تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 487 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 487

486

33- "إن يشأ يسكن الريح". قرأ الجمهور بهمز يشأ وقرأ ورش عن نافع بلا همز. وقرأ الجمهور "الريح" بالإفراد، وقرأ نافع "الرياح" على الجمع: أي يسكن الريح التي بها السفن "فيظللن" أي السفن "رواكد" أي سواكن ثوابت "على ظهره" البحر. يقال ركد الماء ركوداً: سكن، وكذلك ركدت الريح وركدت السفينة وكل ثابت في مكان فهو راكد. قرأ الجمهور "فيظللن" بفتح اللام الأولى، وقرأ قتادة بكسرها وهي لغة قليلة "إن في ذلك" الذي ذكر من أمر السفن "لآيات" دلالات عظيمة "لكل صبار شكور" أي لكل من كان كثير الصبر على البلوى كثير الشكر على النعماء. قال قطرب: الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر. قال عون بن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر وكم من مبتلى غير صابر
34- "أو يوبقهن بما كسبوا" معطوف على يسكن: أي يهلكهن بالغرق، والمراد أهلهن بما كسبوا من الذنوب. وقيل بما أشركوا. والأول أولى، فإنه يهلك في البحر المشرك وغير المشرك، يقال أوبقه: أي أهلكه "ويعف عن كثير" من أهلها بالتجاوز عن ذنوبهم فينجيهم من الغرق. قرأ الجمهور "يعف" بالجزم عطفاً على جواب الشرط. قال القشيري: وفي هذه القراءة إشكال لأن المعنى: إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكد أو يهلكها بذنوب أهلها فلا يحسن عطف يعف على هذا، لأنه يصير المعنى: إن يشأ يعف وليس المعنى ذلك، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى، وقد قرأ قوم ويعفو بالرفع وهي جيدة في المعنى. قال أبو حيان: وما قاله ليس بجيد إذ لم يفهم مدلول التركيب، والمعنى: إلا أنه تعالى أهلك ناساً وأنجى ناساً على طريق العفو عنهم، وقرأ الأعمش ويعفو بالرفع، وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار أن بعد الواو كما في قول النابغة: فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام وتأخذ بعـده بذنـاب عيـش أجب الظهر ليس له سـنام بنصب وتأخذ.
35- "ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص" قرأ الجمهور بنصب "يعلم" قال الزجاج: على الصرف، قال: ومعنى الصرف صرف العطف على اللفظ إلى العطف على المعنى، قال: وذلك أنه لما لم يحسن عطف ويعلم مجزوماً على ما قبله إذ يكون المعنى: إن يشأ بعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله، ولا يتأتى ذلك إلا بإضمار أن لتكون مع الفعل في تأويل اسم، ومن هذا بيتا النابغة المذكوران قريباً، وكما قال الزجاج: قال المبرد وأبو علي الفارسي: واعترض على هذا الوجه بما لا طائل تحته. وقيل النصب على العطف على تعليل محذوف والتقدير: لينتقم منهم ويعلم. واعترضه أبو حيان بأنه ترتيب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن تقدير لينتقم منهم. وقرأ نافع وابن عامر برفع "يعلم" على الاستئناف وهي قراءة ظاهرة المعنى واضحة اللفظ. وقرئ بالجزم عطفاً على المجزوم قبله على معنى: وإن يشأ يجمع بين الإهلاك والنجاة والتحذير، ومعنى "ما لهم من محيص" ما لهم من فرار ولا مهرب، قاله قطرب. وقال السدي: ما لهم من ملجأ، وهو مأخوذ من قولهم حاص به البعير حيصة: إذا رمى به، ومنه قولهم فلان يحيص عن الحق: أي يميل عنه.
36- "فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا" لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد ذكر التنفير عن الدنيا: أي ما أعطيتم من الغنى والسعة في الرزق فإنما هو متاع قليل في أيام قليلة ينقضي ويذهب. ثم رغبهم في ثواب الآخرة وما عند الله من النعيم المقيم فقال: "وما عند الله خير وأبقى" أي ما عند الله من ثواب الطاعات والجزاء عليها بالجنات خير من متاع الدنيا وأبقى لأنه دائم لا ينقطع، ومتاع الدنيا ينقطع بسرعة. ثم بين سبحانه لمن هذا فقال: "للذين آمنوا" أي صدقوا وعملوا على ما يوجبه الإيمان "وعلى ربهم يتوكلون" أي يفوضون إليه أمورهم ويعتمدون عليه في كل شؤونهم لا على غيره.
