تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 478 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 478

477

12- " فقضاهن سبع سماوات " أي خلقهن وأحكمهن وفرغ منهن، كما في قول الشاعر: وعليهما مسرودتان قضاهما داود إذ صبغ السوابغ تبع والضمير في قضاهن إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سبع سموات، أو مبهم مفسر بسبع سموات، وانتصاب سبع سموات على التفسير أو على البدل من الضمير. وقيل إن انتصابه على أنه المفعول الثاني لقضاهن لأنه مضمن معنى صبرهن، وقيل على الحال: أي قضاهن حال كونهن معدودات بسبع ويكون قضى بمعنى صنع، وقيل على التمييز، ومعنى "في يومين" كما سبق في قوله: "خلق الأرض في يومين" فالجملة ستة أيام، كما في قوله سبحانه: "خلق السماوات والأرض في ستة أيام" وقد تقدم بيانه في سورة الأعراف. قال مجاهد: ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدون. قال عبد الله بن سلام: خلق الأرض في يوم الأحد ويوم الاثنين وقد فيها أقواتها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق السماوات في يوم الخميس ويوم الجمعة، وقوله: "وأوحى في كل سماء أمرها" عطف على قضاهن. قال قتادة والسدي: أي خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها وما فيها من الملائكة والبحار والبرد والثلوج. وقيل المعنى: أوحى فيها ما أراده وما أمر به، والإيحاء قد يكون بمعنى الأمر كما في قوله: "بأن ربك أوحى" وقوله: "وإذ أوحيت إلى الحواريين" أي أمرتهم. وقد استشكل الجمع بين هذه الآية وبين قوله: "والأرض بعد ذلك دحاها" فإن ما في هذه الآية من قوله: "ثم استوى إلى السماء" مشعر بأن خلقها متأخر عن خلق الأرض، وظاهره يخالف قوله: "والأرض بعد ذلك دحاها" فقيل إن ثم في "ثم استوى إلى السماء" ليست للتراخي الزماني بل للتراخي الرتبي، فيندفع الإشكال من أصله، وعلى تقدير أنها للتراخي الزماني فالجمع ممكن بأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء، ودحوها بمعنى بسطها هو أمر زائد على مجرد خلقها فهي متقدمة خلقاً متأخرة دحواً وهذا ظاهر، ولعله يأتي عند تفسيرنا لقوله: "والأرض بعد ذلك دحاها" زيادة إيضاح للمقام إن شاء الله "وزينا السماء الدنيا بمصابيح" أي بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح، "و" انتصاب "حفظاً" على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف: أي وحفظناها حفظاً أو على أنه مفعول لأجله على تقدير: وخلقنا المصابيح زينة وحفظاً، والأول أولى. قال أبو حيان: في الوجه الثاني هو تكلف وعدول عن السهل البين، والمراد بالحفظ حفظها من الشياطين الذين يسترقون السمع، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم ذكره "تقدير العزيز العليم" أي البليغ القدرة الكثير العلم.
13- "فإن أعرضوا" عن التدبر والتفكر في هذه المخلوقات "فقل أنذرتكم" أي فقل يا محمد أنذرتكم خوفتكم "صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود" أي عذاباً مثل عذابهم، والمراد بالصاعقة العذاب المهلك من كل شيء. قال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأي شيء كان. قرأ الجمهور صاعقة في الموضعين، وقد تقدم بيان معنى الصاعقة والصعقة في البقرة.
