تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 477 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 477

476

وتسمى سورة حم السجدة وهي أربع وخمسون آية، وقيل ثلاث وخمسون. قال القرطبي: وهي مكية في قول الجميع. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال "اجتمع قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا ائت يا أبا الوليد، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله، أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط اشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً وأن في قريش كاهناً، والله ما تنتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجنك عشراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرغت؟ قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته ". حتى بلغ "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود". فقال عتبة: حسبك حسبك ما عندك غير هذا؟ قال: لا، فرجع إلى قريش فقالوا ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، فقالوا: فهل أجابك قال: والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال؟ قال: لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة". وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عمر قال: "لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة " حم * تنزيل من الرحمن الرحيم " أتى أصحابه فقال: يا قوم أطيعوني في هذا اليوم واعصوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاماً ما سمعت أذني قط كلاماً مثله، وما دريت ما أراد عليه". وفي هذا الباب روايات تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة وتلاوته صلى الله عليه وسلم أول هذه السورة عليه. قوله: 1- "حم" قد تقدم الكلام على إعرابه ومعناه في السورة التي قبل هذه السورة فلا نعيده.
وكذلك تقدم الكلام على معنى 2- "تنزيل" وإعرابه. قال الزجاج والأخفش: تنزيل مرفوع بالابتداء وخبره "كتاب فصلت" وقال الفراء: يجوز أن يكون على إضمار هذا ويجوز أن يقال كتاب بدل من قوله تنزيل، و"من الرحمن الرحيم" متعلق بتنزيل.
ومعنى 3- "فصلت آياته" بينت أو جعلت أساليب مختلفة، قال قتادة: فصلت ببيان حلاله من حرامه وطاعته من معصيته. وقال الحسن: بالوعد والوعيد. وقال سفيان: بالثواب والعقاب ولا مانع من الحمل على الكل. والجملة في محل نصب صفة لكتاب. وقرئ فصلت بالتخفيف: أي فرقت بين الحق والباطل، وانتصاب "قرآناً عربيا" على الحال أي فصلت آياته حال كونه قرآناً عربياً. وقال الأخفش: نصب على المدح وقيل على المصدرية: أي يقرأه قرآناً، وقيل مفعول ثان لفصلت، وقيل على إضمار فعل يدل عليه فصلت: أي فصلناه قرآناً عربياً "لقوم يعلمون" أي يعلمون معانيه ويفهمونها: وهم أهل اللسان العربي. قال الضحاك أي يعلمون أي يعلمون معانيه ويفهمونها: وهم أهل اللسان العربي. قال الضحاك أي يعلمون أن القرآن منزل من عند الله. وقال مجاهد: أي يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل، واللام متعلقة بمحذوف صفة أخرى لقرآن: أي كائناً لقوم أو متعلق بفصلت، والأول أولى.
وكذلك 4- "بشيراً ونذيراً" صفتان أخريان لقرآناً أو حالان من كتاب، والمعنى بشيراً لأولياء الله ونذيراً لأعدائه. وقرئ بشير ونذير بالرفع على أنهما صفة لكتاب أو خبر مبتدأ محذوف "فأعرض أكثرهم" المراد بالأكثر هنا الكفار: أي فأعرض الكفار عما اشتمل عليه من النذارة "فهم لا يسمعون" سماعاً ينتفعون به لإعراضهم عنه.
5- "وقالوا قلوبنا في أكنة" أي في أغطية مثل الكنانة التي فيها السهام فهي لا تفقه ما تقول ولا يصل إليها قولك، والأكنة جمع كنان هو الغطاء، قال مجاهد: الكنان للقلب كالجنة للنبل، وقد تقدم بيان هذا في البقرة "وفي آذاننا وقر" أي صمم وأصل الوقر الثقل. وقرأ طلحة بن مصرف وقر بكسر الواو. وقرئ بفتح الواو والقاف، ومن في "ومن بيننا وبينك حجاب" لابتداء الغاية، والمعنى: أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة بين جهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها، وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق ومج وأسماعهم له وامتناع المواصلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم "فاعمل إننا عاملون" أي اعمل على دينك إننا عاملون على ديننا. وقال الكلبي: اعمل في هلاكنا فإنا عاملون في هلاكك. وقال مقاتل: اعمل لإلهك الذي أرسلك فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها، وقيل اعمل لآخرتك فإنا عاملون لدنيانا.
ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عن قولهم هذا فقال: 6- " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " أي إنما أنا كواحد منكم لولا الوحي، ولم أكن من جنس مغاير لكم حتى تكون قلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه وفي آذانكم وقر ومن بيني وبينكم حجاب، ولم أدعكم إلى ما يخالف العقل، وإنما أدعوكم إلى التوحيد قرأ الجمهور "يوحى" مبنياً للمفعول. وقرأ الأعمش والنخعي مبنياً للفاعل: أي يوحي الله إلي. وقيل ومعنى الآية: أني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قسراً فإني بشر مثلكم ولا امتياز لي عنكم إلا أني أوحي إلي التوحيد والأمر به، فعلي البلاغ وحده فإن قبلتم رشدتم وإن أبيتم هلكتم. وقيل المعنى: إني لست بملك وإنما أنا بشر مثلكم وقد أوحي ألي دونكم، فصرت بالوحي نبياً ووجب عليكم اتباعي. وقال الحسن في معنى الآية: إن الله سبحانه علم رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يتواضع "فاستقيموا إليه" عداه بإلى لتضمنه معنى توجهوا، والمعنى: وجهوا استقامتكم إليه بالطاعة ولا تميلوا عن سبيله "واستغفروه" لما فرط منكم من الذنوب. ثم هدد المشركين وتوعدهم فقال: "وويل للمشركين".
ثم وصفهم بقوله: 7- "الذين لا يؤتون الزكاة" أي يمنعونها ولا يخرجونها إلى الفقراء. وقال الحسن وقتادة: لا يقرون بوجوبها. وقال الضحاك ومقاتل: لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة. وقيل معنى الآية، لا يشهدون أن لا إله إلا الله لأنها زكاة الأنفس وتطهيرها. وقال الفراء: كان المشركون ينفقون النفقات ويسقون الحجيج ويطعمونهم فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فنزلت فيهم هذه الآية "وهم بالآخرة هم كافرون" معطوف على لا يؤتون داخل معه في حيز الصلة: أي منكرون للآخرة جاحدون لها والمجيء بضمير الفصل لقصد الحصر.
8- "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون" أي غير مقطوع عنهم، يقال مننت الحبل: إذا قطعته، ومنه قول الأصبغ الأودي: إني لعمرك ما آبى بذي علق على الصديق ولا خيري بممنون وقيل الممنون المنقوص، قاله قطرب، وأنشد قول زهير: فضل الجواد على الخيل البطاقا يعطي بذلك ممنونا ولا مرقا قال الجوهري: المن القطع ويقال النقص، ومنه قوله تعالى: "لهم أجر غير ممنون" وقال لبيد: عنساً كواسب لا يمن طعامها وقال مجاهد غير ممنون: غير محسوب، وقيل معنى الآية، لا يمن عليهم به لأنه إنما يمن بالتفضل، فأما الأجر فحق أداؤه. وقال السدي: نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه.
ثم أمر الله سبحانه رسوله لله أن يوبخهم ويقرعهم فقال: 9- " قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين " أي لتكفرون بمن شأنه هذا الشأن العظيم وقدرته هذه القدرة الباهرة. قيل اليومان هما يوم الأحد ويوم الاثنين، وقيل المراد مقدار يومين لأن اليوم الحقيقي إنما يتحقق بعد وجود الأرض والسماء. قرأ الجمهور " أإنكم " بهمزتين الثانية بين بين، وقرأ ابن كثير بهمزة وبعدها ياء خفيفة "وتجعلون له أنداداً" أي أضداداً وشركاء، والجملة معطوفة على تكفرون داخلة تحت الاستفهام والإشارة بقوله: "ذلك" إلى الموصول المتصف بما ذكر وهو مبتدأ وخبره "رب العالمين" ومن جملة العالمين ما تجعلونها أنداداً لله فكيف تجعلون بعض مخلوقاته شركاء له في عبادته.
