السجود فـي لـحم وجهه, فتاب الله علـيه وقبل منه.
ويزعمون أنه قال: أي ربّ هذا غفرت ما جنـيت فـي شأن الـمرأة, فكيف بدم القتـيـل الـمظلوم؟ قـيـل له: يا داود, فـيـما زعم أهل الكتاب, أما إن ربك لـم يظلـمه بدمه, ولكنه سيسأله إياك فـيعطيه, فـيضعه عنك فلـما فرج عن داود ما كان فـيه, رسم خطيئته فـي كفه الـيـمنى بطن راحته, فما رفع إلـى فـيه طعاما ولا شرابـا قطّ إلا بكى إذا رآها, وما قام خطيبـا فـي الناس قطّ إلا نشر راحته, فـاستقبل بها الناس لـيروا رسم خطيئته فـي يده.
22932ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت لـيثا يذكر عن مـجاهد قال: لـما أصاب داود الـخطيئة خرّ لله ساجدا أربعين يوما حتـى نبت من دموع عينـيه من البقل ما غطّى رأسه ثم نادى: ربّ قرح الـجبـين, وَجَمَدت العين, وداود لـم يرجع إلـيه فـي خطيئته شيء, فنودي: أجائع فتطعم, أم مريض فتشفـى, أم مظلوم فـينتصر لك؟ قال: فنـحب نـحبة هاج كلّ شيء كان نبت, فعند ذلك غفر له. وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها, وكان يؤتـي بـالإناء لـيشرب فلا يشرب إلا ثلثه أو نصفه, وكان يذكر خطيئته, فـينـحِب النّـحْبة تكاد مفـاصله تزول بعضها من بعض, ثم ما يتـمّ شرابه حتـى يـملأه من دموعه وكان يقال: إن دمعة داود, تعدل دمعة الـخلائق, ودمعة آدم تعدل دمعة داود ودمعة الـخلائق, قال: فهو يجيء يوم القـيامة خطيئته مكتوبة بكفه, فـيقول: ربّ ذنبـي ذنبـي قدّمنـي, قال: فـيقدم فلا يأمن فـيقول: ربّ أخّرنـي فـيؤخّر فلا يأمن.
22933ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي ابن لَهِيعة, عن أبـي صخر, عن يزيد الرقاشي, عن أنس بن مالك سمعه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ دَاوُدَ النّبِـيّ صَلـى اللّهُ عَلـيهِ وسلّـمَ حِينَ نَظَرَ إلـى الـمرأَةِ فأَهَمّ, قَطَعَ عَلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ, فأَوْصَى صَاحِبَ البَعْثِ, فَقالَ: إذَا حَضَرَ العَدُوّ, فَقَرّبْ فُلانا بـينَ يَدَي التّابُوتِ, وكانَ التّابُوتُ فِـي ذلكَ الزّمانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ, مَنْ قُدّمَ بـينَ يَدَيِ التّابُوتِ لَـمْ يَرْجِعْ حتـى يُقْتَلَ أوْ يَنْهَزِمَ عَنْهُ الـجَيْشُ, فَقُتِلَ زَوْجُ الـمُرأةِ وَنَزَلَ الـمَلَكانِ علـى دَاوُدَ يَقُصّانِ عَلَـيْهِ قِصّتَهُ, فَفَطِنَ دَاوُدُ فَسَجَدَ, فَمَكَثَ أرْبَعِينَ لَـيْـلَةً ساجِدا حتـى نَبَتَ الزّرْعُ مِنْ دُمُوعِهِ عَلـى رأْسِهِ, وأكَلَت الأرْضُ جَبِـينَهُ وَهُوَ يَقُولُ فِـي سُجُودِهِ» فلـم أُحصِ من الرّقاشيّ إلا هؤلاء الكلـمات: «رَبّ زَلّ دَاوُدُ زَلّةً أبْعَدُ ما بـينَ الـمَشْرِقِ والـمَغْرب, إنْ لَـمْ تَرْحَمْ ضَعفَ دَاوُدَ وَتَغْفِرَ ذَنْبَهُ, جعَلْتَ ذَنْبَهُ حَدِيثا فِـي الـخُـلُوفِ مِنْ بَعْدِهِ, فَجاءَه جَبْرَائِيـلُ صَلـى اللّهُ علـيهِ وسلّـمْ مِنْ بَعْدِ الأرْبَعِينَ لَـيْـلَةً, فَقالَ: يا دَاوُدَ إنّ اللّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ الهَمّ الّذي هَمَـمْتَ بِهِ, فقالَ دَاوُدُ: عَلِـمْتُ أنّ الرّبّ قادِرٌ عَلـى أنْ يَغْفِرَ لِـي الهَمّ الّذِي هَمَـمْتُ بِهِ, وَقَدْ عَرَفْتُ أنّ اللّهَ عَدْلٌ لاَ يـميـلُ فَكَيْفَ بفُلانٍ إذَا جاءَ يَوْمَ القِـيامَةِ فقالَ: يا رَبّ دَمي الّذِي عِنْدَ دَاوُدَ فَقالَ جَبْرِائيـلُ صَلـى اللّهُ علـيهِ وَسَلّـمَ: ما سأَلْتُ رَبّكَ عَنْ ذلكَ, وَلَئِنْ شِئْتَ لأَفْعَلَنّ, فَقالَ: نَعَمْ, فَعَرَجَ جِبْرِيـلُ وَسَجَدَ دَاوُدُ, فَمَكَثَ ما شاءَ اللّهُ, ثُمّ نَزَلَ فَقالَ: قدْ سألْتُ رَبّكَ عَزّ وَجَلّ يا دَاوُدُ عَنِ الّذِي أرْسَلْتَنِـي فِـيهِ, فَقالَ: قُلْ لدَاوُدَ: إنّ اللّهَ يَجْمَعُكُما يَوْمَ القِـيامَةِ فَـيَقُولُ: هَبْ لـي دَمَكَ الّذِي عِنْدَ دَاوُدَ, فَـيَقُولُ: هُوَ لَكَ يا رَبّ, فَـيَقُولُ: فإنّ لَكَ فـي الـجَنّةِ ما شِئْتَ وَما اشْتَهَيْتَ عِوَضا».
