تفسير الطبري تفسير الصفحة 477 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 477
478
476
 سورة فصلت مكية
وآياتها أربع وخمسون
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1-4
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
{حـمَ * تَنزِيلٌ مّنَ الرّحْمَـَنِ الرّحِيمِ * كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }.
قال أبو جعفر: قد تقدم القول منا فيما مضى قبلُ في معنى «حم», والقول في هذا الموضع كالقول في ذلك.
وقوله: تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ يقول تعالى ذكره: هذا القرآن تنزيل من عند الرحمن الرحيم نزّله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كِتابٌ فُصّلَتْ آياتُهُ يقول: كتاب بينت آياته كما:
23460ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: فُصّلَتْ آياتُهُ قال: بُيّنت آياتُه.
وقوله: قُرآنا عَرَبِيّا يقول تعالى ذكره: فُصلت آياته هكذا.
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب القرآن, فقال بعض نحوييّ البصرة قوله: كِتابٌ فُصّلت الكتاب خبر لمبتدأ أخبر أن التنزيل كتاب, ثم قال: فُصّلَتْ آياتُهُ قُرآنا عَرَبِيّا شغل الفعل بالاَيات حتى صارت بمنزلة الفاعل, فنصب القرآن, وقال: بَشِيرا ونَذِيرا على أنه صفة, وإن شئت جعلت نصبه على المدح كأنه حين ذكره أقبل في مدحته, فقال: ذكرنا قرآنا عربيا بشيرا ونذيرا, وذكرناه قرآنا عربيا, وكان فيما مضى من ذكره دليل على ما أضمر. وقال بعض نحوييّ الكوفة: نصب قرآنا على الفعل: أي فصلت آياته كذلك. قال: وقد يكون النصب فيه على القطع, لأن الكلام تامّ عند قوله «آياته». قال: ولو كان رفعا على أنه من نعت الكتاب كان صوابا, كما قال في موضع آخر: كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ مُبارَكٌ وقال: وكذلك قوله: بَشِيرا وَنَذِيرا فيه ما في قُرآنا عَربيّا.
وقوله: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يقول: فصلت آيات هذا الكتاب قرآنا عربيا لقوم يعلمون اللسان العربي, بشيرا لهم يبشرهم إن هم آمنوا به, وعملوا بما أنزل فيه من حدود الله وفرائضه بالجنة, ونذيرا يقول ومنذرا من كذّب به ولم يعمل بما فيه بأمر الله في عاجل الدنيا, وخلود الأبد في نار جهنم في آجل الاَخرة.
وقوله: فَأعْرَضَ أكْثَرُهُمْ يقول تعالى ذكره: فاستكبر عن الإصغاء له وتدبر ما فيه من حجج الله, وأعرض عنه أكثر هؤلاء القوم الذين أنزل هذا القرآن بشيرا لهم ونذيرا, وهم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ يقول: فهم لا يصغون له فيسمعوا إعراضا عنه واستكبارا.
الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيَ أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنّنَا عَامِلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون المعرضون عن آيات الله من مشركي قريش إذ دعاهم محمد نبيّ الله إلى الإقرار بتوحيد الله وتصديق ما في هذا القرآن من أمر الله ونهيه, وسائر ما أنزل فيه قُلُوبُنا في أكِنّةٍ يقول: في أغطية مِمّا تَدْعُونا يا محمد إلَيهِ من توحيد الله, وتصديقك فيما جئتنا به, لا نفقه ما تقول وفي آذانِنا وَقْرٌ وهو الثقل, لا نسمع ما تدعونا إليه استثقالاً لما يدعو إليه وكراهة له. وقد مضى البيان قبل عن معاني هذه الأحرف بشواهده, وذكر ما قال أهل التأويل فيه, فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع. وقد:
23461ـ حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: قُلُوبُنا في أكِنّةٍ قال: عليها أغطية كالجَعْبَة للنّبْل.
23462ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أكِنّةٍ قال: عليها أغطية وفِي آذَانِنا وَقْرٌ قال: صمم.