10- وقوله: "وجعل فيها رواسي" معطوف على خلق: أي كيف تكفرون بالذي خلق الأرض وجعل فيها رواسي: أي جبالاً ثوابت من فوقها، وقيل جملة وجعل فيها رواسي مستأنفة غير معطوفة على خلق لوقوع الفصل بينهما بالأجنبي. والأول أولى لأن الجملة الفاصلة هي مقررة لمضمون ما قبلها فكانت بمنزلة التأكيد، ومعنى "من فوقها" أنها مرتفعة عليها لأنها من أجزاء الأرض، وإنما خالفتها باعتبار الارتفاع، فكانت من هذه الحيثية كالمغايرة لها "وبارك فيها" أي جعلها مباركة كثيرة الخير بما خلق فيها من المنافع للعباد. قال السدي: أنبت فيها شجرها "وقدر فيها أقواتها" قال قتادة ومجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها، وقال الحسن وعكرمة والضحاك: قدر فيها أرزاق أهلها وما يصلح لمعايشهم من التجارات والأشجار والمنافع، جعل في كل بلد ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد إلى بلد، ومعنى "في أربعة أيام" أي في تتمة أربعة أيام باليومين المتقدمين. قاله الزجاج وغيره. قال ابن الأنباري: ومثاله قول القائل خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً: أي في تتمة خمسة عشر يوماً، فيكون المعنى أن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وما بعدها في أربعة أيام. وانتاب "سواء" وقرأ زيد بن علي وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب وعمرو بن عبيد بخفضه على أنه سفة لأيام. وقرأ أبو جعفر برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف. قال الحسن: المعنى في أربعة أيام مستوية تامة، وقوله: "للسائلين" متعلق بسواء: أي مستويات للسائلين، أو بمحذوف كأنه قيل هذا الحصر للسائلين في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو متعلق بقدر: أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين المحتاجين إليها. قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين في أربعة أيام واختار هذا ابن جرير.
ثم لما ذكر سبحانه خلق الأرض وما فيها ذكر كيفية خلق للسموات فقال: 11- "ثم استوى إلى السماء" أي عمد وقصد نحوها قصداً سوياً. قال الرازي: هو من قولهم: استوى إلى مكان كذا: إذ توجه إليه توجهاً لا يلتفت معه إلى عمل آخر، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونظيره قولهم استقام إليه، ومنه قوله تعالى: "فاستقيموا إليه"، والمعنى: ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السموات بعد خلق الأرض وما فيها. قال الحسن: معنى الآية صعد أمره إلى السماء "وهي دخان" الدخان ما ارتفع من لهب النار، ويستعار لما يرى من بخار الأرض. قال المفسرون: هذا الدخان هو بخار الماء، وخص سبحانه الاستواء إلى السماء مع كون الخطاب المترتب على ذلك متوجهاً إليها وإلى الأرض كما يفيده قوله: "فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً" استغناء بما تقدم من ذكر تقديرها وتقدير ما فيها، ومعنى ائتيا: افعلا ما آمركما به وجيئاً به، كما يقال ائت ما هو الأحسن أي افعله. قال الواحدي: قال المفسرون: إن الله سبحانه قال: أما أنت يا سماء فاطلعي شمسك وقمرك ونجومك وأما أنت يا أرض فتشققي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك. قرأ الجمهور "ائتيا" أمراً من الإتيان. وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد آتيا قالتا آتينا بالمد فيهما، وهو إما من المؤاتاة، وهي الموافقة: أي لتوافق كل منكما الأخرى أو من الإيتاء وهو الإعطاء فوزنه على الأول فاعلاً كقاتلاً، وعلى الثاني افعلا كأكرما "طوعاً أو كرهاً" مصدران في موضع الحال: أي طائعين أو مكرهتين، وقرأ الأعمش كرهاً بالضم. قال الزجاج: أطيعا طاعة أو تكرهان كرهاً. قيل ومعنى هذا الأمر لهما التسخير: أي كونا فكانتا، كما قال تعالى: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" فالكلام من باب التمثيل لتأثير قدرته واستحالة امتناعها "قالتا أتينا طائعين" أي أتينا أمرك منقادين وجمعهما جمع من يعقل لخطابهما بما يخاطب به العقلاء. قال القرطبي: قال أكثر أهل العلم إن الله سبحانه خلق فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد سبحانه وقيل هو تمثيل لظهور الطاعة منهما وتأثير القدرة الربانية فيهما.