تفسير الطبري تفسير الصفحة 511 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 511
512
510
 سورة الفتح
مدنية
وآياتها تسع وعشرون
بسم الله الرحمَن الرحيم
الآية : 1-3
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مّبِيناً * لّيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخّرَ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللّهُ نَصْراً عَزِيزاً }.
يعني بقوله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا يقول: إنا حكمنا لك يا محمد حكما لمن سمعه أو بلغه على من خالفك وناصبك من كفار قومك, وقضينا لك عليهم بالنصر والظفر, لتشكر ربك, وتحمده على نعمته بقضائه لك عليهم, وفتحه ما فتح لك, ولتسبحه وتستغفره, فيغفر لك بفعالك ذلك ربك, ما تقدّم من ذنبك قبل فتحه لك ما فتح, وما تأخّر بعد فتحه لك ذلك ما شكرته واستغفرته.
وإنما اخترنا هذا القول فـي تأويـل هذه الآية لدلالة قول الله عزّ وجلّ إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالفَتْح, ورأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أفْوَاجا, فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كانَ تَوّابا على صحته, إذ أمره تعالى ذكره أن يسبح بحمد ربه إذا جاءه نصر الله وفتح مكة, وأن يستغفره, وأعلمه أنه توّاب على من فعل ذلك, ففي ذلك بيان واضح أن قوله تعالى ذكره: لَيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخّرَ إنما هو خبر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام عن جزائه له على شكره له, على النعمة التي أنعم بها عليه من إظهاره له ما فتح, لأن جزاء الله تعالى عباده على أعمالهم دون غيرها.
وبعد ففي صحة الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم حتى ترِم قدماه, فقيل له: يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفَلا أكُونُ عَبْدا شَكُورا؟», الدلالة الواضحة على أن الذي قلنا من ذلك هو الصحيح من القول, وأن الله تبارك وتعالى, إنما وعد نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم غفران ذنوبه المتقدمة, فتح ما فتح عليه, وبعده على شكره له, على نعمه التي أنعمها عليه. وكذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأَسْتَغْفِرُ اللّهَ وأتُوبُ إلَيْهِ فِي كُلّ يَوْمٍ مِئَةَ مَرّةٍ» ولو كان القول في ذلك أنه من خبر الله تعالى نبيه أنه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر على غير الوجه الذي ذكرنا, لم يكن لأمره إياه بالاستغفار بعد هذه الآية, ولا لاستغفار نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ربه جلّ جلاله من ذنوبه بعدها معنى يعقل, إذ الاستغفار معناه: طلب العبد من ربه عزّ وجلّ غفران ذنوبه, فإذا لم يكن ذنوب تغفر لم يكن لمسألته إياه غفرانها معنى, لأنه من المحال أن يقال: اللهمّ اغفر لي ذنبا لم أعمله. وقد تأوّل ذلك بعضهم بمعنى: ليغفر لك ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة, وما تأخر إلى الوقت الذي قال: إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ. وأما الفتح الذي وعد الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم هذه العدة على شكره إياه عليه, فإنه فيما ذُكر الهدنة التي جرت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش بالحديبية.
وذُكر أن هذه السورة أُنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفة عن الحديبية بعد الهدنة التي جرَت بينه وبين قومه. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24330ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله: إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال: قضينا لك قضاءً مبينا.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا والفتح: القضاء.
ذكر الرواية عمن قال: هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ذكرت:
24331ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا بشر بن المفضل, قال: حدثنا داود, عن عامر إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال: الحديبية.
24332ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال: نحرُه بالحديبية وحَلْقُه.
24333ـ حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: حدثنا أبو بحر, قال: حدثنا شعبة, قال: حدثنا جامع بن شدّاد, عن عبد الرحمن بن أبي علقمة, قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لما أقبلنا من الحُديبية أعرسنا فنمنا, فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت, فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم, قال: فقلنا أيقظوه, فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «افْعَلُوا كمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ, فكذلك من نام أو نسي» قال: وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجدناها قد تعلّق خطامها بشجرة, فأتيته بها, فركب فبينا نحن نسير, إذ أتاه الوحي, قال: وكان إذا أتاه اشتدّ عليه فلما سري عنه أخبرنا أنه أُنزل عليه: إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا.
