تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 484 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 484

483

11- "جعل لكم من أنفسكم أزواجاً" أي خلق لكم من جنسكم نساءً، أو المراد حواء لكونها خلقت من ضلع آدم. وقال مجاهد: نسلاً بعد نسل "ومن الأنعام أزواجاً" أي وخلق للأنعام من جنسها إناثاً، أو خلق لكم من الأنعام أصنافاً من الذكور والإناث، وهي الثمانية التي ذكرها في الأنعام "يذرؤكم فيه" أي يبثكم فيه، من الذرء: وهو البث، أو يخلقكم وينشئكم، والضمير في يذرؤكم للمخاطبين والأنعام إلا أنه غلب فيه العقلاء، وضمير فيه راجع إلى الجعل المدلول عليه بالفعل، وقيل راجع إلى ما ذكر من التدبير. وقال الفراء والزجاج وابن كيسان: معنى يذرؤكم فيه يكثركم به: أي يكثركم بجعلكم أزواجاً لأن ذلك سبب النسل. وقال ابن قتيبة: يذرؤكم فيه: أي في الزوج، وقيل في البطن، وقيل في الرحم "ليس كمثله شيء" المراد بذكر المثل هنا المبالغة في النفي بطريق الكناية، فإنه إذا نفي عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى: كقولهم: مثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود، وقيل إن الكاف زائدة للتوكيد: أي ليس مثله شيء، وقيل إن مثل زائدة قاله ثعلب وغيره كما في قوله "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به" أي بما آمنتم به، ومنه قول أوس بن حجر: وقتلى كمثل جذوع النخيـ ـل يغشاهم مطر منهمر أي كجذوع، والأول أولى، فإن الكناية باب مسلوك للعرب ومهيع مألوف لهم، ومنه قول الشاعر: ليس كمثل الفتى زهير خلق يوازيه في الفضائل وقال آخر: على مثل ليلى يقتل المرء نفسه وإن بات من ليلى على اليأس طاويا وقال آخر: سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم فما كمثلهم في الناس من أحد قال ابن قتيبة: العرب تقيم المثل مقام النفس، فتقول: مثلي لا يقال له هذا: أي أنا لا يقال لي. وقال أبو البقاء مرجحاً لزيادة الكاف: إنها لو لم تكن زائدة لأفضى ذلك إلى المحال، إذ يكون المعنى: أن له مثلاً وليس لمثله مثل، وفي ذلك تناقض، لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل، وهو هو مع أن إثبات المثل لله سبحانه محال، وهذا تقرير حسن، ولكنه يندفع ما أورده بما ذكرنا من كون الكلام خارجاً مخرج الكناية ومن فهم هذه الآية الكريمة حق فهمها وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على طريقة بيضاء واضحة، ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله: "وهو السميع البصير" فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للمماثل قد اشتمل على برد اليقين وشفاء الصدور وانثلاج القلوب فاقدر يا طالب الحق قدر هذه الحجة النيرة والبرهان القوي، فإنك تحطم بها كثيراً من البدع وتهشم بها رؤوساً من الضلالة، وترغم بها آناف طوائف من المتكلفين، ولا سيما إذا ضممت إليه قول الله سبحانه: "ولا يحيطون به علماً" فإنك حينئذ قد أخذت بطرفي حبل ما يسمونه علم الكلام وعلم أصول الدين: ودع عنك نهباً صيح في حجراته ولكن حديث ما حديث الرواحل
12- "له مقاليد السموات والأرض" أي خزائنهما أو مفاتيحهما، وقد تقدم تحقيقه في سورة الزمر، وهي جمع إقليد، وهو المفتاح جمع على خلاف القياس. قال النحاس: والذي يملك المفاتيح يملك الخزائن. ثم لما ذكر سبحانه أن بيده مقاليد السموات ذكر بعده البسط والقبض فقال: "يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" أي يوسعه لمن يشاء من خلقه ويضيقه على من يشاء "إنه بكل شيء" من الأشياء "عليم" فلا تخفى عليه خافية، وإحاطة علمه بكل شيء يندرج تحتها علمه بطاعة المطيع ومعصية العاصي، فهو يجازي كلاً بما يستحقه من خير وشر. وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو قال:" خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا لا، إلا أن تخبرنا يا رسول الله، قال: للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم، ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً، فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أن عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما، ثم قال: فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير". قال الترمذي بعد إخراجه: حديث حسن صحيح غريب. وروى ابن جرير طرفاً منه عن ابن عمرو موقوفاً عليه. قال ابن جرير: وهذا الموقوف أشبه بالصواب. قلت: بل المرفوع أشبه بالصواب، فقد رفعه الثقة ورفعه زيادة ثابتة من وجه صحيح. ويقوي الرفع ما أخرجه ابن مردويه عن البراء. قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده كتاب ينظر فيه قالوا انظروا إليه كيف وهو أمي لا يقرأ، قال: فعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء قبائلهم لا يزاد منهم ولا ينقص منهم، وقال: فريق في الجنة، وفريق في السعير فرغ ربكم من أعمال العباد".
