سورة الشورى | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 484 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 484
485
483
الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
فَاطِرُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ
يقول تعالى ذكره: فَاطِرُ السّمَواتِ وَالأَرْضِ, خالق السموات السبع والأرض. كما:
23640ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: فاطِرُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: خالق.
وقوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجاً يقول تعالى ذكره: زوّجكم ربكم من أنفسكم أزواجاً. وإنما قال جلّ ثناؤه: مِنْ أنْفُسِكُمْ لأنه خلق حوّاء من ضلع آدم, فهو من الرجال. وَمِنَ الأنْعامِ أزْوَاجاً يقول جلّ ثناؤه: وجعل لكم من الأنعام أزواجاً من الضأن اثنين, ومن المعز اثنين, ومن الإبل اثنين, ومن البقر اثنين, ذكوراً وإناثاً, ومن كل جنس من ذلك يَذْرَؤُكُم فِيهِ: يقول: يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم, ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ في هذا الموضع, فقال بعضهم: معنى ذلك: يخلقكم فيه. ذكر من قال ذلك:
23641ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعاً, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال: نسل بعد نسل من الناس والأنعام.
23642ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: يَذْرَؤُكُمْ قال: يخلقكم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزّة, عن مجاهد, في قوله: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال: نسلاً بعد نسل من الناس والأنعام.
23643ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, أنه قال في هذه الاَية: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال: يخلقكم.
وقال آخرون: بل معناه: يعيشكم فيه. ذكر من قال ذلك:
23644ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعام أزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يقول: يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها.
23645ـحدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال: يعيشكم فيه.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال: عيش من الله يعيشكم فيه.
وهذان القولان وإن اختلفا في اللفظ من قائليهما فقد يحتمل توجيههما إلى معنى واحد, وهو أن يكون القائل في معناه يعيشكم فيه, أراد بقوله ذلك: يحييكم بعيشكم به كما يحيى من لم يخلق بتكوينه إياه, ونفخه الروح فيه حتى يعيش حياً. وقد بيّنت معنى ذرء الله الخلق فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادته.
وقوله: لَيْس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: ليس هو كشيء, وأدخل المثل في الكلام توكيداً للكلام إذا اختلف اللفظ به وبالكاف, وهما بمعنى واحد, كما قيل:
ما إنْ نَدِيتُ بشَيْءٍ أنْتَ تَكْرَهُهُ
فأدخل على «ما» وهي حرف جحد «إن» وهي أيضاً حرف جحد, لاختلاف اللفظ بهما, وإن اتفق معناهما توكيداً للكلام, وكما قال أوس بن حَجَر:
وَقَتْلَى كمِثْلِ جُذوعِ نّخيلْتَغَشّاهُمْ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ
ومعنى ذلك: كجذوع النخيل, وكما قال الاَخر:
سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إذَا أبْصَرْتَ فَضْلَهُمُما إنْ كمِثْلِهِمِ فِي النّاسِ مِنَ أحَدِ
والاَخر: أن يكون معناه: ليس مثل شيء, وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام, كقول الراجز:
وَصَالِياتِ كَكَما يُؤْثَفَيْنِ
فأدخل على الكاف كافاً توكيداً للتشبيه, وكما قال الاَخر:
تَنْفِي الغَيادِيقُ عَلى الطّرِيقِقَلّصَ عَنْ كَبَيْضَةٍ فِي نِيقِ فأدخل الكاف مع «عن», وقد بيّنا هذا في موضع غير هذا المكان بشرح هو أبلغ من هذا الشرح, فلذلك تجوّزنا في البيان عنه في هذا الموضع. وقوله: وَهُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول جلّ ثناؤه واصفاً نفسه بما هو به, وهو يعني نفسه: السميع لما تنطق به من خلقه قول, البصير لأعمالهم, لا يخفى عليه من ذلك شيء, ولا يعزب عنه علم شيء منه, وهو محيط بجميعه, محصٍ صغيره وكبيره لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ من خير أو شرّ.
الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
لَهُ مَقَالِيدُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
يعني تعالى ذكره بقوله: لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ: له مفاتيح خزائن السموات والأرض وبيده مغاليق الخير والشرّ ومفاتيحها, فما يفتح من رحمة فلا ممسك لها, وما يمسك فلا مرسل له من بعده. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23646ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعاً, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: مفاتيح بالفارسية.
