تفسير الطبري تفسير الصفحة 487 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 487
488
486
 الآية : 32-33
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلاَمِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىَ ظَهْرِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ }.
يقول تعالى ذكره: ومن حجج الله أيها الناس عليكم بأنه القادر على كلّ ما يشاء, وأنه لا يتعذّر عليه فعل شيء أراده, السفن الجارية في البحر. والجواري: جمع جارية, وهي السائرة في البحر. كما:
23716ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: الجَوَارِ في البَحْرِ قال: السفن.
23717ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَمِنْ آياتِهِ الجَوارِ في البَحْرِ قال: الجواري: السفن.
وقوله: كالأعْلامِ يعني كالجبال: واحدها علم ومنه قول الشاعر:
كأنّه عَلَمٌ فِي رأسِهِ نارُ
يعني: جَبَل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23718ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد كالأعْلامِ قال: كالجبال.
23719ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: الأعلام: الجبال.
وقوله: إنْ يَشأْ يُسْكِنِ الرّيح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ يقول تعالى ذكره: إن يشأ الله الذي قد أجرى هذه السفن في البحر أن لا تجري فيه, أسكن الريح التي تجري بها فيه, فثبتن في موضع واحد, ووقفن على ظهر الماء لا تجري, فلا تتقدّم ولا تتأخر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23720ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَمِنْ آياتِهِ الجَوارِ فِي البَحْرِ كالأعْلام, إنْ يَشأْ يُسْكِنِ الرّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ سفن هذا البحر تجرى بالريح فإذا أمسكت عنها الريح ركدت, قال الله عزّ وجلّ: إنّ فِي ذلك لاَياتٍ لكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ.
23721ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ إنْ يَشأْ يُسْكِنِ الرّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ لا تجري.
23722ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ يقول: وقوفا.
وقوله: إنّ في ذلكَ لاََياتٍ لِكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ يقول: إن في جري هذه الجواري في البحر بقُدرة الله لعظة وعبرة وحجة بينة على قُدرة الله على ما يشاء, لكل ذي صبر على طاعة الله, شكور لنِعمه وأياديه عنده.
الآية : 34-36
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مّن مّحِيصٍ * فَمَآ أُوتِيتُمْ مّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ لِلّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: أو يوبقْ هذه الجواري في البحر بما كسبت ركبانها من الذنوب, واجترموا من الاَثام, وجزم يوبقهنّ, عطفا على يُسْكِنِ الرّيحِ ومعنى الكلام إن يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره, أَوْ يُوبِقْهُنّ ويعني بقوله: أَوْ يُوبِقْهُنّ أو يهلكهنّ بالغرق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23723ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثنا معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: أوْ يُوبِقْهُنّ يقول: يهلكهنّ.
23724ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: أوْ يُوبِقْهُنّ: أو يهلكهنّ.
23725ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ أو يُوبِقْهُنّ قال: يغرقهن بما كسبوا. وبنحو الذي قلنا في قوله: بِمَا كَسَبُوا قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23726ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أوْ يُوبِقْهُنّ بِمَا كَسَبُوا: أي بذنوب أهلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة أوْ يُوبِقْهُنّ بِمَا كَسَبُوا قال: بذنوب أهلها.
23727ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أوْ يُوبِقْهُنّ بِمَا كَسَبوا قال: يوبقهنّ بما كسبت أصحابهنّ.
وقوله: وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ يقول: ويصفح تعالى ذكره عن كثير من ذنوبكم فلا يعاقب عليها.