وقوله: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ يقولون: ومن بيننا وبينك يا محمد ساتر لا نجتمع من أجله نحن وأنت, فيرى بعضنا بعضا, وذلك الحجاب هو اختلافهم في الدين, لأن دينهم كان عبادة الأوثان, ودين محمد صلى الله عليه وسلم عبادة الله وحده لا شريك له, فذلك هو الحجاب الذي زعموا أنه بينهم وبين نبيّ الله, وذلك هو خلاف بعضهم بعضا في الدين.
وقوله: فاعْمَلْ إنّنا عامِلُونَ يقول: قالوا: له صلى الله عليه وسلم: فاعمل يا محمد بدينك وما تقول إنه الحقّ, إننا عاملون بديننا, وما تقول إنه الحقّ, ودع دعاءنا إلى ما تدعونا إليه من دينك, فإنا ندع دعاءك إلى ديننا. وأدخلت «من» في قوله وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ والمعنى: وبيننا وبينك حجاب, توكيدا للكلام.
الآية : 6-7
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوَاْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ * الّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ بِالاَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المعرضين عن آيات الله من قومك: أيها القوم, ما أنا إلا بشر من بني آدم مثلكم في الجنس والصورة والهيئة لست بمَلك يُوحَى إليّ يوحي الله إليّ أن لا معبود لكم تصلح عبادته إلا معبود واحد فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ يقول: فاستقيموا إليه بالطاعة, ووجهوا إليه وجوهكم بالرغبة والعبادة دون الاَلهة والأوثان وَاسْتَغْفِرُوهُ يقول: وسلوه العفو لكم عن ذنوبكم التي سلفت منكم بالتوبة من شرككم, يتب عليكم ويغفر لكم.
وقوله: وَوَيْلٌ للْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُوءْتَونَ الزّكاةَ وَهُمْ بالاَخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ يقول تعالى ذكره: وصديد أهل النار, وما يسيل منهم للمدعين لله شريكا العابدين الأوثان دونه الذين لا يؤتون الزكاة.
اختلف أهل التأويل في ذلك, فقال بعضهم: معناه: الذي لا يعطون الله الطاعة التي تطهرهم, وتزَكّي أبدانهم, ولا يوحدونه وذلك قول يُذكر عن ابن عباس. ذكر الرواية بذلك:
23463ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَوَيْلٌ للْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُوءْتُونَ الزّكاةَ قال: هم الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله.
23464ـ حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا حفص, قال: حدثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة, قوله: وَوَيْلٌ للْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُوءْتُونَ الزّكاةَ: الذين لا يقولون لا إله إلا الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين لا يقرّون بزكاة أموالهم التي فرضها الله فيها, ولا يعطونها أهلها. وقد ذكرنا أيضا قائلي ذلك قبلُ. وقد:
23465ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَوَيْلٌ للْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُوءْتُونَ الزّكاةَ قال: لا يقرّون بها ولا يؤمنون بها. وكان يقال: إن الزكاة قنطرة الإسلام, فمن قطعها نجا, ومن تخلف عنها هلك وقد كان أهل الردّة بعد نبيّ الله قالوا: أما الصلاة فنصلّي, وأما الزكاة فوالله لا تغصب أموالنا قال: فقال أبو بكر: والله لا أفرّق بين شيء جمع الله بينه واللّهِ لو منعوني عِقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه.
23466ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَوَيْلٌ للْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُوءْتُونَ الزّكاةَ قال: لو زَكّوا وهم مشركون لم ينفعهم.
والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا: معناه: لا يؤدّون زكاة أموالهم وذلك أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة, وأن في قوله: وَهُمْ بالاَخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ دليلاً على أن ذلك كذلك, لأن الكفار الذين عنوا بهذه الاَية كانوا لا يشهدون أن لا إله إلا الله, فلو كان قوله: الّذِينَ لا يُوءْتُونَ الزّكاةَ مرادا به الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله لم يكن لقوله: وَهُمْ بالاَخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ معنى, لأنه معلوم أن من لا يشهد أن لا إله إلا الله لا يؤمن بالاَخرة, وفي اتباع الله قوله: وَهُمْ بالاَخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ قوله: الّذِينَ لا يُوءْتُونَ الزّكاةَ ما ينبىء عن أن الزكاة في هذا الموضع معنيّ بها زكاة الأموال.
وقوله: وَهُمْ بالاَخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ يقول: وهم بقيام الساعة, وبعث الله خلقه أحياء من قبورهم, من بعد بلائهم وفنائهم منكرون.
الآية : 8-9
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَإِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبّ الْعَالَمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: إن الذين صدّقوا الله ورسوله, وعملوا بما أمرهم الله به ورسوله, وانتهوا عما نهياهم عنه, وذلك هو الصالحات من الأعمال لَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يقول: لمن فعل ذلك أجر غير منقوص عما وعدهم أن يأجرهم عليه.
وقد اختلف في تأويل ذلك أهل التأويل, وقد بيّناه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد:
23467ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ لَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قال بعضهم: غير منقوص. وقال بعضهم: غير ممنون عليهم.
23468ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يقول: غير منقوص.
23469ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, قوله: لَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قال: محسوب.
وقوله: أئِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وذلك يوم الأحد ويوم الاثنين وبذلك جاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالته العلماء, وقد ذكرنا كثيرا من ذلك فيما مضى قبل, ونذكر بعض ما لم نذكره قبل إن شاء الله. ذكر بعض ما لم نذكره فيما مضى من الأخبار بذلك:
23470ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن أبي سعيد البقال, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: هناد: قرأت سائر الحديث على أبي بكر أن اليهود أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض, قال: «خَلَقَ اللّهُ الأرْضَ يَوْمَ الأحَدِ وَالاثْنَيْنِ, وَخَلَقَ الجِبالَ يَوْمَ الثّلاثاءِ ومَا فِيهِنّ مِنْ منَافِعَ, وَخَلَقَ يَوْمَ الأرْبَعاءِ الشّجَرَ والمَاءَ والمَدَائِنَ والعُمْرَانَ والخَرَابَ, فَهَذِهِ أرْبَعَةٌ, ثُمّ قال: أئِنّكُمْ لَتَكْفُرونَ بالّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ, وَتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادا, ذلكَ رَبّ العَالَمِينَ, وَجَعَلَ فِيها رَوَاسي مِنْ فَوْقِها وبَارَكَ فِيها, وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها في أرْبَعَةِ أيّامٍ سَوَاءً للسّائلِيِنَ لِمَنْ سأَلَ. قالَ: وَخَلَقَ يَوْمَ الخَمِيسِ السّماءَ, وخَلَقَ يَوْمَ الجُمُعَةِ النّجُومَ والشّمْسَ والقَمَرَ وَالمَلائِكَةِ إلى ثَلاثَ ساعاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ فَخَلَقَ في أوّلِ ساعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثّلاثَةِ الاَجالَ حِينَ يَمُوتُ مَنْ ماتَ, وفي الثّانِيَةِ ألْقَى الاَفَةَ على كُلّ شَيْءً مِمّا يَنْتَفِعُ بِهِ النّاسُ, وفي الثّالِثَةِ آدَمَ وأسْكَنَهُ الجَنّةَ, وأمَرَ إبْلِيسَ بالسّجُودِ لَهُ, وأخْرَجَهُ مِنْها في آخِرِ ساعَةٍ» قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: «ثُمّ اسْتَوَى على العَرْشِ», قالوا: قد أصبت لو أتممت, قالوا ثم استراح فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا, فنزل: وَلَقَدْ خَلَقْنا السّمَوَاتِ والأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما فِي سِتّةِ أيّامٍ وَما مَسّنا مِنْ لَغُوبٍ فاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ.
