تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 511 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 511

510

هي تسع وعشرون آية، وهي مدنية قال القرطبي: بالإجماع. وقد أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الفتح بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج ابن إسحاق والحاكم وصححه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة ومروان قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها وهذا لا ينافي الإجماع على كونها مدنية، لأن المراد بالسورة المدنية النازلة بعد الهجرة من مكة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مغفل قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجع فيها. وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب: هلكت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك، فقال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون قد نزل في قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال: لقد أنزلت علي سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً"" وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً" الآية إلى قوله: "فوزاً عظيماً" مرجعه من الحديبية وهم مخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحروا الهدي بالحديبية فقال: "لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعها". قوله: 1- "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً" اختلف في تعيين هذا الفتح، فقال الأكثر: هو صلح الحديبية، والصلح قد يسمى فتحاً. قال الفراء: والفتح قد يكون صلحاً، ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذراً حتى فتحه الله. قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام. قال الشعبي: لقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال قوم: إنه فتح مكة. وقال آخرون: إنه فتح خيبر. والأول أرجح، ويؤيده ما ذكرناه قبل هذا من أن السورة أنزلت في شأن الحديبية. وقيل هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح، وقيل هو ما فتح له من النبوة والدعوة إلى الإسلام، وقيل فتح الروم، وقيل المراد بالفتح في هذه الآية الحكم والقضاء، كما في قوله: "افتح بيننا وبين قومنا بالحق" فكأنه قال: إنا قضينا لك قضاء مبيناً: أي ظاهراً واضحاً مكشوفاً.
2- "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" اللام تعلقة بفتحنا، وهي لا العلة. قال ابن الأنباري: سألت أبا العباس: يعني المبرد عن اللام في قوله: "ليغفر لك الله" فقال: هي لام كي معناها: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح، فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن معنى كي، وغلط من قال ليس الفتح سبب المغفرة. وقال صاحب الكشاف: إن اللام لم تكن علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي: المغفرة، وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز. كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين، وأعراض العاجل والآجل. وهذا كلام غير جيد، فإن اللام داخلة على المغفرة فهي علة للفتح، فكيف يصح أن تكون معللة. وقال الرازي في توجيه التعليل: إن المراد بقوله: "ليغفر لك الله" التعريف بالمغفرة تقديره: إنا فتحنا لك لتعرف أنك مغفور لك معصوم. وقال ابن عطية: المراد أن الله فتح لك لكي يجعل الفتح علامة لغفرانه لك، فكأنها لام الصيرورة. وقال أبو حاتم: هي لام القسم وهو خطأ، فإن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها. واختلف في معنى قوله: "ما تقدم من ذنبك وما تأخر" فقيل ما تقدم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر بعدها قاله مجاهد وسفيان والثوري وابن جرير والواحدي وغيرهم. وقال عطاء: ما تقدم من ذنبك: يعني ذنب أبويك آدم وحواء، وما تأخر من ذنوب أمتك. وما أبعد هذا عن معنى القرآن. وقيل ما تقدم من ذنب أبيك إبراهيم، وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده، وهذا كالذي قبله. وقيل ما تقدم من ذنب يوم بدر، ما تأخر من ذنب يوم حنين، وهذا كالقولين الأولين في البعد. وقيل لو كان ذنب قديم أو حديث لغرنا لك، وقيل غي ذلك مما لا وجه له، والأول أولى. ويكون المراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى، وسمي ذنباً في حقه لجلالة قدره وإن لم يكن ذنباً في حق غيره "ويتم نعمته عليك" بإظهار دينك على الدين كله، وقيل بالجنة، وقيل بالنبوة والحكمة، وقيل بفتح مكة والطائف وخيبر، والأولى أن يكون المعنى: ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى صراط مستقيم، وهو الإسلام، ومعنى يهديك يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه.
3- "وينصرك الله نصراً عزيزاً" أي غالباً منيعاً لا يتبعه ذل.
4- "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين" أي السكون والطمأنينة بما يسره لهم من الفتح لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم "ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم" أي ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيماناً منضماً إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل. قال الكلبي: كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم وقال الربيع بن أنس: خشية مع خشيتهم. وقال الضحاك: يقيناً مع يقينهم "ولله جنود السموات والأرض" يعني الملائكة والإنس والجن والشياطين يدبر أمرهم كيف يشاء، ويسلط بعضهم على بعض ويحوط بعضهم ببعض "وكان الله عليماً" كثير العلم بليغه "حكيماً" في أفعاله وأقواله.