23647ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْض قال: مفاتيح السموات والأرض. وعن الحسن بمثل ذلك.
23648ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ لَهُ مَقاليدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: خزائن السموات والأرض.
وقوله: يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يقول: يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه, ويبسط له, ويكثر ماله ويغنيه. ويقدر: يقول: ويقتر على من يشاء منهم فيضيقه ويفقره إنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول: إن الله تبارك وتعالى بكل ما يفعل من توسيعه على من يوسع, وتقتيره على من يقتر, ومن الذي يصلحه البسط عليه في الرزق, ويفسده من خلقه, والذي يُصلحه التقتير عليه ويفسده, وغير ذلك من الأمور, ذو علم لا يخفى عليه موضع البسط والتقتير وغيره, من صلاح تدبير خلقه. يقول تعالى ذكره: فإلى من له مقاليد السموات والأرض الذي صفته ما وصفت لكم في هذه الاَيات أيها الناس فارغبوا, وإياه فاعبدوا مخلصين له الدين لا الأوثان والاَلهة والأصنام, التي لا تملك لكم ضرّاً ولا نفعاً.
الآية : 13
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
{شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَىَ أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللّهُ يَجْتَبِيَ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيَ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }
يقول تعالى ذكره: شَرَعَ لَكُمْ ربكم أيها الناس مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً أن يعمله وَالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وشرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك يا محمد, فأمرناك به وَما وَصّيْنا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدّينَ يقول: شرع لكم من الدين, أن أقيموا الدين «فأن» إذ كان ذلك معنى الكلام, في موضع نصب على الترجمة بها عن «ما» التي في قوله: ما وَصّى بِهِ نُوحاً. ويجوز أن تكون في موضع خفض ردّاً على الهاء التي في قوله: بِهِ, وتفسيراً عنها, فيكون معنى الكلام حينئذٍ: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً, أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. وجائز أن تكون في موضع رفع على الاستئناف, فيكون معنى الكلام حينئذٍ: شرع لكم من الدين ما وصى به, وهو أن أقيموا الدين. وإذ كان معنى الكلام ما وصفت, فمعلوم أن الذي أوصى به جميع هؤلاء الأنبياء وصية واحدة, وهي إقامة الدين الحق, ولا تتفرّقوا فيه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23649ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى حدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعاً, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ما وَصّى بِهِ نُوحاً قال: ما أوصاك به وأنبيائه, كلهم دين واحد.
23650ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً قال: هو الدين كله.
23651ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً بعث نوح حين بعث بالشريعة بتحليل الحلال, وتحريم الحرام وَما وَصّيْنا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَموسَى وَعِيسَى.
حدثنا محمد , قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً قال: الحلال والحرام.
23652ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّين ما وَصّى بِهِ نُوحاً... إلى آخر الاَية, قال: حسبك ما قيل لك.
وعنى بقوله: أنْ أقِيمُوا الدّينَ أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض, كما قد بينا فيما مضى قبل في قوله: أقِيمُوا الصّلاة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23653ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: أنْ أقِيمُوا الدّينَ قال: اعملوا به.
وقوله: وَلا تَتَفَرّقُوا فِيهِ يقول: ولا تختلفوا في الدين الذي أُمِرتُم بالقيام به, كما اختلف الأحزاب من قبلكم. كما:
23654ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلا تَتَفَرّقُوا فِيهِ تعلّموا أن الفرقة هلكة, وأن الجماعة ثقة.
وقوله: كَبُرَ على المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كبر على المشركين بالله من قومك يا محمد ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لله, وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الاَلهة والأنداد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23655ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة كَبُرَ على المُشْرِكيِنَ ما تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ قال: أنكرها المشركون, وكبر عليهم شهادة أن لا إله إلا الله, فصادمها إبليس وجنوده, فأبى الله تبارك وتعالى إلا أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها.
وقوله: اللّهُ يَجْتَبي إلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ يقول: الله يصطفي إليه من يشاء من خلقه, ويختار لنفسه, وولايته من أحبّ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23656ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعاً, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: اللّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشاءُ, وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ يقول: ويوفق للعمل بطاعته, واتباع ما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام من الحقّ من أقبل إلى طاعته, وراجع التوبة من معاصيه. كما:
23657ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ: من يقبل إلى طاعة الله.
الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
{وَمَا تَفَرّقُوَاْ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى لّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنّ الّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ }
يقول تعالى ذكره: وما تفرّق المشركون بالله في أديانهم فصاروا أحزاباً, إلا من بعد ما جاءهم العلم, بأن الذي أمرهم الله به, وبعث به نوحاً, هو إقامة الدين الحقّ, وأن لا تتفرّقوا فيه.
23658ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَما تَفَرّقُوا إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ فقال: إياكم والفرْقة فإنها هَلكة بَغْياً بَيْنَهُمْ يقول: بغياً من بعضكم على بعض وحسداً وعداوة على طلب الدنيا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ إلى أجَلٍ مُسَمّى يقول جلّ ثناؤه: ولولا قول سبق يا محمد من ربك لا يعاجلهم بالعذاب, ولكنه أخر ذلك إلى أجل مسمى, وذلك الأجل المسمى فيما ذُكر: يوم القيامة. ذكر من قال ذلك:
23659ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكْ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال: يوم القيامة.
وقوله: لقضي بينهم يقول: لفرغ ربك من الحكم بين هؤلاء المختلفين في الحقّ الذي بعث به نبيه نوحاً من بعد علمهم به, بإهلاكه أهل الباطل منهم, وإظهاره أهل الحق عليهم.
وقوله: وإنّ الّذِينَ أُورثُوا الكِتابَ مِنْ بَعْدَهِمْ يقول: وإن الذين أتاهم الله من بعد هؤلاء المختلفين في الحقّ كتابه التوراة والإنجيل لَفِي شَكْ مِنْهُ مُرِيبٌ يقول: لفي شكّ من الدين الذين وصّى الله به نوحاً, وأوحاه إليك يا محمد, وأمركما بإقامته مريب. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: وَإنّ الّذِينَ أُورثُوا الكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23660ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: وَإنّ الّذِينَ أُورِثُوا الكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ قال: اليهود والنصارى.
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللّهُ رَبّنَا وَرَبّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
يقول تعالى ذكره: فإلى ذلك الدين الذي شَرَع لكم, ووصّى به نوحاً, وأوحاه إليك يا محمد, فادع عباد الله, واستقم على العمل به, ولا تَزِغ عنه, واثبتْ عليه كما أمرك ربك بالاستقامة. وقيل: فلذلك فادع, والمعنى: فإلى ذلك, فوضعت اللام موضع إلى, كما قيل: بأنّ رَبّكَ أوْحَى لَهَا. وقد بيّنا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا.
وكان بعض أهل العربية يوجه معنى ذلك, في قوله: فَلِذَلكَ فادْعُ إلى معنى هذا, ويقول: معنى الكلام: فإلى هذا القرآن فادع واستقم. والذي قال من هذا القول قريب المعنى مما قلناه, غير أن الذي قلنا في ذلك أولى بتأويل الكلام, لأنه في سياق خبر الله جلّ ثناؤه عما شرع لكم من الدين لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإقامته, ولم يأت من الكلام ما يدلّ على انصرافه عنه إلى غيره.
وقوله: وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَهُم يقول تعالى ذكره: ولا تتبع يا محمد أهواء الذين شكّوا في الحقّ الذي شرعه الله لكم من الذين أورثوا الكتاب من بعد القرون الماضية قبلهم, فتشك فيه, كالذي شكوا فيه وقُلْ آمَنْتُ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ مِنْ كِتابٍ يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: صدّقتُ بما أنزل الله من كتاب كائناً ما كان ذلك الكتاب, توراة كان أو أنجيلاً أو زبوراً أو صحف إبراهيم, لا أكذّب بشيء من ذلك تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب, وتصديقكم ببعض.
وقوله: وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللّهُ رَبّنا وَرَبّكُمْ يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب, فأسير فيكم جميعاً بالحقّ الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه. كالذي:
23661ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمْ قال: أمر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يعدل, فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه عليه. والعدل ميزان الله في الأرض, به يأخذ للمظلوم من الظالم, وللضعيف من الشديد, وبالعدل يصدّق الله الصادق, ويكذّب الكاذب, وبالعدل يردّ المعتدي ويوبخه.