وقوله: 14- " إذ جاءتهم الرسل " ظرف لأنذرتكم، أو لصاعقة، لأنها بمعنى العذاب: أي أنذرتكم العذاب الواقع وقت مجيء الرسل، أو حال من صاعقة عاد. وهذا أولى من الوجهين الأولين، لأن الإنذار لم يقع وقت مجيء الرسل فلا يصح أن يكون ظرفاً له، وكذلك الصاعقة لا يصح أن يكون الوقت ظرفاً لها، وقوله: "من بين أيديهم ومن خلفهم" متعلق بجاءتهم: أي جاءتهم من جميع جوابنهم وقيل المعنى جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم منزلة مجيئهم أنفسهم، فكأن الرسل قد جاءوهم وخاطبوهم بقولهم: "أن لا تعبدوا إلا الله" أي بأن لا تعبدوا على أنها المصدرية، ويجوز أن تكون التفسيرية أو المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف. ثم ذكر سبحانه ما أجابوا به على الرسل فقال: "قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة" أي لأرسلهم إلينا ولم يرسل إلينا بشراً من جنسنا. ثم صرحوا بالكفر ولم يتلعثموا، فقالوا "فإنا بما أرسلتم به كافرون" أي كافرون بما تزعمونه من أن الله أرسلكم إلينا، لأنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا، فكيف اختصكم برسالته دوننا، وقد تقدم دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاءوا بها في غير موضع. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: " وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة " قال: لا يشهدون أن لا إله إلا الله، وفي قوله: "لهم أجر غير ممنون" قال: غير منقوص. وأخرج ابن جرير والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عنه "أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال: خلق الله الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والحجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة أيام، فقال تعالى: " قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين " وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه، فخلق من أول ساعة من هذه الثلاث الآجال حين يموت من مات، وفي الثانية ألقى فيها من كل شيء مما ينتفع به، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة، قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا ثم استراح، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، فنزل " ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب * فاصبر على ما يقولون "". وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وقدر فيها أقواتها" قال: شق الأنهار، وغرس الأشجار، ووضع الجبال، وأجرى البحار، وجعل في هذه ما ليس في هذه وفي هذه ما ليس في هذه. وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً قال: إن الله تعالى خلق يوماً فسماه الأحد، ثم خلق ثانياً فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثاً فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعاً فسماه الأربعاء، ثم خلق خامساً فسماه الخميس وذكر نحو ما تقدم. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أن الله فرغ من خلقه في ستة أيام وذكر نحو ما تقدم". وأخرج ابن جرير عن أبي بكر نحو ما تقدم عن ابن عباس. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً" قال: قال للسماء أخرجي شمسك وقمرك ونجومك، وللأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك "قالتا أتينا طائعين". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "ائتيا" قال أعطيا وفي قوله: "قالتا أتينا" قال: أعطينا.
لما ذكر سبحانه عاداً وثمود إجمالاً ذكر ما يختص بكل طائفة من الطائفتين تفصيلاً، فقال: 15- "فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق" أي تكبروا عن الإيمان بالله وتصديق رسله واستعلوا على من في الأرض بغير الحق: أي بغير استحقاق ذلك الذي وقع منهم من التكبر والتجبر. ثم ذكر سبحانه بعض ما صدر عنهم من الأقوال الدالة على الاستكبار فقال: "وقالوا من أشد منا قوة" وكانوا ذوي أجسام طوال وقوة شديدة، فاغتروا بأجسامهم حين تهددهم هود بالعذاب، ومرادهم بهذا القول أنهم قادرون على دفع ما ينزل بهم من العذاب، فرد الله عليهم بقوله: " أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة " والاستفهام للاستنكار عليهم والتوبيخ لهم: أي أو لم يعلموا بأن الله أشد منهم قدرة، فهو قادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء بقوله كن فيكون "وكانوا بآياتنا يجحدون" أي بمعجزات الرسل التي خصهم الله بها وجعلها دليلاً على نبوتهم، أو بآياتنا التي أنزلناها على رسلنا، أو بآياتنا التكوينية التي نصبناها لهم وجعلناها حجة عليهم، أو بجميع ذلك.