24334ـ حدثنا أحمد بن المقدام, قال: حدثنا المعتمر, قال: سمعت أبي يحدّث عن قتادة, عن أنس بن مالك, قال: لما رجعنا من غزوة الحديبية, وقد حيل بيننا وبين نسكنا, قال: فنحن بين الحزن والكآبة, قال: فأنزل الله عزّ وجلّ: إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ, وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ, ويَهْدِيَكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما, أو كما شاء الله, فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَليّ آيَةٌ أحَبّ إليّ مِنَ الدّنْيا جَمِيعا».
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن أنس بن مالك, في قوله: إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال: نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية, وقد حيل بينهم وبين نسكهم, فنحر الهدي بالحديبية, وأصحابه مخالطو الكآبة والحزن, فقال: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَليّ آيَةٌ أحَبّ إليّ مِنَ الدّنْيا جَمِيعا», فَقَرأ إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ... إلى قوله: عَزِيزا فقال أصحابه هنيئا لك يا رسول الله قد بين الله لنا ماذا يفعل بك, فماذا يفعل بنا, فأنزل الله هذه الآية بعدها لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنات جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارَ خالِدِينَ فِيها... إلى قوله: وكانَ ذلكَ عِنْدَ اللّهِ فَوْزا عَظِيما.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا همام, قال: حدثنا قتادة, عن أنس, قال: أُنزلت هذه الآية, فذكر نحوه.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أنس بنحوه, غير أنه قال في حديثه: فَقال رجل من القوم: هنيئا لك مريئا يا رسول الله, وقال أيضا: فبين الله ماذا يفعل بنبيه عليه الصلاة والسلام, وماذا يفعل بهم.
24335ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: «نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ مرجعه من الحديبية, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ نَزَلَتْ عَليّ آيَةٌ أحَبّ إليّ مِمّا عَلى الأرْضِ», ثم قرأها عليهم, فقالوا: هنيئا مريئا يا نبيّ الله, قد بين الله تعالى ذكره لك ماذا يفعل بك, فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه: لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ... إلى قوله: فَوْزا عَظِيما».
24336ـ حدثنا ابن بشار وابن المثنى, قالا: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن قتادة, عن عكرمة, قال: لما نزلت هذه الآية إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ, وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ, ويَهْدِيَكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما قالوا: هنيئا مريئا لك يا رسول الله, فماذا لنا؟ فنزلت لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها, وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ.
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: سمعت قتادة يحدّث عن أنس في هذه الآية إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال: الحديبية.
24337ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا يحيى بن حماد, قال: حدثنا أبو عوانة, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن جابر قال: ما كنا نعدّ فتح مكة إلا يوم الحديبية.
24338ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا يعلى بن عبيد, عن عبد العزيز بن سياه, عن حبيب بن أبي ثابت, عن أبي وائل, قال: تكلم سهل بن حنيف يوم صفّين, فقال: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم, لقد رأيتنا يوم الحديبية, يعني الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين, ولو نرى قتالاً لقاتلنا, فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, ألسنا على حقّ وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: «بَلى», قال: ففيم نُعطَى الدنية في ديننا, ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: «يا بْنَ الخَطّابِ, إنّي رَسُولُ الله, وَلَنْ يُضَيّعَنِي أبَدا», قال: فرجع وهو متغيظ, فلم يصبر حتى أتى أبا بكر, فقال: يا أبا بكر ألسنا على حقّ وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة, وقتلاهم في النار؟ قال: بلى, قال: ففيم نعطَى الدنية في ديننا, ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا بن الخطاب إنه رسول الله, لن يضيعه الله أبدا, قال: فنزلت سورة الفتح, فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر, فأقرأه إياها, فقال: يا رسول الله, أوَ فَتْح هو؟ قال: «نَعَمْ».
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ, قال: حدثنا أبي, عن أبيه, عن جدّه, عن الأعمش, عن أبي سفيان عن جابر, قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية.
24339ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن البراء, قال: تعدّون أنتم الفتح فتح مكة, وقد كان فتح مكة فتحا, ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية, كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة مِئة, والحديبية: بئر.
