تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 475 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 475

474

أمر الله سبحانه رسوله أن يخبر المشركين بأن الله نهاه عن عبادة غيره وأمره بالتوحيد فقال: 66- "قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله" وهي الأصنام. ثم بين وجه النهي فقال: "لما جاءني البينات من ربي" وهي الأدلة العقلية والنقلية، فإنها توجب التوحيد "وأمرت أن أسلم لرب العالمين" أي أستسلم له بالانقياد والخضوع.
ثم أردف هذا بذكر دليل من الأدلة على التوحيد فقال: "هو الذي خلقكم من تراب" أي خلق أباكم الأول، وهو آدم، وخلقه من تراب يستلزم خلق ذريته منه "ثم من نطفة ثم من علقة" قد تقدم تفسير هذا في غير موضع "ثم يخرجكم طفلاً" أي أطفالاً، وأفرده لكونه اسم جنس، أو على معنى يخرج كل واحد منكم طفلاً "ثم لتبلغوا أشدكم" وهي الحالة التي تجتمع فيها القوة والعقل، وقد سبق بيان الأشد مستوفى في الأنعام، واللام التعليلية في لتبلغوا غاية الكمال، وقوله: "ثم لتكونوا شيوخاً" معطوف على لتبلغوا، قرأ نافع وحفص وأبو عمرو وابن محيصن وهشام "شيوخاً" بضم الشين، وقرأ الباقون بكسرها، وقرئ شيخاً على الإفراد لقوله طفلاً، والشيخ من جاوز الأربعين سنة "ومنكم من يتوفى من قبل" أي من قبل الشيخوخة "ولتبلغوا أجلاً مسمى" أي وقت الموت أو يوم القيامة، واللام هي لام العاقبة "ولعلكم تعقلون" أي لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته البالغة في خلقكم على هذه الأطوار المختلفة.
68- "هو الذي يحيي ويميت" أي يقدر على الإحياء والإماتة "فإذا قضى أمراً" من الأمور التي يريدها "فإنما يقول له كن فيكون" من غير توقف، وهو تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات عند تعلق إرادته بها، وقد تقدم تحقيق معناه في البقرة وفيما بعدها.
ثم عجب سبحانه من أحوال المجادلين في آيات الله فقال: 69- "ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله" وقد سبق بيان معنى المجادلة "أنى يصرفون" أي كيف يصرفون عنها مع قيام الأدلة الدالة على صحتها، وأنها في أنفسها موجبة للتوحيد. قال ابن زيد: هم المشركون بدليل قوله: "الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا" قال القرطبي: وقال أكثر المفسرين نزلت في القدرية. قال ابن سيرين: إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية فلا أدري فيمن نزلت.
ويجاب عن هذا بأن الله سبحانه قد وصف هؤلاء بصفة تدل على غير ما قالوه، فقال: "الذين كذبوا بالكتاب" أي بالقرآن، وهذا وصف لا يصح أن يطلق على فرقة من فرق الإسلام، والموصول إما في محل جر على أنه نعت للموصول الأول، أو بدل منمه، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم، والمراد بالكتاب إما القرآن أو جنس الكتب المنزلة من عند الله، وقوله: "وبما أرسلنا به رسلنا" معطوف على قوله بالكتاب، ويراد به ما يوحى إلى الرسل من غير كتاب إن كانت اللام في الكتاب للجنس أو سائر الكتب إن كان المراد بالكتاب القرآن "فسوف يعلمون" عاقبة أمرهم ووبال كفرهم، وفي هذا وعيد شديد.
والظرف في قوله: "إذ الأغلال في أعناقهم" متعلق بيعلمون: أي فسوف يعلمون وقت كون الأغلال في أعناقهم "والسلاسل" معطوف على الأغلال، والتقدير: إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم، ويجوز أن يرتفع السلاسل على أنه مبتدأ وخبره محذوف لدلالة في أعناقهم عليه، ويجوز أن يكون خبره " يسحبون * في الحميم " بحذف العائد: أي يسحبون بها في الحميم، وهذا على قراءة الجمهور برفع السلاسل، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وأبو الجوزاء بنصبها، وقرأوا يسحبون بفتح الياء مبنياً للفاعل، فتكون السلاسل مفعولاً مقدماً، وقرأ بعضهم بجر السلاسل. قال الفراء: وهذه القراءة محمولة على المعنى، إذ المعنى: أعناقهم في الأغلال والسلاسل. وقال الزجاج: المعنى على هذه القراءة: وفي السلاسل يسحبون، واعترضه ابن الأنباري بأن ذلك لا يجوز في العربية، ومحل يسحبون على تقدير عطف السلاسل على الأغلال، وعلى تقدير كونها مبتدأ وخبرها في أعناقهم النصب على الحال، أو لا محل له، بل هو مستأنف جواب سؤال مقدر.
والحميم هو المتناهي في الحر، وقيل الصديد وقد تقد تفسيره 72- "ثم في النار يسجرون" يقال سجرت التنور: أي أوقدته وسجرته ملأته بالوقود، ومنه "والبحر المسجور" أي المملوء، فالمعنى توقد بهم النار أو تملأ بهم. قال مجاهد ومقاتل: توقد بهم النار فصاروا وقودها.
73- " وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله " هذا توبيخ وتقريع لهم: أي أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم من دون الله.
74- "قالوا ضلوا عنا" أي ذهبوا وفقدانهم فلا نراهم، ثم أضربوا عن ذلك وانتقلوا إلى الإخبار بعدمهم وأنه لا وجود لهم فقالوا "بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً" أي لم نكن نعبد شيئاً، قالوا هذا لما نبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة والجهالة وأنهم كانوا يعبدون ما لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وليس هذا إنكاراً منهم لوجود الأصنام التي كانوا يعبدونها، بل اعتراف منهم بأن عبادتهم إياها كانت باطلة "كذلك يضل الله الكافرين" أي مثل ذلك الضلال يضل الله الكافرين حيث عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار.
والإشارة بقوله: 75- "ذلكم" إلى الإضلال المدلول عليه بالفعل: أي ذلك الإضلال بـ ـسبب "ما كنتم تفرحون في الأرض" أي بما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي الله والسرور بمخالفة رسله وكتبه، وقيل بما كنتم تفرحون به من المال والأتباع والصحة، وقيل بما كنتم تفرحون به من إنكار البعث، وقيل المراد بالفرح هنا البطر والتكبر، وبالمرح الزيادة في البطر. وقال مجاهد وغيره: تمرحون: أي تبطرون وتأشرون. وقال الضحاك: الفرح السرور، والمرح العدوان. وقال مقاتل. المرح: البطر والخيلاء.
76- "ادخلوا أبواب جهنم" حال كونكم "خالدين فيها" أي مقدرين الخلود فيها "فبئس مثوى المتكبرين" عن قبول الحق جهنم.