23471ـ حدثنا تميم بن المنتصر, قال: أخبرنا إسحاق, عن شريك, عن غالب بن غلاب, عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس, قال: إن الله خلق يوما واحدا فسماه الأحد, ثم خلق ثانيا فسماه الاثنين, ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء, ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء, ثم خلق خامسا فسماه الخميس قال: فخلق الأرض في يومين: الأحد والاثنين, وخلق الجبال يوم الثلاثاء, فذلك قول الناس: هو يوم ثقيل, وخلق مواضع الأنهار والأشجار يوم الأربعاء, وخلق الطير والوحوش والهوامّ والسباع يوم الخميس, وخلق الإنسان يوم الجمعة, ففرغ من خلق كلّ شيء يوم الجمعة.
23472ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ في الأحد والاثنين.
وقد قيل غير ذلك وذلك ما:
23473ـ حدثني القاسم بن بشر بن معروف والحسين بن عليّ قالا: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال أخبرني إسماعيل بن أمية, عن أيوب بن خالد, عن عبد الله بن رافع مولى أمّ سلمة, عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خَلَقَ اللّهُ التّرْبَةَ يَوْمَ السّبْتِ, وَخَلَقَ فِيها الجِبالَ يَوْمَ الأحَدِ, وَخَلَقَ الشّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ, وَخَلَقَ المَكْرُوهُ يَوْمَ الثّلاثاءِ, وَخَلَقَ النّورَ يَوْمَ الأرْبِعاءِ, وَبَثّ فِيها الدّوَابّ يَوْمَ الخَمِيسِ, وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ العَصْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ آخِرِ خَلْق في آخرِ ساعَةٍ مِنْ ساعاتِ الجُمُعَةِ فِيما بَينَ العَصْرِ إلى اللّيْلِ».
وقوله: وَتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادا يقول: وتجعلون لمن خلق ذلك كذلك أندادا, وهم الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معاصي الله, وقد بيّنا معنى الندّ بشواهده فيما مضى قبل.
وقوله: ذَلكَ رَبّ العَالمِينَ يقول: الذي فعل هذا الفعل, وخلق الأرض في يومين, مالك جميع الجن والإنس, وسائر أجناس الخلق, وكلّ ما دونه مملوك له, فكيف يجوز أن يكون له ند؟ هل يكون المملوك العاجز الذي لا يقدر على شيء ندّا لمالكه القادر عليه؟
الآية : 10-11
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيَ أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَوَآءً لّلسّآئِلِينَ * ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وجعل في الأرض التي خلق في يومين جبالاً رواسي, وهي الثوابت في الأرض من فوقها, يعني: من فوق الأرض على ظهرها.
وقوله: وَبارَكَ فِيها يقول: وبارك في الأرض فجعلها دائمة الخير لأهلها. وقد ذكر عن السديّ في ذلك ما:
23474ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: وبَارَكَ فِيها قال: أنبت شجرها.
وَقَدّرَ فِيها أقواتها. اختلف أهل التأويل في ذلك, فقال بعضهم: وقدر فيها أقوات أهلها بمعنى أرزاقهم ومعايشهم. ذكر من قال ذلك:
23475ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الحسن وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال: أرزاقها.
23476ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله: وَقَدّرَ فِيها أقواتها قال: قدّر فيها أرزاق العباد, ذلك الأقوات.
23477ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتها يقول: أقواتها لأهلها.
وقال آخرون: بل معناه: وقدّر فيها ما يصلحها. ذكر من قال ذلك:
23478ـ حدثني عليّ بن سهل, قال: حدثنا الوليد بن مسلم, عن خليد بن دعلج, عن قتادة, قوله: وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال: صلاحها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدّر فيها جبالها وأنهارها وأشجارها. ذكر من قال ذلك:
23479ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها: خلق فيها جبالها وأنهارها وبحارها وشجرها, وساكنها من الدوابّ كلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال: جبالها ودوابها وأنهارها وبحارها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدّر فيها أقواتها من المطر. ذكر من قال ذلك:
23480ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال: من المطر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدّر في كلّ بلدة منها ما لم يجعله في الاَخر منها لمعاش بعضهم من بعض بالتجارة من بلدة إلى بلدة. ذكر من قال ذلك:
23481ـ حدثني الحسين بن محمد الذارع, قال: حدثنا أبو محصن, قال: حدثنا حسين, عن عكرمة, في قوله: وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال: اليماني باليمن, والسابريّ بسابور.