37- "والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش" الموصول في محل جر معطوف على الذين آمنوا أو بدلاً منه أو في محل نصب بإضمار: أعني والأول: أولى، والمعنى: أن ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وللذين يجتنبون. والمراد بكبائر الإثم: الكبائر من الذنوب، وقد قدمنا تحقيقها في سورة النساء. قرأ الجمهور "كبائر" بالجمع، وقرأ حمزة والكسائي "كبير" بالإفراد وهو يفيد مفاد الكبائر، لأن الإضافة للجنس كاللام. والفواحش هي من الكبائر ولكنها مع وصف كونها فاحشة كأنها فوقها، وذلك كالقتل والزنا ونحو ذلك. وقال مقاتل: الفواحش موجبات الحدود. وقال السدي: هي الزنا "وإذا ما غضبوا هم يغفرون" أي يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم ويكظمون الغيظ ويحملون على من ظلمهم، وخص الغضب بالغفران لأن استيلاءه على طبع الإنسان وغلبته عليه شديدة، فلا يغفر عند سورة الغصب إلا من شرح الله صدره وخصه بمزية الحلم، ولهذا أثنى الله سبحانه عليهم بقوله في آل عمران "والكاظمين الغيظ" قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين: صنفاً يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم، وصنفاً ينتصرون من ظالمهم وهم الذين سيأتي ذكرهم.
38- "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة" أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه وأقاموا ما أوجبه عليهم من فريضة الصلاة. قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم إثنى عشر نقيباً منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها "وأمرهم شورى بينهم" أي يتشاورون فيما بينهم ولا يعجلون ولا ينفردون بالرأي، والشورى مصدر شاورته مثل البشرى والذكرى. قال الضحاك: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وورود النقباء إليهم حين اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له. وقيل المراد تشاورهم في كل أمر يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم على بعض برأي، وما أحسن ما قاله بشار بن برد: إذا بلـغ الـرأي المشـورة فاســتعن برأي نصيح أو نصيحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة فريـش الحـوافي قـوة للقوادم وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في أموره وأمره الله صبحانه بذلك فقال "وشاورهم في الأمر" وقد قدمنا في آل عمران كلاماً في الشورى "ومما رزقناهم ينفقون" أي ينفقونه في سبيل الخير ويتصدقون به على المحاويج.
ثم ذكر سبحانه الطائفة التي تنتصر ممن ظلمها فقال: 39- "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون" أي أصابهم بغي من بغى عليهم بغير حق، ذكر سبحانه هؤلاء المنتصرين في معرض المدح كما ذكر المغفرة عند الغضب في معرض المدح لأن التذلل لمن بغى ليس من صفات من جعل الله له العزة حيث قال "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" فالانتصار عند البغي فضيلة، كما أن العفو عند الغضب فضيلة. قال النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء.
ولكن هذا الانتضار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله له وعدم مجاوزته كما بينه سبحانه عقب هذا بقوله: 40- "وجزاء سيئة سيئة مثلها" فبين سبحانه أن العدل في الانتصار هو الاقتصار على المساواة، وظاهر هذا العموم. وقال مقاتل والشافعي وأبو حنيفة وسفيان: إن هذا خاص بالمجروح ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره. وقال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح إذا قال أخزاك الله يقول أخزاك الله من غير أن يعتدي، وتسمية الجزاء سيئة إما لكونها تسوء من وقعت عليه أو على طريق المشاكلة لتشابهما في الصورة. ثم لما بين سبحانه أن جزاء السيئة بمثلها حق جائز بين فضيلة العفو فقال: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" أي من عفا عمن ظلمه وأصلح بالعفو بينه وبين ظالمه: أي أن الله سبحانه يأجره على ذلك، وأبهم الأجر تعظيماً لشأنه وتنبيهاً على جلالته. قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة، وقد بينا هذا في سورة آل عمران. ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هي سبب الفوز والنجاة فقال: "إنه لا يحب الظالمين" أي المبتدئين بالظلم قال مقاتل: يعني من يبدأ بالظلم، وبه قال سعيد بن جبير. وقيل لا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد فيه لأن المجاوزة ظلم.
