تفسير الطبري تفسير الصفحة 480 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 480
481
479
 الآية : 30
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }.
يقول تعالى ذكره: إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ وحده لا شريك له, وبرئوا من الاَلهة والأنداد, ثُمّ اسْتَقامُوا على توحيد الله, ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به, وانتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله أهل التأويل على اختلاف منهم, في معنى قوله: ثُمّ اسْتَقامُوا. ذكر الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
23542ـ حدثنا عمرو بن عليّ, قال: حدثنا سالم بن قتيبة أبو قتيبة, قال: حدثنا سهيل بن أبي حزم القطعي, عن ثابت البنانيّ, عن أنس بن مالك, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا قال: «قد قالها الناس, ثم كفر أكثرهم, فمن مات عليها فهو ممن استقام».
وقال بعضهم: معناه: ولم يشركوا به شيئا, ولكن تموا على التوحيد. ذكر من قال ذلك:
23543ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن عامر بن سعد, عن سعيد بن عمران, قال: قد قرأت عند أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه هذه الاَية: إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئا.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان بإسناده, عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه, مثله.
23544ـ قال حدثنا جرير بن عبد الحميد, وعبد الله بن إدريس, عن الشيباني, عن أبي بكر بن أبي موسى, عن الأسود بن هلال, عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لأصحابه إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا قال: قالوا: ربنا الله ثم عملوا بها, قال: لقد حملتموها على غير المحمل إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا الذين لم يعدلوها بشرك ولا غيره.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا: حدثنا ابن إدريس, قال: أخبرنا الشيباني, عن أبي بكر بن أبي موسى, عن الأسود بن هلال المحاربي, قال: قال: أبو بكر: ما تقولون في هذه الاَية: إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا قال: فقالوا: ربنا الله ثم استقاموا من ذنب, قال. فقال أبو بكر: لقد حملتم على غير المحمل, قالوا: ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفوا إلى إله غيره.
23545ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن ليث, عن مجاهد إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا قال: أي على: لا إله إلا الله.
23546ـ قال: ثنا حكام عن عمرو, عن منصور, عن مجاهد إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا قال: أسلموا ثم لم يشركوا به حتى لحقوا به.
قال: ثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد, قوله إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا قال هم الذين قالوا ربنا الله لم يشركوا به حتى لقوه.
23547ـ قال: ثنا حكام, قال: حدثنا عمرو, عن منصور, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال مثل ذلك.
23548ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا قال: تموا على ذلك.
23549ـ حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا حفص بن عمر, قال: حدثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة قوله: إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا قال: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: ثم استقاموا على طاعته. ذكر من قال ذلك:
23550ـ حدثنا أحمد بن منيع, قال: حدثنا عبد الله بن المبارك, قال: حدثنا يونس بن يزيد عن الزهري, قال: تلا عمر رضي الله عنه على المنبر: إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا قال: استقاموا والله بطاعته, ولم يروغوا روغان الثعلب.
23551ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا قال استقاموا على طاعة الله. وكان الحسن إذا تلاها قال: اللهمّ فأنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
23552ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا يقول: على أداء فرائضه.
23553ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: إنّ الّذِينَ قالُوا رَبّنا اللّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا قال: على عبادة الله وعلى طاعته.
وقوله: تَتَنزّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ يقول: تتهبط عليهم الملائكة عند نزول الموت بهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23554ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزّة, عن مجاهد, في قوله: تَتَنزّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أنْ لاَ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا قال: عند الموت.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
23555ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ تَتَنزّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ قال: عند الموت.
وقوله: أنْ لاَ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا يقول: تتنزل عليهم الملائكة بأن لا تخافوا ولا تحزنوا فإن في موضع نصب إذا كان ذلك معناه.
وقد ذُكر عن عبد الله أنه كان يقرأ ذلك «تَتَنزّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أنْ لاَ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا» بمعنى: تتنزّل عليهم قائلة: لا تخافوا, ولا تحزنوا. وعنى بقوله: لا تَخافُوا ما تقدمون عليه من بعد مماتكم وَلا تَحْزَنُوا على ما تخلفونه وراءكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23556ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ أنْ لاَ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا قال لا تخافوا ما أمامكم, ولا تحزنوا على ما بعدكم.
23557ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا يحيى بن حسان, عن مسلم بن خالد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: تَتَنزّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أنْ لاَ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا قال: لا تخافوا ما تقدمون عليه من أمر الاَخرة, ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم من أهل وولد, فإنا نخلفكم في ذلك كله.