وقوله: وَيَعْلَمَ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا يقول جلّ ثناؤه: ويعلم الذين يخاصمون رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من المشركين في آياته وعبره وأدلته على توحيده.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة «وَيَعْلَمُ الّذِينَ» رفعا على الاستئناف, كما قال في سورة براءة: وَيَتُوبُ اللّهُ على مَنْ يَشاءُ وقرأته قرّاء الكوفة والبصرة وَيَعْلَمَ الّذِينَ نصبا كما قال في سورة آل عمران وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ على الصرف وكما قال النابغة:
فإنْ يَهْلِكْ أبو قابُوسَ يَهْلِكْرَبِيعُ النّاسِ والشّهْرُ الحَرَامُ
وَنُمْسِكَ بَعْدَهُ بذَناب عَيْشٍأجَبّ الظّهْرِ لَهُ سَنامُ
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ولغتان معروفتان, متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ يقول تعالى ذكره: ما لهم من محيد من عقاب الله إذا عاقبهم على ذنوبهم, وكفرهم به, ولا لهم منه ملجأ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23728ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط عن السديّ, قوله: ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ: ما لهم من ملجأ.
وقوله: فَمَا أُوتِيُتمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدّنيْا يقول تعالى ذكره: فما أعطيتم أيها الناس من شيء من رياش الدنيا من المال والبنين, فمتاع الحياة الدنيا, يقول تعالى ذكره: فهو متاع لكم تتمتعون به في الحياة الدنيا, وليس من دار الاَخرة, ولا مما ينفعكم في معادكم وَما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وأبْقَى يقول تعالى ذكره: والذي عند الله لأهل طاعته والإيمان به في الاَخرة, خير مما أوتيتموه في الدنيا من متاعها وأبقى, لأن ما أوتيتم في الدنيا فإنه نافد, وما عند الله من النعيم في جنانه لأهل طاعته باقٍ غير نافد لِلّذِينَ آمنوا: يقول: وما عند الله للذين آمنوا به, وعليه يتوكلون في أمورهم, وإليه يقومون في أسبابهم, وبه يثقون, خير وأبقى مما أوتيتموه من متاع الحياة الدنيا.
الآية : 37-38
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وما عند الله للذين آمنوا وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ, وكبائر فواحش الإثم, قد بيّنا اختلاف أهل التأويل فيها وبيّنا الصواب من القول عندنا فيها في سورة النساء, فأغنى ذلك عن إعادته ها هنا. وَالفَوَاحِشَ قيل: إنها الزنى: ذكر من قال ذلك:
23729ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ والفَوَاحِشَ قال: الفواحش: الزنى واختلفت القرّاء في قراءة قوله: كَبائِرَ الإثْمِ فقرأته عامة قرّاء المدينة على الجماع كذلك في النجم, وقرأته عامة قرّاء الكوفة «كَبِيرَ الإثْمِ» على التوحيد فيهما جميعا وكأن من قرأ ذلك كذلك, عنى بكبير الإثم: الشرك, كما كان الفرّاء يقول: كأني أستحب لمن قرأ كبائر الإثم أن يخفض الفواحش, لتكون الكبائر مضافة إلى مجموع إذ كانت جمعا, وقال: ما سمعت أحدا من القرّاء خفض الفواحش.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء على تقارب معنييهما, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: وَإذَا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ يقول تعالى ذكره: وإذا ما غضبوا على من اجترم إليهم جرما, هم يغفرون لمن أجرم إليهم ذنبه, ويصفحون عنه عقوبة ذنبه.
وقوله: وَالّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبّهِمْ وأقامُوا الصّلاةَ يقول تعالى ذكره: والذين أجابوا لربهم حين دعاهم إلى توحيده, والإقرار بوحدانيته والبراءة من عبادة كل ما يعبد دونه وأقامُوا الصّلاةَ المفروضة بحدودها في أوقاتها وأمْرهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ يقول: وإذا حزبهم أمر تشاوروا بينهم, ومِمّا رَزْقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يقول: ومن الأموال التي رزقناهم ينفقون في سبيل الله, ويؤدّون ما فرض عليهم من الحقوق لأهلها من زكاة ونفقة على من تجب عليه نفقته. وكان ابن زيد يقول: عنى بقوله: وَالّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبّهِمْ... الاَية الأنصار.