ذُكر لنا أن نبيّ الله داود عليه السلام: كان يقول: ثلاث من كنّ فيه أعجبني جداً: القصد في الفاقة والغنى, والعدل في الرضا والغضب, والخشية في السرّ والعلانية وثلاث من كنّ فيه أهلكته: شحّ مطاع, وهوىً متبع, وإعجاب المرء بنفسه. وأربع من أُعطِيَهُنّ فقد أُعطي خير الدنيا والاَخرة: لسان ذاكر, وقلب شاكر, وبدن صابر, وزوجة مؤمنة.
واختلف أهل العربية في معنى اللام التي في قوله: وأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمْ فقال بعض نحويي البصرة: معناها: كي, وأمرت كي أعدل وقال غيره: معنى الكلام: وأمرت بالعدل, والأمر واقع على ما بعده, وليست اللام التي في لأعدل بشرط قال: وأُمِرْتُ تقع على «أن» وعلى «كي» واللام أمرت أن أعبد, وكي أعبد, ولأعبد. قال: وكذلك كلّ ما طالب الاستقبال, ففيه هذه الأوجه الثلاثة.
والصواب من القول في ذلك عندي أن الأمر عامل في معنى لأعدل, لأن معناه: وأمرت بالعدل بينكم.
وقوله: اللّهُ رَبّنا وَرَبّكُمْ يقول: الله مالكنا ومالككم معشر الأحزاب من أهل الكتابين التوراة والإنجيل لنَا أعمالُنا ولَكُمْ أعمالُكُمْ يقول: لنا ثواب ما اكتسبناه من الأعمال, ولكم ثواب ما اكتسبتم منها.
وقوله: لا حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ يقول: لا خصومة بيننا وبينكم. كما:
23662ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال حدثنا ورقاء جميعاً, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: لا حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ قال: لا خصومة.
23663ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله عزّ وجلّ: لا حُجّةَ بَيْنَا وَبَيْنَكُمْ: لا خصومة بيننا وبينكم, وقرأ: وَلا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ... إلى آخر الاَية.
وقوله: اللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يقول: الله يجمع بيننا يوم القيامة, فيقضي بيننا بالحقّ فيما اختلفنا فيه وإلَيْهِ المَصِيرُ يقول: وإليه المعاد والمرجع بعد مماتنا.
الآية : 15
!!!========== غير موجودة فى الأصل ============!!!
485
483
الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
فَاطِرُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ
يقول تعالى ذكره: فَاطِرُ السّمَواتِ وَالأَرْضِ, خالق السموات السبع والأرض. كما:
23640ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: فاطِرُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: خالق.
وقوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجاً يقول تعالى ذكره: زوّجكم ربكم من أنفسكم أزواجاً. وإنما قال جلّ ثناؤه: مِنْ أنْفُسِكُمْ لأنه خلق حوّاء من ضلع آدم, فهو من الرجال. وَمِنَ الأنْعامِ أزْوَاجاً يقول جلّ ثناؤه: وجعل لكم من الأنعام أزواجاً من الضأن اثنين, ومن المعز اثنين, ومن الإبل اثنين, ومن البقر اثنين, ذكوراً وإناثاً, ومن كل جنس من ذلك يَذْرَؤُكُم فِيهِ: يقول: يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم, ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ في هذا الموضع, فقال بعضهم: معنى ذلك: يخلقكم فيه. ذكر من قال ذلك:
23641ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعاً, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال: نسل بعد نسل من الناس والأنعام.
23642ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: يَذْرَؤُكُمْ قال: يخلقكم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزّة, عن مجاهد, في قوله: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال: نسلاً بعد نسل من الناس والأنعام.
23643ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, أنه قال في هذه الاَية: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال: يخلقكم.
وقال آخرون: بل معناه: يعيشكم فيه. ذكر من قال ذلك:
23644ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعام أزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يقول: يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها.
23645ـحدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال: يعيشكم فيه.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال: عيش من الله يعيشكم فيه.
وهذان القولان وإن اختلفا في اللفظ من قائليهما فقد يحتمل توجيههما إلى معنى واحد, وهو أن يكون القائل في معناه يعيشكم فيه, أراد بقوله ذلك: يحييكم بعيشكم به كما يحيى من لم يخلق بتكوينه إياه, ونفخه الروح فيه حتى يعيش حياً. وقد بيّنت معنى ذرء الله الخلق فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادته.