وقيل: إن ذلك في الاَخرة. ذكر من قال ذلك:
23558ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: تَتَنزّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أنْ لاَ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وأبْشِرُوا بالجَنّةِ فذلك في الاَخرة.
وقوله: وأبْشِرُوا بالجَنّةِ التي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ يقول: وسرّوا بأن لكم في الاَخرة الجنة التي كنتم توعدونها في الدنيا على إيمانكم بالله, واستقامتكم على طاعته, كما:
23559ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وأبْشِرُوا بالجَنّةِ التي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ في الدنيا.

الآية : 31-32
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيَ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ * نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رّحِيمٍ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل ملائكته التي تتنزل على هؤلاء المؤمنين الذين استقاموا على طاعته عند موتهم: نَحْنُ أوْلَياوكُمْ أيها القوم فِي الحَياةِ الدّنْيا كنا نتولاكم فيها وذكر أنهم الحفظة الذين كانوا يكتبون أعمالهم. ذكر من قال ذلك:
23560ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ نَحْنُ أوْلِياوكُمْ فِي الحَياةِ الدّنْيا نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا, ونحن أولياؤكم في الاَخرة.
وقوله: وفِي الاَخِرَةِ يقول: وفي الاَخرة أيضا نحن أولياؤكم, كما كنا لكم في الدنيا أولياء. وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أنْفُسُكُمْ يقول: ولكم في الاَخرة عند الله ما تشتهي أنفسكم من اللذّات والشهوات. وقوله: وَلَكُمْ فِيها ما تدّعُونَ يقول: ولكم في الاَخرة ما تدّعون. وقوله: نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ يقول: أعطاكم ذلك ربكم نزلاً لكم من ربّ غفور لذنوبكم, رحيم بكم أن يعاقبكم بعد توبتكم ونصب نُزُلاً على المصدر من معنى قوله: وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أنْفُسُكُمْ ولَكُمْ فِيها ما تَدّعُونَ لأن في ذلك تأويل أنزلكم ربكم بما يشتهون من النعيم نُزُلاً.
الآية : 33-34
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: ومن أحسن أيها الناس قولاً ممن قال ربنا الله ثم استقام على الإيمان به, والانتهاء إلى أمره ونهيه, ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23561ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, قال: تلا الحسن: وَمَنْ أَحْسَن قَوْلاً مِمّنْ دَعا إلى اللّهِ وَعمِلَ صَالِحا وَقالَ إنّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ قال: هذا حبيب الله, هذا وليّ الله, هذا صفوة الله, هذا خيرة الله, هذا أحبّ الخلق إلى الله, أجاب الله في دعوته, ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته, وعمل صالحا في إجابته, وقال: إنني من المسلمين, فهذا خليفة الله.
23562ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَمَنْ أَحْسَن قَوْلاً مِمّنْ دَعا إلى اللّهِ... الاَية, قال: هذا عبد صدّق قولَه عملهُ, ومولجُه مخرجُه, وسرّه علانيته, وشاهده مغيبه, وإن المنافق عبد خالف قولَه عملُه, ومولجَه مخرجُه, وسرّه علانيته, وشاهده مغيبه.
واختلف أهل العلم في الذي أريد بهذه الصفة من الناس, فقال بعضهم: عُنِي بها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
23563ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمّنْ دَعا إلى اللّهِ قال: محمد صلى الله عليه وسلم حين دعا إلى الإسلام.
23564ـ حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَمَنْ أَحْسَن قَوْلاً مِمّنْ دَعا إلى اللّهِ وَعمِلَ صَالِحا وَقالَ إنّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: عُنى به المؤذّن. ذكر من قال ذلك:
23565ـ حدثني داود بن سليمان بن يزيد المكتب البصري, قال: حدثنا عمرو بن جرير البجلي, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن قيس بن أبي حازم, في قول الله: وَمَنْ أَحْسَن قَوْلاً مِمّنْ دَعا إلى اللّهِ قال: المؤذّن وَعمِلَ صَالِحا قال: الصلاة ما بين الأذان إلى الإقامة.
وقوله: وَقالَ إنّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ يقول: وقال: إنني ممن خضع لله بالطاعة, وذلّ له بالعبودة, وخشع له بالإيمان بوحدانيته.