الخطاب في قوله: 13- "شرع لكم من الدين" لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: أي بين وأوضح لكم من الدين "ما وصى به نوحاً" من التوحيد ودين الإسلام وأصول الشرائع التي لم يختلف فيها الرسل وتوافقت عليها الكتب، "والذي أوحينا إليك" من القرآن وشرائع الإسلام والبراءة من الشرك، والتعبير عنه بالموصول لتفخيم شأنه، وخص ما شرعه لنبينا صلى الله عليه وسلم بالإيحاء مع كون ما بعده وما قبله مذكوراً بالتوصية للتصريح برسالته "وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى" مما تطابقت عليه الشرائع. ثم بين ما وصى به هؤلاء فقال: "وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى" مما تطابقت عليه الشرائع. ثم بين ما وصى به هؤلاء فقال: "أن أقيموا الدين" أي توحيد الله والإيمان به وطاعة رسله وقبول شرائعه، وأن هي المصدرية، وهي وما بعدها في محل رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف، كأنه قيل ما ذلك الذي شرعه الله؟ فقيل هو إقامة الدين، أو هي في محل نصب بدلاً من الموصول، أو في محل جر بدلاً من الدين، أو هي المفسرة، لأنه قد تقدمها فيه معنى القول. قال مقاتل: يعني التوحيد. قال مجاهد: لم يبعث الله نبياً قط إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة، فذلك دينه الذي شرع لهم. وقال قتادة: يعني تحليل الحلال وتحريم الحرام، وخص إبراهيم وموسى وعيسى بالذكر مع نبينا صلى الله عليه وسلم لأنهم أرباب الشرائع. ثم لما أمرهم سبحانه بإقامة الدين، نهاهم عن الاختلاف فيه فقال: "ولا تتفرقوا فيه" أي لا تختلفوا في التوحيد والإيمان بالله وطاعة رسله وقبول شرائعه، فإن هذه الأمور قد تطابقت عليها الشرائع وتوافقت فيها الأديان، فلا ينبغي الخلاف في مثلها، وليس من هذا فروع المسائل التي تختلف فيها الأدلة وتتعارض فيها الأمارات وتتباين فيها الأفهام، فإنها من مطارح الاجتهاد ومواطن الخلاف. ثم ذكر سبحانه أن ما شرعه من الدين شق على المشركين فقال: "كبر على المشركين ما تدعوهم إليه" أي عظم وشق عليهم ما تدعوهم إليه من التوحيد ورفض الأوثان. قال قتادة: كبر على المشركين واشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله وحده وضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها ويظفرها على من ناوأها. ثم خص أولياءه فقال: "الله يجتبي إليه من يشاء" أي يختار والاجتباء الاختيار، والمعنى: يختار لتوحيده والدخول في دينه من يشاء من عباده "ويهدي إليه من ينيب" أي يوفق لدينه ويستخلص لعبادته من يرجع إلى طاعته ويقبل إلى عبادته.