وقوله: لَيْس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: ليس هو كشيء, وأدخل المثل في الكلام توكيداً للكلام إذا اختلف اللفظ به وبالكاف, وهما بمعنى واحد, كما قيل:
ما إنْ نَدِيتُ بشَيْءٍ أنْتَ تَكْرَهُهُ
فأدخل على «ما» وهي حرف جحد «إن» وهي أيضاً حرف جحد, لاختلاف اللفظ بهما, وإن اتفق معناهما توكيداً للكلام, وكما قال أوس بن حَجَر:
وَقَتْلَى كمِثْلِ جُذوعِ نّخيلْتَغَشّاهُمْ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ
ومعنى ذلك: كجذوع النخيل, وكما قال الاَخر:
سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إذَا أبْصَرْتَ فَضْلَهُمُما إنْ كمِثْلِهِمِ فِي النّاسِ مِنَ أحَدِ
والاَخر: أن يكون معناه: ليس مثل شيء, وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام, كقول الراجز:
وَصَالِياتِ كَكَما يُؤْثَفَيْنِ
فأدخل على الكاف كافاً توكيداً للتشبيه, وكما قال الاَخر:
تَنْفِي الغَيادِيقُ عَلى الطّرِيقِقَلّصَ عَنْ كَبَيْضَةٍ فِي نِيقِ فأدخل الكاف مع «عن», وقد بيّنا هذا في موضع غير هذا المكان بشرح هو أبلغ من هذا الشرح, فلذلك تجوّزنا في البيان عنه في هذا الموضع. وقوله: وَهُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول جلّ ثناؤه واصفاً نفسه بما هو به, وهو يعني نفسه: السميع لما تنطق به من خلقه قول, البصير لأعمالهم, لا يخفى عليه من ذلك شيء, ولا يعزب عنه علم شيء منه, وهو محيط بجميعه, محصٍ صغيره وكبيره لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ من خير أو شرّ.
الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
لَهُ مَقَالِيدُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
يعني تعالى ذكره بقوله: لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ: له مفاتيح خزائن السموات والأرض وبيده مغاليق الخير والشرّ ومفاتيحها, فما يفتح من رحمة فلا ممسك لها, وما يمسك فلا مرسل له من بعده. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23646ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعاً, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: مفاتيح بالفارسية.
23647ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْض قال: مفاتيح السموات والأرض. وعن الحسن بمثل ذلك.
23648ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ لَهُ مَقاليدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: خزائن السموات والأرض.
وقوله: يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يقول: يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه, ويبسط له, ويكثر ماله ويغنيه. ويقدر: يقول: ويقتر على من يشاء منهم فيضيقه ويفقره إنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول: إن الله تبارك وتعالى بكل ما يفعل من توسيعه على من يوسع, وتقتيره على من يقتر, ومن الذي يصلحه البسط عليه في الرزق, ويفسده من خلقه, والذي يُصلحه التقتير عليه ويفسده, وغير ذلك من الأمور, ذو علم لا يخفى عليه موضع البسط والتقتير وغيره, من صلاح تدبير خلقه. يقول تعالى ذكره: فإلى من له مقاليد السموات والأرض الذي صفته ما وصفت لكم في هذه الاَيات أيها الناس فارغبوا, وإياه فاعبدوا مخلصين له الدين لا الأوثان والاَلهة والأصنام, التي لا تملك لكم ضرّاً ولا نفعاً.
الآية : 13
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
{شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَىَ أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللّهُ يَجْتَبِيَ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيَ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }
يقول تعالى ذكره: شَرَعَ لَكُمْ ربكم أيها الناس مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً أن يعمله وَالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وشرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك يا محمد, فأمرناك به وَما وَصّيْنا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدّينَ يقول: شرع لكم من الدين, أن أقيموا الدين «فأن» إذ كان ذلك معنى الكلام, في موضع نصب على الترجمة بها عن «ما» التي في قوله: ما وَصّى بِهِ نُوحاً. ويجوز أن تكون في موضع خفض ردّاً على الهاء التي في قوله: بِهِ, وتفسيراً عنها, فيكون معنى الكلام حينئذٍ: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً, أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. وجائز أن تكون في موضع رفع على الاستئناف, فيكون معنى الكلام حينئذٍ: شرع لكم من الدين ما وصى به, وهو أن أقيموا الدين. وإذ كان معنى الكلام ما وصفت, فمعلوم أن الذي أوصى به جميع هؤلاء الأنبياء وصية واحدة, وهي إقامة الدين الحق, ولا تتفرّقوا فيه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23649ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى حدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعاً, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ما وَصّى بِهِ نُوحاً قال: ما أوصاك به وأنبيائه, كلهم دين واحد.