23730ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, وقرأ وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْم والفَوَاحِشَ وَإذَا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ قال: فبدأ بهم وَالّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبّهِمْ الأنصار وأقامُوا الصّلاةَ وليس فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ليس فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا.
الآية : 39-40
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: والذين إذا بغى عليهم باغٍ, واعتدى عليهم هم ينتصرون.
ثم اختلف أهل التأويل في الباغي الذي حمد تعالى ذكره, المنتصر منه بعد بغيه عليه, فقال بعضهم: هو المشرك إذا بغى على المسلم. ذكر من قال ذلك:
23731ـ حدثني يونس, قال: أخبرني ابن وهب قال: قال ابن زيد: ذكر المهاجرين صنفين, صنفا عفا, وصنفا انتصر, وقرأ وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَوَاحِشَ وَإذَا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ قال: فبدأ بهم وَالّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبّهِمْ... إلى قوله: ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وهم الأنصار. ثم ذكر الصنف الثالث فقال: وَالّذِينَ إذَا أصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ من المشركين. وقال آخرون: بل هو كل باغٍ بغي فحمد المنتصر منه. ذكر من قال ذلك:
23732ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: وَالّذِينَ إذَا أصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ قال: ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا.
وهذا القول الثاني أولى في ذلك بالصواب, لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى, بل حمد كلّ منتصر بحقّ ممن بغى عليه.
فإن قال قائل: وما في الانتصار من المدح؟ قيل: إن في إقامة الظالم على سبيل الحقّ وعقوبته بما هو له أهل تقويما له, وفي ذلك أعظم المدح.
وقوله: وَجَزاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُها وقد بيّنا فيما مضى معنى ذلك, وأن معناه: وجزاء سيئة المسيء عقوبته بما أوجبه الله عليه, فهي وإن كانت عقوبة من الله أوجبها عليه, فهي مَساءة له. والسيئة: إنما هي الفعلة من السوء, وذلك نظير قول الله عزّ وجلّ وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ فَلا يُجْزَى إلاّ مِثْلَها وقد قيل: إن معنى ذلك: أن يجاب القائل الكلمة القزعة بمثلها. ذكر من قال ذلك:
23733ـ حدثني يعقوب, قال: قال لي أبو بشر: سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله: وَجَزاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُها قال: يقول أخزاه الله, فيقول: أخزاه الله.
23734ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُها قال: إذا شتمك بشتيمة فاشتمه مثلها من غير أن تعتدي. وكان ابن زيد يقول في ذلك بما:
23735ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في: وَالّذِينَ إذَا أصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ من المشركين وَجَزاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُها, فَمَنْ عَفا وأصْلَحَ... الاَية, ليس أمركم أن تعفوا عنهم لأنه أحبهم وَلَمَنِ انْتَصَر بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ, ثم نسخ هذا كله وأمره بالجهاد, فعلى قول ابن زيد هذا تأويل الكلام: وجزاء سيئة من المشركين إليكم, سيئة مثلها منكم إليهم, وإن عفوتم وأصلحتم في العفو, فأجركم في عفوكم عنهم إلى الله, إنه لا يحبّ الكافرين وهذا على قوله كقول الله عزّ وجلّ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ, وَاتّقُوا اللّهَ, وللذي قال من ذلك وجه. غير أن الصواب عندنا: أن تحمل الاَية على الظاهر ما لم ينقله إلى الباطن ما يجب التسليم له, وأن لا يحكم لحكم في آية بالنسخ إلا بخبر يقطع العذر, أو حجة يجب التسليم لها, ولم تثبت حجة في قوله: وَجَزاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُها أنه مراد به المشركون دون المسلمين, ولا بأن هذه الاَية منسوخة, فنسلم لها بأن ذلك كذلك.
