تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 474 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 474

473

59- "إن الساعة لآتية لا ريب فيها" أي لا شك في مجيئها وحصولها "ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" بذلك ولا يصدقونه لقصور أفهامهم وضعف عقولهم عن إدراك الحجة، والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث.
ثم لما بين سبحانه أن قيام الساعة حق لا شك فيه ولا شبهة، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود، فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه وهو 60- "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" قال أكثر المفسرين المعنى: وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم، وقيل المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضر. قيل الأول أولى لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة. قلت: بل الثاني أولى لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعاً هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو عبادة، بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه ووعدهم بالإجابة ووعده الحق، وما يبدل القول لديه ولا يخلف الميعاد. ثم صرح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي وهو الطلب هو من عبادته فقال: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" أي ذليلين صاغرين وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه واستدفاع الشر به بهذا الوعيد البالغ وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة. فيا عباد الله وجهوا رغباتكم وعولوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه وأرشدكم إلى التعويل عليه وكفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين، قيل وهذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة: أي أستجب لكم إن شئت كقوله سبحانه: "فيكشف ما تدعون إليه إن شاء" الله، قرأ الجمهور "سيدخلون" بفتح الياء وضم الخاء مبنياً للفاعل، وقرأ ابن كثير وابن محيصن وورش وأبو جعفر بضم الياء وفتح الخاء مبنياً للمفعول.
ثم ذكر سبحانه بعض ما أنعم به على عباده فقال: 61- "الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه" من الحركات في طلب الكسب لكونه جعله مظلماً بارداً تناسبه الراحة بالسكون والنوم "والنهار مبصراً" أي مضيئاً لتبصروا فيه حوائجكم وتتصرفوا في طلب معايشكم "إن الله لذو فضل على الناس" يتفضل عليهم بنعمه التي لا تحصى "ولكن أكثر الناس لا يشكرون" النعم ولا يعترفون بها، إما لجحودهم لها وكفرهم بها كما هو شأن الكفار، أو لإغفالهم للنظر وإهمالهم لما يجب من شكر المنعم، وهم الجاهلون.
62- "ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو" بين سبحانه في هذا كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده قرأ الجمهور "خالق" بالرفع على أنه خبر بعد الخبر الأول عن المبتدأ، وقرأ زيد بن علي بنصبه على الاختصاص "فأنى تؤفكون" أي فكيف تنقلبون عن عبادته وتنصرفون عن توحيده.
63- "كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون" أي مثل الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله المنكرون لتوحيده.
ثم ذكر لهم سبحانه نوعاً آخر من نعمه التي أنعم بها عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية فقال: 64- "الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناءً" أي موضع قرار فيها تحيون وفيها تموتون "والسماء بناء": أي سقفاً قائماً ثابتاً. ثم بين بعض نعمه المتعلقة بأنفس العباد فقال: "وصوركم فأحسن صوركم" أي خلقكم في أحسن صورة. قال الزجاج: خلقكم أحسن الحيوان كله. قرأ الجمهور "صوركم" بضم الصاد وقرأ الأعمش وأبو رزين بكسرها. قال الجوهري: والصور بكسر الصاد لغة في الصور بضمها "ورزقكم من الطيبات" أي المستلذات "ذلكم" المبعوث بهذه النعوت الجليلة "الله ربكم فتبارك الله رب العالمين" أي كثرة خيره وبركته.
65- "هو الحي لا إله إلا هو" أي الباقي الذي لا يفنى المنفرد بالألوهية "فادعوه مخلصين له الدين" أي الطاعة والعبادة "الحمد لله رب العالمين" قال الفراء: هو خبر وفيه إضمار أمر: أي احمدوه. وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم. قال السيوطي بسند صحيح عن أبي العالية قال:إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الدجال يكون منا في آخر الزمان، ويكون في أمره فعظموا أمره، وقالوا: نصنع كذا ونصنع كذا، فأنزل الله "إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه" قال: لا يبلغ الذي يقول "فاستعذ بالله" فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الدجال. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في الآية قال: هم اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "إن في صدورهم إلا كبر" قال: عظمة قريش. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة، ثم قرأ "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي" قال: عن دعائي "سيدخلون جهنم داخرين"". قال الترمذي: حسن صحيح. وأخرج ابن مردويه والخطيب عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدعاء هو العبادة "قال ربكم ادعوني أستجب لكم"". وأخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: "ادعوني أستجب لكم" قال: وحدوني أغفر لكم. وأخرج الحاكم وصححه عن جرير بن عبد الله في الآية قال: اعبدوني. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء الاستغفار". وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وأحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع الله يغضب عليه". وأخرج أحمد والحكيم الترمذي وأبو يعلى والطبراني عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم بالدعاء". وأخرج الترمذي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة". وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: أفضل العبادة الدعاء، وقرأ "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" الآية. وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي العبادة أفضل؟ فقال: دعاء المرء لنفسه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلآ الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين، وذلك قوله: "فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين".