تفسير الطبري تفسير الصفحة 475 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 475
476
474
 الآية : 67
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمّ لِتَـبْلُغُوَاْ أَشُدّكُـمْ ثُمّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مّن يُتَوَفّىَ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوَاْ أَجَلاً مّسَمّى وَلَعَلّـكُمْ تَعْقِلُونَ }.
يقول تعالى ذكره آمرا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتنبيه مشركي قومه على حججه عليهم في وحدانيته: قل يا محمد لقومك: أُمرت أن أسلم لربّ العالمين الذي صفته هذه الصفات, وهي أنه خلق أباكم آدم منْ تُرَابٍ, ثُمّ خلقكم مِنْ نُطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ بعد أن كنتم نطفا ثُمّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً من بطون أمهاتكم صغارا, ثُمّ لِتَبْلُغُوا أشُدّكُمْ, فتتكامل قواكم, ويتناهى شبابكم, وتمام خلقكم شيوخا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبْلُ أن يبلغ الشيخوخة وَلِتَبْلُغُوا أجَلاً مُسَمًى يقول: ولتبلغوا ميقاتا مؤقتا لحياتكم, وأجلاً محدودا لا تجاوزونه, ولا تتقدمون قبله وَلَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ يقول: وكي تعقلوا حجج الله عليكم بذلك, وتتدبروا آياته فتعرفوا بها أنه لا إله غيره فعل ذلك.
الآية : 68-69
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِ اللّهِ أَنّىَ يُصْرَفُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: هوَ الّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ يقول قل لهم: ومن صفته جل ثناؤه أنه هو الذي يحيي من يشاء بعد مماته, ويميت من يشاء من الأحياء بعد حياته و إذَا قَضَى أمْرا يقول: وإذا قضى كون أمر من الأمور التي يريد تكوينها فإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ يعني للذي يريد تكوينه كن, فيكون ما أراد تكوينه موجودا بغير معاناة, ولا كلفة مؤنة.
وقوله: ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ أنّى يُصْرَفُونَ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تر يا محمد هؤلاء المشركين من قومك, الذين يخاصمونك في حجج الله وآياته أنّى يُصْرَفُونَ يقول: أيّ وجه يصرفون عن الحق, ويعدلون عن الرشد, كما:
23437ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أنّى يُصْرَفُونَ: أنى يكذبون ويعدلون.
23438ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أنّى يُصْرَفُونَ قال: يُصْرَفُونَ عن الحقّ.
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الاَية, فقال بعضهم: عنى بها أهل القدر. ذكر من قال ذلك:
23439ـ حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى, قالا: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفيان, عن داود بن أبي هند, عن محمد بن سيرين, قال: إن لم تكن هذه الاَية نزلت في القدرية, فإني لا أدري فيمن نزلت: ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ أنى يُصْرَفُونَ إلى قوله: لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئا كذَلكَ يُضِلّ اللّهُ الكافِرِينَ.
حدثني عليّ بن سهل, قال: حدثنا زيد بن أبي الزرقاء, عن سفيان, عن داود بن أبي هند, عن ابن سيرين, قال: إن لم يكن أهل القدر الذين يخوضون في آيات الله فلا علم لنا به.
23440ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني مالك بن أبي الخير الزيادي, عن أبي قبيل, قال: أخبرني عقبة بن عامر الجهني, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سَيَهْلِكُ مِنْ أُمّتِي أهْلُ الكِتابِ, وأهْلُ اللّينِ» فقال عقبة: يا رسول الله, وما أهل الكتاب؟ قال: «قَوْمٌ يَتَعَلّمُونَ كِتابَ اللّهِ يُجادِلُونَ الّذِينَ آمَنُوا», فقال عقبة: يا رسول الله, وما أهل اللّين؟ قال: «قَوْمٌ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ, ويُضَيّعُونَ الصّلَوَاتِ». قال أبو قبيل: لا أحسب المكذّبين بالقدر إلا الذين يجادلون الذين آمنوا, وأما أهل اللّين, فلا أحسبهم إلا أهل العمود ليس عليهم إمام جماعة, ولا يعرفون شهر رمضان.
وقال آخرون: بل عنى به أهل الشرك. ذكر من قال ذلك:
23441ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ أنى يُصْرَفُونَ قال: هؤلاء المشركون.
والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن زيد وقد بين الله حقيقة ذلك بقوله: الّذِينَ كَذّبُوا بالْكِتَابِ وبِمَا أرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا.
الآية : 70-74
القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ كَذّبُواْ بِالْكِـتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأغْلاَلُ فِيَ أَعْنَاقِهِمْ والسّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللّهِ قَـالُواْ ضَـلّواْ عَنّا بَل لّمْ نَكُنْ نّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ الْكَافِرِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذّبوا بكتاب الله, وهو هذا القرآن و«الذين» الثانية في موضع خفض ردا لها على «الذين» الأولى على وجه النعت وبِمَا أرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا يقول: وكذّبوا أيضا مع تكذيبهم بكتاب الله بما أرسلنا به رسلنا من إخلاص العبادة لله, والبراءة مما يعبد دونه من الاَلهة والأنداد, والإقرار بالبعث بعد الممات للثواب والعقاب.
وقوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إذِ الأغْلالِ في أعْناقِهِمْ والسّلاسِلُ, وهذا تهديد من الله المشركين به يقول جلّ ثناؤه: فسوف يعلم هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله, المكذّبون بالكتاب حقيقة ما تخبرهم به يا محمد, وصحة ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب, حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم في جهنم. وقرأت قراء الأمصار: والسلاسلُ, برفعها عطفا بها على الأغلال على المعنى الذي بيّنت. وذُكر عن ابن عباس أنه كان يقرؤه «والسّلاسِلُ يُسْحَبُونَ» بنصب السلاسل في الحميم. وقد حُكي أيضا عنه أنه كان يقول: إنما هو وهم في السلاسل يسحبون, ولا يجيز أهل العلم بالعربية خفض الاسم والخافض مضمر. وكان بعضهم يقول في ذلك: لو أن متوهّما قال: إنما المعنى: إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل يسحبون, جاز الخفض في السلاسل على هذا المذهب, وقال: مثله, مما ردّ إلى المعنى, قول الشاعر:
قَدْ سَالمَ الحَيّاتُ مِنْهُ القَدَماالأُفْعُوَانَ والشّجاعَ الأَرْقَما
فنصب الشّجاع والحيات قبل ذلك مرفوعة, لأن المعنى: قد سالمت رجله الحيات وسالمتها, فلما احتاج إلى نصب القافية, جعل الفعل من القدم واقعا على الحيات.
والصواب من القراءة عندنا في ذلك ما عليه قراء الأمصار, لإجماع الحجة عليه, وهو رفع السلاسل عطفا بها على ما في قوله: فِي أعْناقِهِمْ من ذكر الأغلال.
وقوله: يُسْحَبُونَ يقول: يسحب هؤلاء الذين كذّبوا في الدنيا بالكتاب زبانيةُ العذاب يوم القيامة في الحميم, وهو ما قد انتهى حرّه, وبلغ غايته.
وقوله: ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ يقول: ثم في نار جهنم يحرقون, يقول: تسجر بها جهنم: أي توقد بهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23442ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: يُسْجَرُونَ قال: يوقد بهم النار.
23443ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ قال: يحرقون في النار.
23444ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ قال: يسجرون في النار: يوقد عليهم فيها.
وقوله: ثُمّ قِيلَ لَهُمْ أيْنَما كُنْتُمْ تُشرِكُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ يقول: ثم قيل: أين الذين كنتم تشركون بعبادتكم إياها من دون الله من آلهتكم وأوثانكم حتى يغيثوكم فينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب, فإن المعبود يغيث من عبده وخدمه وإنما يقال هذا لهم توبيخا وتقريعا على ما كان منهم في الدنيا من الكفر بالله وطاعة الشيطان, فأجاب المساكين عند ذلك فقالوا: ضلوا عنا: يقول: عدلوا عنا, فأخذوا غير طريقنا, وتركونا في هذا البلاء, بل ما ضلوا عنا, ولكنا لم نكن ندعو من قبل في الدنيا شيئا: أي لم نكن نعبد شيئا يقول الله تعالى ذكره: كذَلكَ يُضِلّ اللّهُ الكَافِرِينَ يقول: كما أضلّ هؤلاء الذين ضلّ عنهم في جهنم ما كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله من الاَلهة والأوثان آلهتهم وأوثانهم, كذلك يضلّ الله أهل الكفر به عنه, وعن رحمته وعبادته, فلا يرحمهم فينجيهم من النار, ولا يغيثهم فيخفف عنهم ما هم فيه من البلاء.
الآية : 75-76
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ }.
يعني تعالى ذكره بقوله: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرْضِ بغَيرِ الحَقّ هذا الذي فعلنا اليوم بكم أيها القوم من تعذيبنا كم العذاب الذي أنتم فيه, بفرحكم الذي كنتم تفرحونه في الدنيا, بغير ما أذن لكم به من الباطل والمعاصي, وبمرحكم فيها, والمرح: هو الأشر والبطر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23445ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرْضِ بغَيرِ الحَقّ إلى فَبئْسَ مَثْوَى المُتَكَبّرينَ قال: الفرح والمرح: الفخر والخُيَلاء, والعمل في الأرض بالخطيئة, وكان ذلك في الشرك, وهو مثل قوله لقارون: إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ وذلك في الشرك.
23446ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرْضِ بغَيرِ الحَقّ وبما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ قال: تَبْطرون وتأشَرُون.
23447ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: تَمْرَحُونَ قال: تبطرون.
وقوله: ادْخُلُوا أبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيها يقول تعالى ذكره لهم: ادخلوا أبواب جهنم السبعة من كلْ باب منها جزء مقسوم منكم فَبِئْسَ مَثْوَى المُتُكَبّرِينَ يقول: فبئس منزل المتكبرين في الدنيا على الله أن يوحدوه, ويؤمنوا برسله اليوم جهنم.
الآية : 77
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَـإِمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاصبر يا محمد على ما يجادلك به هؤلاء المشركون في آيات الله التي أنزلناها عليك, وعلى تكذيبهم إياك, فإن الله منجز لك فيهم ما وعدك من الظفر عليهم, والعلو عليهم, وإحلال العقاب بهم, كسنتنا في موسى بن عمران ومن كذّبه فإمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ يقول جلّ ثناؤه: فإما نرينك يا محمد في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من العذاب والنقمة أن يحلّ بهم أوْ نَتَوَفّيَنّكَ قبل أن يحلّ ذلك بهم فَإلَيْنا يُرْجَعُونَ يقول: فإلينا مصيرك ومصيرهم, فنحكم عند ذلك بينك وبينهم بالحقّ بتخليدنا هم في النار, وإكرامناك بجوارنا في جنات النعيم