وقوله: فَمَنْ عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ على اللّهِ يقول جلّ ثناؤه: فمن عفا عمن أساء إليه إساءته إليه, فغفرها له, ولم يعاقبه بها, وهو على عقوبته عليها قادر ابتغاء وجه الله, فأجر عفوه ذلك على الله, والله مثيبه عليه ثوابه إنّهُ لا يُحِبّ الظّالِمِينَ يقول: إن الله لا يحبّ أهل الظلم الذين يتعدّون على الناس, فيسيئون إليهم بغير ما أذن الله لهم فيه.
الآية : 41-42
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ * إِنّمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: ولمن انتصر ممن ظلمه من بعد ظلمه إياه فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ يقول: فأولئك المنتصرون منهم لا سبيل للمنتصر منهم عليهم بعقوبة ولا أذى, لأنهم انتصروا منهم بحقّ, ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك له عليه, ولم يتعدّ, لم يظلم, فيكون عليه سبيل.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك, فقال بعضهم: عني به كلّ منتصر ممن أساء إليه, مسلما كان المسيء أو كافرا. ذكر من قال ذلك:
23736ـ حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: حدثنا معاذ, قال: حدثنا ابن عون, قال: كنت أسأل عن الانتصار وَلَمن انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ... الاَية, فحدثني عليّ بن زيد بن جدعان, عن أمّ محمد امرأة أبيه, قال ابن عون: زعموا أنها كانت تدخل على أمّ المؤمنين قالت: قالت أمّ المؤمنين: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعندنا زينب بنت جحش, فجعل يصنع بيده شيئا, ولم يفطن لها, فقلت بيدي حتى فطّنته لها, فأمسك, وأقبلت زينب تقحم لعائشة, فنهاها, فأبت أن تنتهي, فقال لعائشة: «سُبيها» فسبتها وغلبتها وانطلقت زينب فأتت عليا, فقالت: إن عائشة تقع بكم وتفعل بكم, فجاءت فاطمة, فقال لها: «إنها حِبّة أبيك ورَبّ الكَعْبَة», فانصرفت وقالت لعليّ: إني قلت له كذا وكذا, فقال كذا وكذا قال: وجاء عليّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فكلّمه في ذلك.
23737ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَمَنِ انْتَصَر بَعْدَ ظُلْمِهِ... الاَية, قال: هذا في الخمش يكون بين الناس.
23738ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ قال: هذا فيما يكون بين الناس من القصاص, فأما لو ظلمك رجل لم يحلّ لك أن تظلمه.
وقال آخرون: بل عُنِي به الانتصار من أهل الشرك, وقال: هذا منسوخ. ذكر من قال ذلك:
23739ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلَمَنِ انْتَصَر بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ قال: لمن انتصر بعد ظلمه من المؤمنين انتصر من المشركين وهذا قد نسخ, وليس هذا في أهل الإسلام, ولكن في أهل الإسلام الذي قال الله تبارك وتعالى: ادْفَعْ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ, فإذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كأنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ.
والصواب من القول أن يقال: إنه معنيّ به كلّ منتصر من ظالمه, وأن الاَية محكمة غير منسوخة للعلة التي بينت في الاَية قبلها.
وقوله: إنّمَا السّبِيلُ على الّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ يقول تبارك وتعالى: إنما الطريق لكم أيها الناس على الذين يتعدّون على الناس ظلما وعدوانا, بأن يعاقبوهم بظلمهم لا على من انتصر ممن ظلمه, فأخذ منه حقه.
وقوله: وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بغَيْرِ الحَقّ يقول: ويتجاوزون في أرض الله الحدّ الذي أباح لهم ربهم إلى ما لم يأذن لهم فيه, فيفسدون فيها بغير الحقّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يقول: فهؤلاء الذين يظلمون الناس, ويبغون في الأرض بغير الحقّ, لهم عذاب من الله يوم القيامة في جهنم مؤلم موجع.