24340ـ حدثني موسى بن سهل الرملي, حدثنا محمد بن عيسى, قال: حدثنا مُجَمع بن يعقوب الأنصاريّ, قال: سمعت أبي يحدّث عن عمه عبد الرحمن بن يزيد, عن عمه مجمّع بن جارية الأنصاريّ, وكان أحد القرّاء الذين قرأوا القرآن, قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما انصرفنا عنها, إذا الناس يهزّون الأباعر, فقال بعض الناس لبعض: ما للناس, قالوا: أُوحِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا, لَيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ فقال رجل: أوَ فتحٌ هو يا رسول الله؟ قال: «نَعَمْ», «وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّهُ لَفَتْحٌ», قال: فقُسّمَت خيبر على أهل الحديبية, لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية, وكان الجيش ألفا وخمس مئة, فيهم ثلاث مئة فارس, فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما, فأعطى الفارس سهمين, وأعطى الراجل سهما.
24341ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبيّ, قال: نزلت إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا بالحديبية, وأصاب في تلك الغزوة ما لم يصبه في غزوة, أصاب أن بُويع بيعة الرضوان, وغُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر, وظهرت الروم على فارس, وبلغ الهَدْىُ مَحِله, وأُطعموا نخل خيبر, وفرح المؤمنون بتصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم, وبظهور الروم على فارس.
وقوله تعالى: وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإظهاره إياك على عدوّك, ورفعه ذكرك في الدنيا, وغفرانه ذنوبك في الاَخرة ويَهْدِيَكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما يقول: ويرشدك طريقك من الدين لا اعوجاج فيه, يستقيم بك إلى رضا ربك وَيَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْرا عَزِيزا يقول: وينصرك على سائر أعدائك, ومن ناوأك نصرا, لا يغلبه غالب, ولا يدفعه دافع, للبأس الذي يؤيدك الله به, وبالظفر الذي يمدّك به.
الآية : 4
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوَاْ إِيمَاناً مّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلّهِ جُنُودُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }.
يعني جلّ ذكره بقوله: هُوَ الّذِي أنْزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ الله أنزل السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين بالله ورسوله إلى الإيمان, والحقّ الذي بعثك الله به يا محمد. وقد مضى ذكر اختلاف أهل التأويل في معنى السكينة قبل, والصحيح من القول في ذلك بالشواهد المغنية, عن إعادتها في هذا الموضع.
لِيَزْدَادُوا إيمانا مَعَ إيمانِهِمْ يقول: ليزدادوا بتصديقهم بما جدّد الله من الفرائض التي ألزمهموها, التي لم تكن لهم لازمة إيمانا مع إيمانهم, يقول: ليزدادوا إلى أيمانهم بالفرائض التي كانت لهم لازمة قبل ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24342ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: هُوَ الّذِي أنْزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ قال: السكينة: الرحمة لِيَزْدَادُوا إيمَانا مَعَ إيمانِهِمْ قال: إن الله جلّ ثناؤه بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله, فلما صدّقوا بها زادهم الصلاة, فلما صدّقوا بها زادهم الصيام, فلما صدّقوا به زادهم الزكاة, فلما صدّقوا بها زادهم الحجّ, ثم أكمل لهم دينهم, فقال اليَوْمَ أكمَلْتُ لَكُمْ ديَنَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قال ابن عباس: فأوثق إيمان أهل الأرض وأهل السموات وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله.
وقوله: ولِلّهِ جُنُودُ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول تعالى ذكره: ولله جنود السموات والأرض أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما يقول تعالى ذكره: ولم يزل الله ذا علم بما هو كائن قبل كونه, وما خلقه عاملوه, حكيما في تدبيره.
الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللّهِ فَوْزاً عَظِيماً }.
يقول تعالى ذكره: إنا فتحنا لك فتحا مبينا, لتشكر ربك, وتحمده على ذلك, فيغفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر, وليحمد ربهم المؤمنون بالله, ويشكروه على إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم من الفتح الذي فتحه, وقضاه بينهم وبين أعدائهم من المشركين, بإظهاره إياهم عليهم, فيدخلهم بذلك جنات تجري من تحتها الأنهار, ماكثين فيها إلى غير نهاية وليكفر عنهم سيىء أعمالهم بالحسنات التي يعملونها شكرا منهم لربهم على ما قضى لهم, وأنعم عليهم به وكانَ ذلكَ عِنْدَ اللّهِ فَوْزا عَظِيما يقول تعالى ذكره: وكان ما وعدهم الله به من هذه العدة, وذلك إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار, وتكفيره سيئاتهم بحسنات أعمالهم التي يعملونها عند الله لهم فَوْزا عَظِيما يقول: ظفرا منهم بما كانوا تأمّلوه ويسعون له, ونجاة مما كانوا يحذرونه من عذاب الله عظيما. وقد تقدّم ذكر الرواية أن هذه الآية نزلت لما قال المؤمنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم, أو تلا عليهم قول الله عزّ وجلّ إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ هذا لك يا رسول الله, فماذا لنا؟ تبيينا من الله لهم ما هو فاعل بهم.