23650ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً قال: هو الدين كله.
23651ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً بعث نوح حين بعث بالشريعة بتحليل الحلال, وتحريم الحرام وَما وَصّيْنا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَموسَى وَعِيسَى.
حدثنا محمد , قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً قال: الحلال والحرام.
23652ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّين ما وَصّى بِهِ نُوحاً... إلى آخر الاَية, قال: حسبك ما قيل لك.
وعنى بقوله: أنْ أقِيمُوا الدّينَ أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض, كما قد بينا فيما مضى قبل في قوله: أقِيمُوا الصّلاة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23653ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: أنْ أقِيمُوا الدّينَ قال: اعملوا به.
وقوله: وَلا تَتَفَرّقُوا فِيهِ يقول: ولا تختلفوا في الدين الذي أُمِرتُم بالقيام به, كما اختلف الأحزاب من قبلكم. كما:
23654ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلا تَتَفَرّقُوا فِيهِ تعلّموا أن الفرقة هلكة, وأن الجماعة ثقة.
وقوله: كَبُرَ على المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كبر على المشركين بالله من قومك يا محمد ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لله, وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الاَلهة والأنداد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23655ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة كَبُرَ على المُشْرِكيِنَ ما تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ قال: أنكرها المشركون, وكبر عليهم شهادة أن لا إله إلا الله, فصادمها إبليس وجنوده, فأبى الله تبارك وتعالى إلا أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها.
وقوله: اللّهُ يَجْتَبي إلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ يقول: الله يصطفي إليه من يشاء من خلقه, ويختار لنفسه, وولايته من أحبّ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23656ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعاً, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: اللّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشاءُ, وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ يقول: ويوفق للعمل بطاعته, واتباع ما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام من الحقّ من أقبل إلى طاعته, وراجع التوبة من معاصيه. كما:
23657ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ: من يقبل إلى طاعة الله.
الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
{وَمَا تَفَرّقُوَاْ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى لّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنّ الّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ }
يقول تعالى ذكره: وما تفرّق المشركون بالله في أديانهم فصاروا أحزاباً, إلا من بعد ما جاءهم العلم, بأن الذي أمرهم الله به, وبعث به نوحاً, هو إقامة الدين الحقّ, وأن لا تتفرّقوا فيه.
23658ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَما تَفَرّقُوا إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ فقال: إياكم والفرْقة فإنها هَلكة بَغْياً بَيْنَهُمْ يقول: بغياً من بعضكم على بعض وحسداً وعداوة على طلب الدنيا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ إلى أجَلٍ مُسَمّى يقول جلّ ثناؤه: ولولا قول سبق يا محمد من ربك لا يعاجلهم بالعذاب, ولكنه أخر ذلك إلى أجل مسمى, وذلك الأجل المسمى فيما ذُكر: يوم القيامة. ذكر من قال ذلك:
23659ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكْ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال: يوم القيامة.
وقوله: لقضي بينهم يقول: لفرغ ربك من الحكم بين هؤلاء المختلفين في الحقّ الذي بعث به نبيه نوحاً من بعد علمهم به, بإهلاكه أهل الباطل منهم, وإظهاره أهل الحق عليهم.
وقوله: وإنّ الّذِينَ أُورثُوا الكِتابَ مِنْ بَعْدَهِمْ يقول: وإن الذين أتاهم الله من بعد هؤلاء المختلفين في الحقّ كتابه التوراة والإنجيل لَفِي شَكْ مِنْهُ مُرِيبٌ يقول: لفي شكّ من الدين الذين وصّى الله به نوحاً, وأوحاه إليك يا محمد, وأمركما بإقامته مريب. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: وَإنّ الّذِينَ أُورثُوا الكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23660ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: وَإنّ الّذِينَ أُورِثُوا الكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ قال: اليهود والنصارى.
