تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 480 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 480

479

ثم لما ذكر عقاب الكافرين وما أعده لهم ذكر حال المؤمنين وما أنعم عليهم به فقال 30- "إن الذين قالوا ربنا الله" أي وحده لا شريك له "ثم استقاموا" على التوحيد ولم يلتفتوا إلى إله غير الله. قال جماعة من الصحابة والتابعين: معنى الاستقامة إخلاص العمل لله. وقال قتادة وابن زيد: ثم استقاموا على طاعة الله. وقال الحسن: استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته. وقال مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا. وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا؟ وقال الربيع: أعرضوا عما سوى الله. وقال الفضيل بن عياض: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية "تتنزل عليهم الملائكة" من عند الله سبحانه بالبشرى التي يريدونها من جلب نفع أو دفع ضرر أو رفع حزن. قال ابن زيد ومجاهد: تتنزل عليهم عند الموت. وقال مقاتل وقتادة: إذا قاموا من قبورهم للبعث. وقال وكيع: البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث "أ" ن "لا تخافوا ولا تحزنوا" أن هي المخففة أو المفسرة أو الناصبة، ولا على الوجهين الأولين ناهية، وعلى الثالث نافية، والمعنى: لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمور الآخرة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من أهل وولد ومال. قال مجاهد: لا تخافوا الموت ولا تحزنوا على أولادكم، فإن الله خليفتكم عليهم. وقال عطاء: لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم. والظاهر عدم تخصيص تنزل الملائكة عليهم بوقت معين، وعدم تقييد نفي الخوف والحزن بحالة مخصوصة كما يشعر به حذف المتعلق في الجميع "وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون" بها في الدنيا فإنكم واصلون إليها مستقرون بها خالدون في نعيمها.
ثم بشرهم سبحانه بما هو أعظم من ذلك كله، فقال: 31- "نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة" أي نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة، ومن كان الله وليه فاز بكل مطلب ونجا من كل مخافة. وقيل إن هذا من قول الملائكة. قال مجاهد: يقولون لهم نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قالوا: لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. وقال السدي: نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة. وقيل إنهم يشفعون لهم في الآخرة ويتلقونهم بالكرامة "ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم" من صنوف اللذات وأنواع النعم "ولكم فيها ما تدعون" أي ما تتمنون، افتعال من الدعاء بمعنى الطلب، وقد تقدم بيان معنى هذا في قوله "ولهم ما يدعون" مستوفى، والفرق بين الجملتين أن الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبونه أعم من أن يكون مما تشتهيه أنفسهم أولاً. وقال الرازي: الأقرب عندي أن قوله: "ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم" إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله "دعواهم فيها سبحانك اللهم" الآية.
وانتصاب 32- "نزلاً من غفور رحيم" على الحال من الموصول، أو من عائده، أو من فاعل تدعون، أو هو مصدر مؤكد لفعل محذوف: أي أنزلناه نزلاً، النزل: ما يعد لهم حال نزولهم من الرزق والضيافة، وقد تقدم تحقيقه في سورة آل عمران.
33- "ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله" أي إلى توحيد الله وطاعته. قال الحسن: هو المؤمن أجاب الله دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من طاعته "وعمل صالحاً" في إجابته "وقال إنني من المسلمين" لربي. وقال ابن سيرين والسدي وابن زيد: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروري هذا أيضاً عن الحسن. وقال عكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد: نزلت في المؤذنين. ويجاب عن هذا بأن الآية مكية، والأذان إنما شرع بالمدينة. والأولى حمل الآية على العموم كما يقتضيه اللفظ ويدخل فيها من كان سبباً لنزولها دخولاً أولياً، فكل من جمع بين دعاء العباد إلى ما شرعه الله وعمل عملاً صالحاً، وهو تأدية ما فرضه الله عليه مع اجتناب ما حرمه عليه، وكان من المسلمين ديناً لا من غيرهم فلا شيء أحسن منه ولا أوضح من طريقته ولا أكثر ثواباً من عمله.
ثم بين سبحانه الفرق بين محاسن الأعمال ومساويها فقال: 34- "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة" أي لا تستوي الحسنة التي يرضى الله بها ويثيب عليها، ولا السيئة التي يكرهها الله ويعاقب عليها، ولا وجه لتخصيص الحسنة بنوع من أنواع الطاعات، وتخصيص السيئة بنوع من أنواع المعاصي، فإن اللفظ أوسع من ذلك. وقيل الحسنة التوحيد والسيئة الشرك. وقيل الحسنة المدارة، والسيئة الغلطة. وقيل الحسنة العفو، والسيئة الانتصار. وقيل الحسنة العلم، والسيئة الفحش. قال الفراء لا في قوله ولا السيئة زائدة "ادفع بالتي هي أحسن" أي ادفع السيئة إذا جاءتك من المسيء بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات، ومنه مقابلة الإساءة بالإحسان والذنب بالعفو، والغضب بالصبر، والإغضاء عن الهفوات، والاحتمال للمكروهات. وقال مجاهد وعطاء: "بالتي هي أحسن": يعني بالسلام إذا لقي من يعاديه، وقيل بالمصافحة عند التلاقي "فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" هذه هي الفائدة الحاصلة من الدفع بالتي هي أحسن، والمعنى: أنك إذا فعلت ذلك الدفع صار العدو كالصديق، والبعيد عنك كالقريب منك. وقال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب كان معادياً للنبي صلى الله عليه وسلم فصار له ولياً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبينه، ثم أسلم فصار ولياً في الإسلام حميماً بالمصاهرة، وقيل غير ذلك، والأولى حمل الآية على العموم.