ثم لما ذكر سبحانه ما شرعه لهم من إقامة الدين وعدم التفرق فيه ذكر ما وقع في التفرق والاختلاف فقال: 14- "وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم" أي ما تفرقوا إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة، ففعلوا ذلك التفرق للبغي بينهم بطلب الرياسة وشدة الحمية، قيل المراد قريش هم الذين تفرقوا بعد ما جاءهم العلم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم "بغياً" منهم عليه، وقد كانوا يقولون ما حكاه الله عنهم بقوله: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير" الآية، وبقوله: "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" وقيل المراد أمم الأنبياء المتقدمين، وأنهم فيما "بينهم" اختلفوا لما طال بهم المدى فآمن قوم وكفر قوم، وقيل اليهود والنصارى خاصة كما في قوله: "وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة"، "ولولا كلمة سبقت من ربك" وهي تأخير العقوبة "إلى أجل مسمى" وهو يوم القيامة كما في قوله: "بل الساعة موعدهم" وقيل إلى الأجل الذي قضاه الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر والذل والقهر " لقضي بينهم " أي لوقع القضاء بينهم بإنزال العقوبة بهم معجلة، وقيل لقضى بين من آمن منهم ومن كفر بنزول العذاب بالكافرين ونجاة المؤمنين "وإن الذين أورثوا الكتاب" من اليهود والنصارى "من بعدهم" من بعد من قبلهم من اليهود والنصارى "لفي شك منه" أي من القرآن، أو من محمد "مريب" موقع في الريب لذلك لم يؤمنوا. وقال مجاهد: معنى من بعدهم من قبلهم: يعني من قبل مشركي مكة، وهم اليهود والنصارى. وقيل المراد كفار المشركين من العرب الذين أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم، وصفهم بأنه في شك من القرآن مريب. قرأ الجمهور "أورثوا" وقرأ زيد بن علي ورثوا بالتشديد.
15- "فلذلك فادع واستقم" أي فلأجل ما ذكر من التفرق والشك، أو فلأجل أنه شرع من الدين ما شرع فادع واستقم، أي فادع كما تقول: دعوت إلى فلان ولفلان، وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد. وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: كبر على المشركين ما ندعوهم إليه فلذلك فادع. قال قتادة: استقم على أمر الله. وقال سفيان: استقم على القرآن. وقال الضحاك: استقم على تبليغ الرسالة "كما أمرت" بذلك من جهة الله "ولا تتبع أهواءهم" الباطلة وتعصباتهم الزائغة، ولا تنظر إلى خلاف من خالفك في ذكر الله "وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب" أي بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله، لا كالذين آمنوا ببعض منها وكفروا ببعض "وأمرت لأعدل بينكم" في أحكام الله إذا ترافعتم إلي، ولا أحيف عليكم بزيادة على ما شرعه الله أو بنقصان منه، وأبلغ إليكم ما أمرني الله بتبليغه كما هو، واللام لام كي: أي أمرت بذلك الذي أمرت به لكي أعدل بينكم، وقيل هي زائدة، والمعنى: أمرت أن أعدل. والأول أولى. قال أبو العالية: أمرت لأسوي بينكم في الدين فأومن بكل كتاب وبكل رسول. والظاهر أن الآية عامة في كل شيء، والمعنى: أمرت لأعدل بينكم في كل شيء "الله ربنا وربكم" أي إلهنا وإلهكم، وخالقنا وخالقكم "لنا أعمالنا" أي ثوابها وعقابها خاص بنا "ولكم أعمالكم" أي ثوابها وعقابها خاص بكم "لا حجة بيننا وبينكم" أي لا خصومة بيننا وبينكم، لأن الحق قد ظهر ووضح "الله يجمع بيننا" في المحشر "وإليه المصير" أي المرجع يوم القيامة فيجازي كلاً بعمله: وهذا منسوخ بآية السيف. قيل الخطاب لليهود، وقيل للكافر على العموم.