22934ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: حدثنا ابن جابر, عن عطاء الـخراسانـيّ: أن كتاب صاحب البعث جاء ينعِي من قُتل ، فلـما قرأ داود نعي وجل منهم رجع, فلـما انتهى إلـى اسم الرجل قال: كتب الله علـى كل نفس الـموت, قال: فلـما انقضت عِدْتها خطبها.
الآية : 25-26
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَـآبٍ * يَدَاوُودُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَىَ فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنّ الّذِينَ يَضِلّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فَغَفَرْنا لَهُ ذلكَ فعفونا عنه, وصفحنا له عن أن نؤاخذه بخطيئته وذنبه ذلك وإنّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفَـى يقول: وإن له عندنا لَلْقُرْبة منا يوم القـيامة. وبنـحو الذي قلنا فـي قوله: فَغَفَرْنا لَهُ ذلكَ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22935ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَغَفَرْنا لَهُ ذَلكَ الذنب.
وقوله: وَحُسْنِ مآبٍ يقول: مَرْجع ومنقَلَب ينقلب إلـيه يوم القـيامة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22936ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَحُسْن مآبٍ: أي حسن مصير.
22937ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: وَحُسْنَ مآبٍ قال: حسن الـمنقَلب.
وقوله: يا دَاوُدُ إنّا جَعَلْناكَ خَـلـيفَةً فِـي الأرْضِ يقول تعالـى ذكره: وقلنا لداود: يا داود إنا استـخـلفناك فـي الأرض من بعد من كان قبلك من رسلنا حكما بـين أهلها, كما:
22938ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ إنّا جَعَلْناكَ خَـلِـيفَةً ملّكه فـي الأرض.
فـاحْكُمْ بـينَ النّاسِ بـالـحَقّ يعنـي: بـالعدل والإنصاف وَلا تَتّبِعِ الهَوَى يقول: ولا تُؤْثِر هواك فـي قضائك بـينهم علـى الـحقّ والعدل فـيه, فتـجور عن الـحقّ فَـيُضِلّكَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ يقول: فـيـميـل بك اتبـاعك هواك فـي قضائك علـى العدل والعمل بـالـحقّ عن طريق الله الذي جعله لأهل الإيـمان فـيه, فتكون من الهالكين بضلالك عن سبـيـل الله.
وقوله: إنّ الّذِينَ يَضِلّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ بِـمَا نَسُوا يَوْمَ الْـحِسابِ يقول تعالـى ذكره: إن الذين يـميـلون عن سبـيـل الله, وذلك الـحقّ الذي شرعه لعبـاده, وأمرهم بـالعمل به, فـيجورون عنه فـي الدنـيا, لهم فـي الاَخرة يوم الـحساب عذاب شديد علـى ضلالهم عن سبـيـل الله بـما نسُوا أمر الله, يقول: بـما تركوا القضاء بـالعدل, والعمل بطاعة الله يَوْمَ الـحِسابِ من صلة العذاب الشديد. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22939ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا العوّام, عن عكرمة, فـي قوله: عَذَابٌ شَدِيدٌ بِـما نَسُوا يَوْمَ الـحِسابِ قال: هذا من التقديـم والتأخير, يقول: لهم يوم الـحساب عذاب شديد بـما نسوا.
22940ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: بِـمَا نَسُوا يَوْمَ الـحِسابِ قال: نسُوا: تركوا