الآية : 43-44
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ * وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظّالِمِينَ لَمّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىَ مَرَدّ مّن سَبِيلٍ }.
يقول تعالى ذكره: ولمن صبر على إساءة إليه, وغفر للمسيء إليه جرمه إليه, فلم ينتصر منه, وهو على الانتصار منه قادر ابتغاء وجه الله وجزيل ثوابه إنّ ذلكَ لِمنْ عَزْم الأُموُرِ يقول: إن صبره ذلك وغفرانه ذنب المسيء إليه, لمن عزم الأمور التي ندب إليها عباده, وعزم عليهم العمل به وَمَنْ يُضْلِل اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيّ مِنْ بَعْدِهِ يقول: ومن خذ له الله عن الرشاد, فليس له من وليّ يليه, فيهديه لسبيل الصواب, ويسدّده من بعد إضلال الله إياه وَتَرَى الظّالِمِينَ لَمّا رأَوُا العَذَابَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وترى الكافرين بالله يا محمد يوم القيامة لما عاينوا عذاب الله يقولون لربهم: هَلْ لنا يا ربّ إلى مَرَدَ مِنْ سَبِيلٍ؟ وذلك كقوله وَلَو تَرَى إذِ المُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبّهِمْ رَبّنا أبْصَرْنا وَسِمعْنا... الاَية, استعتب المساكين في غير حين الاستعتاب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23740ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: هَلْ إلى مَرَدّ مِنْ سَبِيلٍ يقول: إلى الدنيا.
واختلف أهل العربية في وجه دخول «إن» في قوله: إنّ ذَلكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ مع دخول اللام في قوله: وَلَمِنْ صَبَر وَغَفَرَ فكان نحويّ أهل البصرة يقول في ذلك: أما اللام التي في قوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وغَفَرَ فلام الابتداء, وأما إن ذلك فمعناه والله أعلم: إن ذلك منه من عزم الأمور, وقال: قد تقول: مررت بالدار الذراع بدرهم: أي الذراع منها بدرهم, ومررت ببرّ قفيز بدرهم, أي قفيز منه بدرهم. قال: وأما ابتداء «إن» في هذا الموضع, فمثل قُلْ إنّ المَوْتَ الّذِي تَفِرّونَ مِنْهُ فَإنّهُ مُلاَقِيكُمْ يجوز ابتداء الكلام, وهذا إذا طال الكلام في هذا الموضع.
وكان بعضهم يستخطيء هذا القول ويقول: إن العرب إذا أدخلت اللام في أوائل الجزاء أجابته بجوابات الأيمان بما, ولا, وإنّ واللام: قال: وهذا من ذاك, كما قال: لئن أُخْرِجُوا لا يَخْرَجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلّنّ الأدْبارَ ثُمّ لا يُنْصَرُونَ فجاء بلا وباللام جوابا للام الأولى. قال: ولو قال: لئن قمت إني لقائم لجاز ولا حاجة به إلى العائد, لأن الجواب في اليمين قد يكون فيه العائد, وقد لا يكون ألا ترى أنك تقول: لئن قمت لأقومنّ, ولا أقوم, وإني لقائم فلا تأتي بعائد. قال: وأما قولهم: مررت بدار الذراع بدرهم وببرّ قفيز بدرهم, فلا بدّ من أن يتصل بالأوّل بالعائد, وإنما يحذف العائد فيه, لأن الثاني تبعيض للأوّل مررت ببرّ بعضه بدرهم, وبعضه بدرهم فلما كان المعنى التبعيض حذف العائد. قال: وأما ابتداء «إن» في كل موضع إذا طال الكلام, فلا يجوز أن تبتديء إلا بمعنى: قل إن الموت الذي تفرّون منه, فإنه جواب للجزاء, كأنه قال: ما فررتم منه من الموت, فهو ملاقيكم. وهذا القول الثاني عندي أولى في ذلك بالصواب للعلل التي ذكرناها