ثم ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه، فقال: 16- "فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً" الصرصر الريح الشديدة الصوت من الصرة، وهي الصيحة. قال أبو عبيدة: معنى صرصر شديدة عاصفة. وقال الفراء: هي الباردة تحرق كما تحرق النار. وقال عكرمة وسعيد بن جبير وقتادة: هي الباردة، وأنشد قطرب قول الحطيئة: المطعمون إذا هبت بصرصرة والحاملون إذا استودوا عن الناس أي إذا سئلوا الدية. وقال مجاهد: هي الشديدة السموم، والأولى تفسيرها بالبرد، لأن الصر في كلام العرب البرد، ومنه قول الشاعر: لها غدر كقرون النسا ء ركبن في يوم ريح وصر قال ابن السكيت: صرصر يجوز أن يكون من الصر وهو البرد، ويجوز أن يكون من صرصر الباب ومن الصرة وهي الصيحة، ومنه فأقبلت امرأته في صرة. ثم بين سبحانه وقت نزول ذلك العذاب عليهم فقال: "في أيام نحسات" أي مشؤومات ذوات نحوس. قال مجاهد وقتادة: كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء، وذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، وقيل نحسات باردات، وقيل متتابعات، وقيل شداد، وقيل ذوات غبار. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو "نحسات" بإسكان الحاء على أنه جمع نحس وقرأ الباقون بكسرها، واختار أبو حاتم القراءة الأولى لقوله: "في يوم نحس مستمر" واختار أبو عبيد القراءة الثانية "لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا" أي لكي نذيقهم، والخزي هو الذل والهوان بسبب ذلك الاستكبار "ولعذاب الآخرة أخزى" أي أشد إهانة وذلاً، ووصف العذاب بذلك، وهو في الحقيقة وصف للمعذبين، لأنهم الذين صاروا متصفين بالخزي "وهم لا ينصرون" أي لا يمنعون من العذاب النازل بهم ولا يدفعه عنهم دافع.
ثم ذكر حال الطائفة الأخرى فقال: 17- "وأما ثمود فهديناهم" أي بينا له سبيل النجاة ودللناهم على طريق الحق بإرسال الرسل إليهم، ونصب الدلالات لهم من مخلوقات الله، فإنها توجب على كل عاقل أن يؤمن بالله ويصدق رسله. قال الفراء: معنى الآية دللناهم على مذهب الخير بإرسال الرسل. قرأ الجمهور "وأما ثمود" بالرفع ومنع الصرف. وقرأ الأعمش وابن وثاب بالرفع والصرف وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وعاصم في رواية بالنصب والصرف وقرأ الحسن وابن هرمز وعاصم في رواية بالنصب والمنع، فأما الرفع فعلى الابتداء والجملة بعده الخبر، وأما النصب فعلى الاشتغال وأما الصرف فعلى تفسير الاسم بالأب أو الحي، وأما المنع فعلى تأويله بالقبيلة "فاستحبوا العمى على الهدى" أي اختاروا الكفر على الإيمان وقال أبو العالية اختاروا العمى على البيان وقال السدي: اختاروا المعصية على الطاعة "فأخذتهم صاعقة العذاب الهون" قد تقدم أن الصاعقة اسم للشيء المهلك لأي شيء كان، والهون الهوان والإهانة فكأنه قال أصابهم مهلك العذاب ذي الهوان أو الإهانة، ويقال عذاب هون: أي مهين كقوله: "ما لبثوا في العذاب المهين" والباء في "بما كانوا يكسبون" للسببية أي بسبب الذي كانوا يكسبونه، أو بسبب كسبهم.
18- "ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون" وهم صالح ومن معه من المؤمنين فإن الله نجاهم من ذلك العذاب.
ثم لما ذكر سبحانه ما عاقبهم به في الدنيا ذكر ما عاقبهم به في الآخرة فقال: 19- "ويوم يحشر أعداء الله إلى النار" وفي وصفهم بكونهم أعداء الله مبالغة في ذمهم، والعامل في الظرف محذوف دل عليه ما بعده تقديره: يساق الناس يوم يحشر، أو باذكر: أي اذكر يوم يحشرهم. قرأ الجمهور يحشر بتحتية مضمومة ورفع أعداء على النيابة، وقرأ نافع نحشر بالنون ونصب أعداء، ومعنى حشرهم إلى النار سوقهم إليها أو إلى موقف الحساب، لأنه يتبين عنده فريق الجنة وفريق النار "فهم يوزعون" أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وجتمعوا، كذا قال قتادة والسدي وغيرهما، وقد سبق تحقيق معناه في سورة النمل مستوفى.
20- " حتى إذا ما جاؤوها " أي جاءوا النار التي حشروا إليها أو موقف الحساب وما مزيدة للتوكيد "شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون" في الدنيا من المعاصي. قال مقاتل: تنطق جوارحهم بما كتمت الألسن من عملهم بالشرك، والمراد بالجلود هي جلودهم المعروفة في قول أكثر المفسرين. وقال السدي وعبيد الله بن أبي جعفر والفراء: أراد بالجلود الفروج، والأول أولى.