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللّهُ رَبّنَا وَرَبّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
يقول تعالى ذكره: فإلى ذلك الدين الذي شَرَع لكم, ووصّى به نوحاً, وأوحاه إليك يا محمد, فادع عباد الله, واستقم على العمل به, ولا تَزِغ عنه, واثبتْ عليه كما أمرك ربك بالاستقامة. وقيل: فلذلك فادع, والمعنى: فإلى ذلك, فوضعت اللام موضع إلى, كما قيل: بأنّ رَبّكَ أوْحَى لَهَا. وقد بيّنا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا.
وكان بعض أهل العربية يوجه معنى ذلك, في قوله: فَلِذَلكَ فادْعُ إلى معنى هذا, ويقول: معنى الكلام: فإلى هذا القرآن فادع واستقم. والذي قال من هذا القول قريب المعنى مما قلناه, غير أن الذي قلنا في ذلك أولى بتأويل الكلام, لأنه في سياق خبر الله جلّ ثناؤه عما شرع لكم من الدين لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإقامته, ولم يأت من الكلام ما يدلّ على انصرافه عنه إلى غيره.
وقوله: وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَهُم يقول تعالى ذكره: ولا تتبع يا محمد أهواء الذين شكّوا في الحقّ الذي شرعه الله لكم من الذين أورثوا الكتاب من بعد القرون الماضية قبلهم, فتشك فيه, كالذي شكوا فيه وقُلْ آمَنْتُ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ مِنْ كِتابٍ يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: صدّقتُ بما أنزل الله من كتاب كائناً ما كان ذلك الكتاب, توراة كان أو أنجيلاً أو زبوراً أو صحف إبراهيم, لا أكذّب بشيء من ذلك تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب, وتصديقكم ببعض.
وقوله: وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللّهُ رَبّنا وَرَبّكُمْ يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب, فأسير فيكم جميعاً بالحقّ الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه. كالذي:
23661ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمْ قال: أمر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يعدل, فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه عليه. والعدل ميزان الله في الأرض, به يأخذ للمظلوم من الظالم, وللضعيف من الشديد, وبالعدل يصدّق الله الصادق, ويكذّب الكاذب, وبالعدل يردّ المعتدي ويوبخه.
ذُكر لنا أن نبيّ الله داود عليه السلام: كان يقول: ثلاث من كنّ فيه أعجبني جداً: القصد في الفاقة والغنى, والعدل في الرضا والغضب, والخشية في السرّ والعلانية وثلاث من كنّ فيه أهلكته: شحّ مطاع, وهوىً متبع, وإعجاب المرء بنفسه. وأربع من أُعطِيَهُنّ فقد أُعطي خير الدنيا والاَخرة: لسان ذاكر, وقلب شاكر, وبدن صابر, وزوجة مؤمنة.
واختلف أهل العربية في معنى اللام التي في قوله: وأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمْ فقال بعض نحويي البصرة: معناها: كي, وأمرت كي أعدل وقال غيره: معنى الكلام: وأمرت بالعدل, والأمر واقع على ما بعده, وليست اللام التي في لأعدل بشرط قال: وأُمِرْتُ تقع على «أن» وعلى «كي» واللام أمرت أن أعبد, وكي أعبد, ولأعبد. قال: وكذلك كلّ ما طالب الاستقبال, ففيه هذه الأوجه الثلاثة.
والصواب من القول في ذلك عندي أن الأمر عامل في معنى لأعدل, لأن معناه: وأمرت بالعدل بينكم.
وقوله: اللّهُ رَبّنا وَرَبّكُمْ يقول: الله مالكنا ومالككم معشر الأحزاب من أهل الكتابين التوراة والإنجيل لنَا أعمالُنا ولَكُمْ أعمالُكُمْ يقول: لنا ثواب ما اكتسبناه من الأعمال, ولكم ثواب ما اكتسبتم منها.
وقوله: لا حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ يقول: لا خصومة بيننا وبينكم. كما:
23662ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال حدثنا ورقاء جميعاً, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: لا حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ قال: لا خصومة.
23663ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله عزّ وجلّ: لا حُجّةَ بَيْنَا وَبَيْنَكُمْ: لا خصومة بيننا وبينكم, وقرأ: وَلا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ... إلى آخر الاَية.
وقوله: اللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يقول: الله يجمع بيننا يوم القيامة, فيقضي بيننا بالحقّ فيما اختلفنا فيه وإلَيْهِ المَصِيرُ يقول: وإليه المعاد والمرجع بعد مماتنا.
الآية : 15
!!!========== غير موجودة فى الأصل ============!!!