35- "وما يلقاها إلا الذين صبروا" قال الزجاج: ما يلقى هذه الفعلة وهذه الحالة، وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ واحتمال المكروه "وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم" في الثواب والخير. وقال قتادة: الحظ العظيم في الجنة: أي ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة، وقيل الضمير في يلقاها عائد إلى الجنة، وقيل راجع إلى كلمة التوحيد. قرأ الجمهور يلقاها من التلقية، وقرأ طلحة بن مصرف وابن كثير في رواية عنه يلاقاها من الملاقاة.
ثم أمره سبحانه بالاستعاذة من الشيطان فقال: 36- "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله" النزغ شبيه النخس شبه به الوسوسة لأنها تبعث على الشر، والمعنى: وإن صرفك الشيطان عن شيء مما شرعه الله لك، أو عن الدفع بالتي هي أحسن فاستعذ بالله من شره، وجعل النزغ نازغاً على المجاز العقلي كقولهم: جد جده، وجملة "إنه هو السميع العليم" تعليل لما قبلها: أي السميع لكل ما يسمع، والعليم بكل ما يعلم، ومن كان كذلك فهو يعيذ من استعاذ به. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته، فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون: "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون" وكان إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحب أن يسمع القرآن، فأنزل الله: "لا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها". وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وابن عساكر عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن قوله: " ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس " قال: هو ابن آدم الذي قتل أخاه وإبليس. وأخرج الترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن عدي وابن مردويه عن أنس قال: "قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا" قال: قد قالها ناس من الناس ثم كفر أكثرهم، فمن قالها حين يموت فهو ممن استقام عليها". وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور ومسدد وابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عمران عن أبي بكر الصديق في قوله: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا" قال: الاستقامة أن لا يشركوا بالله شيئاً. وأخرج ابن راهويه وأبو نعيم في الحلية من طريق الأسود بن هلال عن أبي بكر الصديق أنه قال: ما تقولون في هاتين الآيتين "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا"، و"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" قالوا: الذين قالوا ربنا الله ثم عملوا لها واستقاموا على أمره فلم يذنبوا، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم لم يذنبوا. قال: لقد حملتوهما على أمر شديد "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" يقول بشرك، والذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وأخرج ابن مردويه عن بعض الصحابة: ثم استقاموا على فرائض الله. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس "ثم استقاموا" قال: على شهادة أن لا إله إلا الله. وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وأحمد في الزهد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن المنذر عن عمر بن الخطاب " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " قال: استقاموا بطاعة الله ولم يروغوا روغان الثعلب. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي والبخاري في تاريخه ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان عن سفيان الثقفي "أن رجلاً قال: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم، قلت: فما أتقي؟ فأوى إلى لسانه" قال الترمذي: حسن صحيح. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عائشة في قوله: "ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله" قالت: المؤذن "وعمل صالحاً" قالت: ركعتان فيما بين الأذان والإقامة. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن مردويه من وجه آخر عنها قالت: ما أرى هذه الآية نزلت إلا في المؤذنين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن" قال: أمر المسلمين بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم "كأنه ولي حميم". وأخرج ابن مردويه عنه "ادفع بالتي هي أحسن" قال: القه بالسلام فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله: "وما يلقاها إلا الذين صبروا" قال: الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سليمان بن صرد قال: "استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد غضب أحدهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال الرجل: أمجنون تراني؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم "".
شرع سبحانه في بيان بعض آياته البديعة الدالة على كمال قدرته وقوة تصرفه للاستدلال بها على توحيده فقال: 37- "ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر" ثم لما بين أن ذلك من آياته نهاهم عن عبادة الشمس والقمر، وأمرهم بأن يسجدوا لله عز وجل فقال " لا تسجدوا للشمس ولا للقمر " لأنهما مخلوقان من مخلوقاته، فلا يصح أن يكونا شريكين له في ربوبيته "واسجدوا لله الذي خلقهن" أي خلق هذه الأربعة المذكورة، لأن جمع ما لا يعقل حكمه حكم جمع الإناث، أو الآيات، أو الشمس والقمر، لأن الاثنين جمع عند جماعة من الأئمة "إن كنتم إياه تعبدون" قيل كان ناس يسجدون للشمس والقمر كاصابئين في عبادتهم الكواكب، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله فنهوا عن ذلك، فهذا وجه تخصيص ذكر السجود بلا خلاف، وإنما اختلفوا في مواضع السجدة، فقيل موضعه عند قوله: "إن كنتم إياه تعبدون" لأنه متصل بالأمر، وقيل عند قوله: "وهم لا يسأمون" لأنه تمام الكلام.
38- "فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون" أي إن استكبر هؤلاء عن الامتثال فالملائكة يديمون التسبيح لله سبحانه بالليل والنهار وهم لا يملون ولا يفترون.