وقوله: وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةَ وَلا السّيّئَةُ يقول تعالى ذكره: ولا تستوي حسنة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا, فأحسنوا في قولهم, وإجابتهم ربهم إلى ما دعاهم إليه من طاعته, ودعوا عباد الله إلى مثل الذي أجابوا ربهم إليه, وسيئة الذين قالوا: لا تَسْمَعُوا لَهَذا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ فكذلك لا تستوي عند الله أحوالهم ومنازلهم, ولكنها تختلف كما وصف جلّ ثناؤه أنه خالف بينهما, وقال جلّ ثناؤه: وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةَ وَلا السّيّئَةُفكرّر لا, والمعنى: لا تستوي الحسنة ولا السيئة, لأن كلّ ما كان غير مساوٍ شيئا, فالشيء الذي هو له غير مساو غير مساويه, كما أن كلّ ما كان مساويا لشيء فالاَخر الذي هو له مساو, مساوٍ له, فيقال: فلان مساو فلانا, وفلان له مساو, فكذلك فلان ليس مساويا لفلان, ولا فلان مساويا له, فلذلك كرّرت لا مع السيئة, ولو لم تكن مكرّرة معها كان الكلام صحيحا. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: يجوز أن يقال: الثانية زائدة يريد: لا يستوي عبد الله وزيد, فزيدت لا توكيدا, كما قال: لَئِلاّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ: أي لأن يعلم, وكما قال: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ. وقد كان بعضهم ينكر قوله هذا في: لَئِلاّ يَعْلَمَ أهْلَ الكِتابِ, وفي قوله: لا أُقْسِمُ فيقول: لا الثانية في قوله: لَئِلاّ يَعْلَمَ أهْلَ الكِتابِ أن لا يقدرون ردّت إلى موضعها, لأن النفي إنما لحق يقدرون لا العلم, كما يقال: لا أظنّ زيدا لا يقوم, بمعنى: أظنّ زيدا لا يقوم قال: وربما استوثقوا فجاؤوا به أوّلاً وآخرا, وربما اكتفوا بالأوّل من الثاني. وحُكي سماعا من العرب: ما كأني أعرفها: أي كأني لاأعرفها. قال: وأما «لا» في قوله لا أُقْسِمُ فإنما هو جواب, والقسم بعدها مستأنف, ولا يكون حرف الجحد مبتدأ صلة.
وإنما عُنِي بقوله: وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةَ وَلا السّيّئَةُ ولا يستوي الإيمان بالله والعمل بطاعته والشرك به والعمل بمعصيته.
وقوله: ادْفِعْ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ادفع يا محمد بحلمك جهل من جهل عليك, وبعفوك عمن أساء إليك إساءة المسيء, وبصبرك عليهم مكروه ما تجد منهم, ويلقاك من قبلهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في تأويله. ذكر من قال ذلك:
23566ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ادْفَعْ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ قال: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب, والحلم والعفو عند الإساءة, فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان, وخضع لهم عدوّهم, كأنه وليّ حميم.
وقال آخرون: معنى ذلك: ادفع بالسلام على من أساء إليك إساءته. ذكر من قال ذلك:
23567ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا سفيان, عن طلحة بن عمرو, عن عطاء ادْفَعْ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ قال: بالسلام.
23568ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عبد الكريم الجزري, عن مجاهد ادْفَعْ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ قال: السلام عليك إذا لقيته.
وقوله: فإذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَوَاةٌ كأنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ يقول تعالى ذكره: افعل هذا الذي أمرتك به يا محمد من دفع سيئة المسيء إليك بإحسانك الذي أمرتك به إليه, فيصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة, كأنه من ملاطفته إياك, وبرّه لك, وليّ لك من بني أعمامك, قريب النسب بك والحميم: هو القريب, كما:
23569ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد,, عن قتادة كأنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ: أي كأنه وليّ قريب.
الآية : 35-36
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ * وَإِمّا يَنزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ }.
يقول تعالى ذكره: وما يُعطَى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا لله على المكاره, والأمور الشاقة وقال: وَما يُلَقّاها ولم يقل: وما يلقاه, لأن معنى الكلام: وما يلقى هذه الفعلة من دفع السيئة بالتي هي أحسن.
وقوله: وَما يُلَقّاها إلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ يقول: وما يلقى هذه إلا ذو نصيب وجدّ له سابق في المبرات عظيم, كما:
23570ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: وَما يُلَقّاها إلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ: ذو جدّ.
