تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 510 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 510

509

30- "ولو نشاء لأريناكهم" أي لأعلمناكهم وعرفناكهم بأعيانهم معرفة تقوم مقام الرؤية، تقول العرب: سأريك ما أصنع: أي سأعلمك "فلعرفتهم بسيماهم" أي بعلامتهم الخاصة بهم التي يتميزون بها. قال الزجاج: المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة، وهي السيما فلعرفتهم بتلك العلامة، والفاء لترتيب المعرفة على الإراءة، وما بعدها معطوف على جواب لو وكررت في المعطوف للتأكيد، وأما اللام في قوله: "ولتعرفنهم في لحن القول" فهي جواب قسم محذوف. قال المفسرون: لحن القول فحواه ومقصده ومغزاه وما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين، وكان بعد هذا لا يتكلم منافق عنده إلا عرفه. قال أبو زيد: لحنت له اللحن: إذا قلت له قولاً يفقهه عنك ويخفى على غيره، ومنه قول الشاعر: منطق صائب وتلحن أحياناً وخير الكلام ما كان لحناً أي أحسنه ما كان تعريضاً بعهمه المخاطب ولا يفهمه غيره لفطنته وذكائه، وأصل اللحن إمالة الكلام إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض "والله يعلم أعمالكم" لا تخفى عليه منها خافية فجازيكم بها، وفيه وعيد شديد.
31- "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين" أي لنعاملنكم معاملة المختبر، وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم من امتثل الأمر بالجهاد وصبر على دينه ومشاق ما كلف به. قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة بالنون، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالتحتية فيها كلها، ومعنى "ونبلو أخباركم" نظهرها ونكشفها امتحاناً لكم ليظهر للناس من أطاع أمره الله به، ومن عصى، ومن لم يتمثل. وقرأ الجمهور "ونبلو" بنصب الواو عطفاً على قوله "حتى نعلم" وروى ورش عن يعقوب إسكانها على القطع عما قبله. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم بحقو الرحمن، فقال مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم أترضي أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت بلى. قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأوا إن شئتم "فهل عسيتم" الآية إلى قوله "أم على قلوب أقفالها"" والأحاديث في صلة الرحم كثيرة جداً. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "إن الذين ارتدوا على أدبارهم" قال: هم أهل النفاق. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم" قال: أعمالهم خبثهم والحسد الذي في قلوبهم، ثم دل الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بعد على المنافقين فكان يدعو باسم الرجل من أهل النفاق. وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري في قوله: "ولتعرفنهم في لحن القول" قال: ببغضهم علي بن أبي طالب.
قوله: 32- "إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله" المراد بهؤلاء هم المنافقون، وقيل أهل الكتاب، وقيل هم المطمعون يوم بدر من المشركين. ومعنى صدهم عن سبيل الله: منعهم للناس عن الإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم "و" ومعنى "شاقوا الرسول" عادوه وخالفوه "من بعد ما تبين لهم الهدى" أي علموا أنه صلى الله عليه وسلم نبي من عند الله بما شاهدوا من المعجزات الواضحة والحجج القاطعة "لن يضروا الله شيئاً" بتركهم الإيمان وإصرارهم على الكفر وما ضروا إلا أنفسهم "وسيحبط أعمالهم" أي يبطلها، والمراد بهذه الأعمال ما صورته صورة أعمال الخير كإطعام الطعام وصلة الأرحام وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير وإن كانت باطلة من الأصل لأن الكفر مانع، وقيل المراد بالأعمال المكائد التي نصبوها لإبطال دين الله والغوائل التي كانوا يبغونها برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله فقال: 33- "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" فيما أمرتم به من الشرائع المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله، ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم كما أبطلت الكفار أعمالها بالإصرار على الكفر فقال: "ولا تبطلوا أعمالكم" قال الحسن: أي لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي. وقال الزهري: بالكبائر. وقال الكلبي وابن جريج: بالرياء والسمعة. وقال مقاتل: بالمن. والظاهر النهي عن كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال كائناً ما كان من غير تخصيص بنوع معين.
ثم بين سبحانه أنه لا يغفر للمصرين على الكفر والصد عن سبيل الله فقال: 34- "إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم" فقيد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر، لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حياً، وظاهر الآية العموم وإن كان السبب خاصاً.
ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن والضعف فقال: 35- "فلا تهنوا" أي تضعفوا عن القتال، والوهن الضعف "وتدعوا إلى السلم" أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء منكم، فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف. قال الزجاج: منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وتدعوا بتشديد الدال من ادعى القوم وتداعوا. قال قتادة: معنى الآية: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها. واختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل إنها محكمة، وإنها ناسخة لقوله: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" وقيل منسوخة بهذه الآية. ولا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنسخ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم ابتداء ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان ولم يتواردوا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص، وجملة "وأنتم الأعلون" في محل نصب على الحال، أو مستأنفة مقررة لما قبلها من النهي: أي وأنتم الغالبون بالسيف والحجة. قال الكلبي: أي آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات، وكذا جملة قوله: "والله معكم" في محل نصب على الحال: أي معكم بالنصر والمعونة عليهم "ولن يتركم أعمالكم" أي لن ينقصكم شيئاً من [ثواب] أعمالكم، يقال وتره وتراً: إذا نقصه حقه وأصله من وترت الرجل: إذا قتلت له قريباً أو نهبت له مالاً، ويقال فلان مأتور: إذا قتل له قتيل ولم يؤخذ بدمه. قال الجوهري: أي لن ينقصكم في أعمالكم كما تقول دخلت البيت وأنت تريد في البيت. قال الفراء: هو مشتق من الوتر وهو الدخل، وقيل مشتق من الوتر وهو الفرد، فكأن المعنى: لون يفردكم بغير ثواب.
36- "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو" أي باطل وغرور لا أصل لشيء منها ولا ثبات له ولا اعتداء به "وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم" أي إن تؤمنوا بالله وتتقوا الكفر والمعاصي يؤتكم جزاء ذلك في الآخرة، والأجر والثواب على الطاعة "ولا يسألكم أموالكم" أي لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة وسائر وجوه الطاعات، بل أمركم بإخراج القليل منها وهو الزكاة. وقيل المعنى: لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله لأنه أملك لها، وهو المنعم عليكم بإعطائها. وقيل لا يسألكم أموالكم أجراً على تبليغ الرسالة كما في قوله: "ما أسألكم عليه من أجر" والأول أولى.
37- "إن يسألكموها" أي أموالكم كلها "فيحفكم" قال المفسرون: يجهدكم ويلحف عليكم بمسألة جميعها، يقال أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد، والمحفي المستقصي في السؤال، والإحفاء الاستقصاء في الكلام، ومنه إحفاء الشارب: أي استئصاله، وجواب الشرط قوله: "تبخلوا" أي إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها وتمتنعوا من الامتثال "ويخرج أضغانكم" معطوف على جواب الشرط، ولهذا قرأ الجمهور يخرج بالجزم، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بالرفع على الاستئناف، وروي عنه أنه قرأ بفتح الياء وضم الراء ورفع أضغانكم، وروي عن يعقوب الحضرمي أنه قرأ بالنون، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد بالفوقية المفتوحة مع ضم الراء. وعلى قراءة الجمهور فالفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه، أو إلى البخل المدلول عليه بتبخلوا. والأضغان: الأحقاد، والمعنى: أنها تظهر عند ذلك. قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان.
38- "ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله" أي ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون لتنفقوا في الجهاد وفي طريق الخير "فمنكم من يبخل" بما يطلب منه ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال، فكيف لا تبخلون بالكثير وهو جميع الأموال. ثم بين سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس فقال: "ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه" أي يمنعها الأجر والثواب ببخله، وبخل يتعدى بعلى تارة وبعن أخرى. وقيل إن أصله أن يتعدى بعلى ولا يتعدى بعن إلا إذا ضمن معنى الإمساك "والله الغني" المطلق المتنزه عن الحاجة إلى أموالكم "وأنتم الفقراء" إلى الله وإلى ما عنده من الخير والرحمة، وجملة "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم" معطوفة على الشرطية المتقدمة وهي وإن تؤمنوا، والمعنى: وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يستبدل قوماً آخرين يكونون مكانكم هم أطوع لله منكم "ثم لا يكونوا أمثالكم" في التولي عن الإيمان والتقوى. قال عكرمة: هم فارس والروم. وقال الحسن: هم العجم. وقال شريح بن عبيد: هم أهل اليمن، وقيل الأنصار، وقيل الملائكة، وقيل التابعون. وقال مجاهد: هم من شاء الله من سائر الناس. قال ابن جرير: والمعنى "ثم لا يكونوا أمثالكم" في البخل بالإنفاق في سبيل الله. وقد أخرج عبد بن حميد ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم" فخافوا أن يبطل الذنب العمل، ولفظ عبد بن حميد: فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم. وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول حتى نزلت "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم" فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها قلنا قد هلك، حتى نزلت هذه الآية "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاً خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئاً رجوناه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "يتركم" قال: لما نزلت "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم" قالوا من هؤلاء؟ وسلمان إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هم الفرس، هذا وقومه. وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وقد تفرد به، وفيه مقال معروف. وأخرجه عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم" فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال:هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس" وفي إسناده أيضاً مسلم بن خالد الزنجي. وأخرج ابن مردويه من حديث جابر نحوه.