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: حدثنا أبو محصن, عن حصين, قال: قال عكرمة وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها اليمانية باليمن, والسابرية بسابور, وأشباه هذا.
23482ـ حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت حصينا عن عكرمة في قوله: وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال: في كل أرض قوت لا يصلح في غيرها, اليماني باليمن, والسابري بسابور.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله: وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال: البلد يكون فيه القوت أو الشيء لا يكون لغيره, ألا ترى أن السابريّ إنما يكون بسابور, وأن العصب إنما يكون باليمن ونحو ذلك.
23483ـ حدثني إسماعيل بن سيف, قال: حدثنا ابن عبد الواحد بن زياد, عن خَصِيف, عن مجاهد, في قوله: وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال: السابريّ بسابور, والطيالسة من الريّ.
23484ـ حدثني إسماعيل, قال: حدثنا أبو النضر صاحب البصري, قال: حدثنا أبو عوانة, عن مطرّف, عن الضحاك في قوله: وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها قال: السابريّ من سابور, والطيالسة من الريّ والحبر من اليمن.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أخبر أنه قدّر في الأرض أقوات أهلها, وذلك ما يقوتهم من الغذاء, ويصلحهم من المعاش, ولم يخصص جلّ ثناؤه بقوله: وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها أنه قدّر فيها قوتا دون قوت, بل عمّ الخبر عن تقديره فيها جميع الأقوات, ومما يقوت أهلها ما لا يصلحهم غيره من الغذاء, وذلك لا يكون إلا بالمطر والتصرفّ في البلاد لما خصّ به بعضا دون بعض, ومما أخرج من الجبال من الجواهر, ومن البحر من المآكل والحليّ, ولا قول في ذلك أصحّ مما قال جلّ ثناؤه: قدّر في الأرض أقوات أهلها, لما وصفنا من العلة.
وقال جلّ ثناؤه: في أرْبَعَةِ أيّامٍ لما ذكرنا قبل من الخبر الذي روينا عن ابن عباس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فرغ من خلق الأرض وجميع أسبابها ومنافعها من الأشجار والماء والمدائن والعمران والخراب في أربعة أيام, أوّلهنّ يوم الأحد, وآخرهنّ يوم الأربعاء.
23485ـ حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: خلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين, في الثلاثاء والأربعاء.
وقال بعض نحويي البصرة: قال: خلق الأرض في يومين, ثم قال في أربعة أيام, لأنه يعني أن هذا مع الأوّل أربعة أيام, كما تقول: تزوّجت أمس امرأة, واليوم ثنتين, وإحداهما التي تزوّجتها أمس.
وقوله: سَوَاءً للسائِلِينَ اختلف أهل التأويل في تأويله, فقال بعضمهم: تأويله: سواء لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض, وجعل فيها الرواسي من فوقها والبركة, وقدّر فيها الأقوات بأهلها, وجده كما أخبر الله أربعة أيام لا يزدن على ذلك ولا ينقصن منه. ذكر من قال ذلك:
23486ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة سَوَاءً للسّائِلِينَ من سأل عن ذلك وجده, كما قال الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة سَوَاءً للسّائِلِينَ قال: من سأل فهو كما قال الله.
23487ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ سَوَاء للسّائِلِينَ يقول: من سأل فهكذا الأمر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: سواء لمن سأل ربه شيئا مما به الحاجة إليه من الرزق, فإن الله قد قدّر له من الأقوات في الأرض, على قدر مسألة كل سائل منهم لو سأله لما نفذ من علمه فيهم قبل أن يخلقهم. ذكر من قال ذلك:
23488ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله سَوَاءً للسّائِلِينَ قال: قدّر ذلك على قدر مسائلهم, يعلم ذلك أنه لا يكون من مسائلهم شيء إلا شيء قد علمه قبل أن يكون.
واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء الأمصار غير أبي جعفر والحسن البصري: سَوَاءً بالنصب. وقرأه أبو جعفر القارىء: «سَوَاءٌ» بالرفع. وقرأ الحسن: «سَوَاءٍ» بالجر.
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراءة الأمصار, وذلك قراءته بالنصب لإجماع الحجة من القراء عليه, ولصحة معناه. وذلك أن معنى الكلام: قدر فيها أقواتها سواء لسائليها على ما بهم إليه الحاجة, وعلى ما يصلحهم.
وقد ذُكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: «وَقَسّمَ فِيها أقْوَاتَها».
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب سواءً, فقال بعض نحويي البصرة: من نصبه جعله مصدرا, كأنه قال: استواء. قال: وقد قُرىء بالجرّ وجعل اسما للمستويات: أي في أربعة أيام تامّة. وقال بعض نحويي الكوفة: من خفض سواء, جعلها من نعت الأيام, وإن شئت من نعت الأربعة, ومن نصبها جعلها متّصلة بالأقوات. قال: وقد تُرفع كأنه ابتداء, كأنه قال: ذلك سَوَاءً للسّائِلِينَ يقول: لمن أراد علمه.
والصواب من القول في ذلك أن يكون نصبه إذا نصب حالاً من الأقوات, إذ كانت سواء قد شبهت بالأسماء النكرة, فقيل: مررت بقوم سواء, فصارت تتبع النكرات, وإذا تبعت النكرات انقطعت من المعارف فنصبت, فقيل: مررت بإخوتك سواء, وقد يجوز أن يكون إذا لم يدخلها تثنية ولا جمع أن تشبه بالمصادر. وأما إذا رُفعت, فإنما تُرفع ابتداء بضمير ذلك ونحوه, وإذا جُرّت فعلى الإتباع للأيام أو للأربعة.
وقوله: ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَهَا وَللأَرْض ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ يعني تعالى ذكره: ثم استوى إلى السماء, ثم ارتفع إلى السماء. وقد بيّنا أقوال أهل العلم في ذلك فيما مضى قبل.
وقوله: فَقالَ لها وَللأَرْض ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها يقول جلّ ثناؤه: فقال الله للسماء والأرض: جيئا بما خلقت فيكما, أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم, وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات, وتشقّقِي عن الأنهار قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ جئنا بما أحدثت فينا من خلقك, مستجيبين لأمرك لا نعصي أمرك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23489ـ حدثنا أبو هشام, قال: حدثنا ابن يمان, قال: حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن سليمان بن موسى, عن مجاهد, عن ابن عباس, فَقالَ لها وَللأَرْض ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ قال: قال الله للسموات: أطلعي شمسي وقمري, وأطلعي نجومي, وقال للأرض: شققي أنهارك واخرجي ثمارك, فقالتا: أعطينا طائعين.
23490ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, عن ابن جُرَيج, عن سليمان الأحول, عن طاوس, عن ابن عباس, في قوله ائْتِنا: أعطيا. وفي قوله: قَالَتا أئتَيْا قالتا: أعطينا.
وقيل: أتينا طائعين, ولم يُقل طائعتين, والسماء والأرض مؤنثتان, لأن النون والألف اللتين هما كناية أسمائهما في قوله أتَيْنا نظيره كناية أسماء المخبرين من الرجال عن أنفسهم, فأجرى قوله طائِعِينَ على ما جرى به الخبر عن الرجال كذلك. وقد كان بعض أهل العربية يقول: ذهب به إلى السموات والأرض ومن فيهنّ.
وقال آخرون منهم: قيل ذلك كذلك لأنهما لما تكلمتا أشبهتا الذكور من بني آدم