41- "ولمن انتصر بعد ظلمه" مصدر مضاف إلى المفعول: أي بعد أن ظلمه الظالم له، واللام هي لام الابتداء. وقال ابن عطية: هي لام القسم، والأول أولى. ومن هي الشرطية وجوابه "فأولئك ما عليهم من سبيل" بمؤاخذة وعقوبة، ويجوز أن تكون من هي الموصولة ودخلت الفاء في جوابها تشبيهاً للموصولة بالشرطية، والأول أولى.
ولما نفى سبحانه السبيل على من انتصر بعد ظلمه بين من عليه السبيل فقال: 42- "إنما السبيل على الذين يظلمون الناس" أي يتعدون عليهم ابتداء كذا قال الأكثر. وقال ابن جريج: أي يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم "ويبغون في الأرض بغير الحق" أي يعملون في النفوس والأموال بغير الحق كذا قال الأكثر. وقال مقاتل: بغثهم عملهم بالمعاصي، وقيل يتكبرون ويتجبرون. وقال أبو مالك: هو ما يرجوه أهل مكة أن يكون بمكة غير الإسلام ديناً، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الذين يظلمون الناس وهو مبتدأ، وخبره " لهم عذاب أليم " أي لهم بهذا السبب عذاب شديد الألم.
ثم رغب سبحانه في الصبر والعفو فقال: 43- "ولمن صبر وغفر" أي صبر على الأذى وغفر لمن ظلمه ولم ينتصر، والكلام في هذه اللام ومن كالكلام في "ولمن انتصر"، "إن ذلك" الصبر والمغفرة "لمن عزم الأمور" أي أن ذلك منه فحذف لظهوره، كما في قولهم: السمن منوان بدرهم قال مقاتل: من الأمور التي أمر الله بها. وقال الزجاج: الصابر يؤتى بصبره ثواباً، فالرغبة في الثواب أتم عزماً. قال ابن زيد: إن هذا كله منسوخ بالجهاد وأنه خاص بالمشركين. وقال قتادة: إنه عام، وهو ظاهر النظم القرآني "ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده" أي فما له من أحد يلي هدايته وينصره، وظاهر الآية العموم، وقيل هي خاصة بمن أعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعمل بما دعاه إليه من الإيمان بالله والعمل بما شرعه، والأول أولى. وقد أخرج أحمد وابن راهويه وابن منيع وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن علي بن أبي طالب قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" وسأفسرها لك يا علي: ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه. وأخرج عبد بن حميد والترمذي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصيب عبداً نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، وقرأ "وما أصابكم" الآية". وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الكفارات وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين أنه دخل عليه بعض أصحابه، وكان قد ابتلي في جسده، فقال: إنا لنبتئس لك لما نرى فيك، قال: فلا تبتئس لما ترى، فإن ما ترى بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، ثم تلا هذه الآية "وما أصابكم من مصيبة" إلى آخرها. وأخرج أحمد عن معاوية بن أبي سفيان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله عنه به سيئاته". وأخرج ابن مردويه عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عثرة قدم ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله أكثر". وأخرج ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله: "فيظللن رواكد على ظهره" قال: يتحركن ولا يجرين في البحر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: رواكد قال: وقوفاً "أو يوبقهن" قال: يهلكهن. وأخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة. قالت "دخلت علي زينب وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت علي فسبتني، فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فلم تنته، فقال لي. سبيها، فسببتها حتى جف ريقها في فمها، ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل سروراً". وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المستبان ما قالا من شيء فعلى البادئ حتى يعتدي المظلوم". ثم قرأ "وجزاء سيئة سيئة مثلها". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي ألا ليقم من كان له على الله أجر، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا". وذلك قوله: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله". وأخرج البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينادي مناد من كان له أجر على الله فليدخل الجنة مرتين، فيقوم من عفا عن أخيه، قال الله: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله"".
قوله: 44- "وترى الظالمين" أي المشركين المكذبين بالبعث "لما رأوا العذاب" أي حين نظروا النار، وقيل نظروا ما أعده الله لهم عند الموت "يقولون هل إلى مرد من سبيل" أي هل إلى الرجعة إلى الدنيا من طريق.