4- "ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار" هذه اللام متعلقة بمحذوف يدل عليه ما قبله تقديره يبتلي بتلك الجنود من يشاء، فيقبل الخير من أهله والشر ممن قضى له به ليدخل ويعذب، وقيل متعلقة بقوله: "إنا فتحنا" كأنه قال: إنا فتحنا لك ما فتحنا ليدخل ويعذب، وقيل متعلقة بينصرك: أي نصرك الله بالمؤمنين ليدخل ويعذب، وقيل متعلقة بيزدادوا: أي يزدادوا ليدخل ويعذب، والأول أولى "ويكفر عنهم سيئاتهم" أي يسترها ولا يظهرها ولا يعذبهم بها، وقدم الإدخال على التكفير مع أن الأمر بالعكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى، والمقصد الأسنى "وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً" أي ظفراً بكل مطلوب ونجاة من كل غم وجلباً لكل نفع ودفعاً لكل ضر، وقوله: "عند الله" متعلق بمحذوف على أنه حال من فوزاً، لأنه صفة في الأصل، فلما قدم صار حالاً: أي كائناً عند الله، والجملة معترضة بين جزاء المؤمنين وجزاء المنافقين والمشركين.
ثم لما فرغ مما وعد به صالحي عباده ذكر ما يستحقه غيرهم فقال: 6- "ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات" وهو معطوف على يدخل: أي يعذبهم في الدنيا بما يصل إليها من الهموم والغموم بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام وقهر المخالفين له وبما يصابون به من القهر والقتل والأسر، وفي الآخرة بعذاب جهنم. وفي تقديم المنافقين على المشركين دلالة على أنهم أشد منهم عذاباً وأحق منهم بما وعدهم الله به. ثم وصف الفريقين، فقال: "الظانين بالله ظن السوء" وهو ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يغلب وأن كلمة الكفر تعلو كلمة الإسلام. ومما ظنوه ما حكاه الله عنهم بقوله: "بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً" "عليهم دائرة السوء" أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين دائر عليهم حائق بهم، والمعنى: أن العذاب والهلاك الذي يتوقعونه للمؤمنين واقعان عليهم نازلان بهم. قال الخليل وسيبويه: السوء هنا الفساد قرأ الجمهور "السوء" بفتح السين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمها "وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً" لما بين سبحانه أن دائرة السوء عليهم في الدنيا بين ما يستحقونه مع ذلك من الغضب واللعنة وعذاب جهنم.
7- "ولله جنود السموات والأرض" من الملائكة والإنس والجن والشياطين "وكان الله عليماً حكيماً" كرر هذه الآية لقصد التأكيد، وقيل المراد بالجنود هنا جنود العذاب كما يفيده التعبير بالعزة هنا مكان العلم هنالك. وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن مجمع بن حارثة الأنصاري قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها حتى بلغنا كراع الغميم، إذ الناس يوجفون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ فقالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً"، فقال رجل: إي رسول الله أو فتح هو؟ قال: إي والذين نفس محمد بيده إنه لفتح، فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً وكان الجيش ألفاً وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهماً. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي، وكان إذا أتاه اشتد عليه، فسري عنه وبه من السرور ما شاء الله فأخبرنا أنه أنزل عليه "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً" وأخرج البخاري وغيره عن أنس في قوله: "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً" قال: الحديبية. وأخرج البخاري وغيره عن البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ""إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً" قال: فتح مكة" وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن المغيرة بن شعبة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: أفلا أكون عبداً شكوراً" وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين" قال: السكينة هي الرحمة وفي قوله: "ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم" قال: إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا بها زادهم الجهاد. ثم أكمل لهم دينهم فقال: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ". قال ابن عباس: "فأوثق إيمان أهل السماء وأهل الأرض وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود "ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم" قال: تصديقاً مع تصديقهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" مرجعه من الحديبية. قال: "لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي مما على الأرض ثم قرأها عليهم. فقالوا: هنيئاً مريئاً يا رسول الله، قد بين الله لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار " حتى بلغ "فوزاً عظيماً"".
قوله: 8- "إنا أرسلناك شاهداً" أي على أمتك بتبليغ الرسالة إليهم "ومبشراً" بالجنة للمطيعين "ونذيراً" لأهل المعصية.
9- "لتؤمنوا بالله ورسوله" قرأ الجمهور "لتؤمنوا" بالفوقية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتحتية، فعلى القراءة الأولى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته، وعلى القراءة الثانية المراد المبشرين والمنذرين، وانتصاب شاهداً ومبشراً ونذيراً على الحال المقدرة "وتعزروه وتوقروه وتسبحوه" الخلاف بين القراء في هذه الثلاثة والأفعال كالخلاف في لتؤمنوا كما سلف، ومعنى تعزروه: تعظموه وتفخموه، قاله الحسن والكلبي، والتعزيز: التعظيم والتوقير. وقال قتادة: تنصروه وتمنعوا منه. وقال عكرمة: تقاتلوا معه بالسيف، ومعنى توقروه: تعظموه. وقال السدي: تسودوه، قيل والضميران في الفعلين للنبي صلى الله عليه وسلم وهنا وقف تام، ثم يبتدئ وتسبحوه: أي تسبحوا الله عز وجل "بكرة وأصيلاً" أي غدوة وعيشة، وقيل الضمائر كلها في الأفعال الثلاثة عز وجل، فيكون معنى تعزروه وتوقروه: تثبتون له التوحيد وتنفون عنه الشركاء، وقيل تنصروا دينه وتجاهدوا مع رسوله. وفي التسبيح وجهان، أحدهما التنزيه له سبحانه من كل قبيح، والثاني الصلاة.