وقيل: إن ذلك الحظّ الذي أخبر الله جلّ ثناؤه في هذه الاَية أنه لهؤلاء القوم هو الجنة. ذكر من قال ذلك:
23571ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَما يُلَقّاها إلاّ الّذِينَ صَبرُوا... الاَية. والحظّ العظيم: الجنة. ذُكر لنا أن أبا بكر رضي الله عنه شتمه رجل ونبيّ الله صلى الله عليه وسلم شاهد, فعفا عنه ساعة, ثم إن أبا بكر جاش به الغضب, فردّ عليه, فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم فاتبعه أبو بكر, فقال يا رسول الله شتمني الرجل, فعفوت وصفحت وأنت قاعد, فلما أخذت أنتصر قمت يا نبيّ الله, فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «إنّهُ كانَ يَرُدّ عَنْكَ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةَ, فَلَمّا قَرُبْتَ تَنْتَصِرُ ذَهَبَ المَلَكُ وَجاءَ الشّيْطانُ, فَوَالله ما كُنْتُ لأُجالِسَ الشّيْطانَ يا أبا بَكْرٍ».
23572ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَما يُلَقّاها إلاّ الّذِينَ صَبرُوا وَما يُلَقّاها إلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ يقول: الذين أعدّ الله لهم الجنة.
وقوله: وَإمّا يَنزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللّهِ... الاَية, يقول تعالى ذكره: وإما يلقين الشيطان يا محمد في نفسك وسوسة من حديث النفس إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة, ودعائك إلى مساءته, فاستجر بالله واعتصم من خطواته, إن الله هو السميع لاستعاذتك منه واستجارتك به من نزغاته, ولغير ذلك من كلامك وكلام غيرك, العليم بما ألقى في نفسك من نزغاته, وحدّثتك به نفسك ومما يذهب ذلك من قبلك, وغير ذلك من أمور وأمور خلقه, كما:
23573ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَإمّا يَنزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطانِ نَزْغٌ قال: وسوسة وحديث النفس فاسْتَعِذْ باللّهِ مِنَ الشّيْطانِ الرّجِيمِ.
23574ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد وَإمّا يَنزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطانِ نَزْغٌ هذا الغضب.
الآية : 37
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللّيْلُ وَالنّهَارُ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلّهِ الّذِي خَلَقَهُنّ إِن كُنتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ومن حجج الله تعالى على خلقه ودلالته على وحدانيته, وعظيم سلطانه, اختلاف الليل والنهار, ومعاقبة كلّ واحد منهما صاحبه, والشمس والقمر, لا الشمس تدرك القمر وَلا اللّيْلُ سابِقُ النّهارِ وكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ لا تسجدوا أيها الناس للشمس ولا للقمر, فإنهما وإن جريا في الفلك بمنافعكم, فإنما يجريان به لكم بإجراء الله إياهما لكم طائعين له في جريهما ومسيرهما, لا بأنهما يقدران بأنفسهما على سير وجري دون إجراء الله إياهما وتسييرهما, أو يستطيعان لكم نفعا أو ضرّا, وإنما الله مسخرهما لكم لمنافعكم ومصالحكم, فله فاسجدوا, وإياه فاعبدوا دونها, فإنه إن شاء طمس ضوءهما, فترككم حيارَى في ظلمة لا تهتدون سبيلاً, ولا تبصرون شيئا. وقيل: وَاسْجُدُوا لِلّهِ الّذِي خَلَقَهُنّ فجمع بالهاء والنون, لأن المراد من الكلام: واسجدوا لله الذي خلق اليل والنهار والشمس والقمر, وذلك جمع, وأنث كنايتهن, وإن كان من شأن العرب إذا جمعوا الذكر إلى الأنثى أن يخرجوا كنايتهما بلفظ كناية المذكر فيقولوا: أخواك وأختاك كلموني, ولا يقولوا: كلمني, لأن من شأنهم أن يؤنثوا أخبار الذكور من غير بني آدم في الجمع, فيقولوا: رأيت مع عمرو أثوابا فأخذتهنّ منه. وأعجبني خواتيم لزيد قبضتهنّ منه.
وقوله: إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ يقول: إن كنتم تعبدون الله, وتذلون له بالطاعة وإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة, ولا تشركوا في طاعتكم إياه وعبادتكموه شيئا سواه, فإن العبادة لا تصلح لغيره ولا تنبغي لشيء سواه.
الآية : 38
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: فإن استكبر يا محمد هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم من مشركي قريش, وتعظموا عن أن يسجدوا الله الذي خلقهم وخلق الشمس والقمر, فإن الملائكة الذين عند ربك لا يستكبرون عن ذلك, ولا يتعظمون عنه, بل يسبحون له, ويصلون ليلاً ونهارا, وهم لا يسأمون يقول: وهم لا يفترون عن عبادتهم, ولا يملون الصلاة له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23575ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: فإنِ اسْتَكْبَرُوا فالّذِينَ عِنْدَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ باللّيْلِ والنّهارِ قال: يعني محمدا, يقول: عبادي ملائكة صافون يسبحون ولا يستكبرون