24343ـ حدثنا عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: لِيُدخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ... إلى قوله: وَيُكَفّرَ عَنُهُمْ سَيّئاتِهِمْ فأعلم الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام.
وقوله: لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ على اللام من قوله: لِيَغْفَرِ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ بتأويل تكرير الكلام إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ, إنا فتحنا لك ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار, ولذلك لم تدخل الواو التي تدخل في الكلام للعطف, فلم يقل: وليدخل المؤمنين.
الآية : 6-7
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظّآنّينَ بِاللّهِ ظَنّ السّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السّوْءِ وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدّ لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً * وَلِلّهِ جُنُودُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله, وليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار, وليعذّب المنافقين والمنافقات, بفتح الله لك يا محمد, ما فتح لك من نصرك على مشركي قريش, فيكبتوا لذلك ويحزنوا, ويخيب رجاؤهم الذي كانوا يرجون من رؤيتهم في أهل الإيمان بك من الضعف والوهن والتولي عنك في عاجل الدنيا, وصليّ النار والخلود فيها في آجل الاَخرة وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكاتِ يقول: وليعذّب كذلك أيضا المشركين والمشركات الظّانّينَ باللّهِ أنه لن ينصرك, وأهل الإيمان بك على أعدائك, ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به, وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع, يقول تعالى ذكره: على المنافقين والمنافقات, والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظنّ دائرة السوء, يعني دائرة العذاب تدور عليهم به.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الكوفة دائِرَةُ السّوْءِ بفتح السين. وقرأ بعض قرّاء البصرة «دائِرَةُ السّوءِ» بضم السين. وكان الفرّاء يقول: الفتح أفشى في السين قال: وقلما تقول العرب دائرة السّوء بضم السين, والفتح في السين أعجب إليّ من الضم, لأن العرب تقول: هو رجل سَوْء, بفتح السين ولا تقول: هو رجل سُوء.
وقوله: وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهمْ يقول: ونالهم الله بغضب منه, ولعنهم: يقول: وأبعدهم فأقصاهم من رحمته وأعَدّ لَهُمْ جَهَنّمَ يقول: وأعدّ لهم جهنم يصلونها يوم القيامة وَساءَتْ مَصِيرا يقول: وساءت جهنم منزلاً يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات, والمشركون والمشركات.
وقوله: وَلِلّهِ جُنُودُ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول جلّ ثناؤه: ولله جنود السموات والأرض أنصارا على أعدائه, إن أمرهم بإهلاكهم أهلكوهم, وسارعوا إلى ذلك بالطاعة منهم له وكانَ اللّهُ عَزيزا حَكِيما يقول تعالى ذكره: ولم يزل الله ذا عزّة, لا يغلبه غالب, ولا يمتنع عليه مما أراده به ممتنع, لعظم سلطانه وقدرته, حكيم في تدبيره خلقه.
الآية : 8-9
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً * لّتُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنّا أرْسَلْناكَ يا محمد شاهِدا على أمتك بما أجابوك فيما دعوَتهم إليه, مما أرسلتك به إليهم من الرسالة, ومُبَشّرا لهم بالجنة إن أجابوك إلى ما دعوتهم إليه من الدين القيّم, ونذيرا لهم عذاب الله إن هم تولّوْا عما جئتهم به من عند ربك.
ثم اختلفت القرّاء في قراءة قوله: لِتُؤْمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهِ فقرأ جميع ذلك عامة قرّاء الأمصار خلا أبي جعفر المدني وأبي عمرو بن العلاء, بالتاء لِتُؤْمِنُوا, وتُعَزّرُوهُ, وَتُوَقّرُوهُ, وَتُسَبّحُوهُ بمعنى: لتؤمنوا بالله ورسوله أنتم أيها الناس. وقرأ ذلك أبو جعفر وأبو عمرو كله بالياء «لِيُؤْمِنُوا, ويُعَزّرُوهُ, ويُوَقّرُوهُ, ويُسَبّحُوهُ» بمعنى: إنا أرسلناك شاهدا إلى الخلق ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزّروه.
والصواب من القول في ذلك: إن يقال: إنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24344ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدا وَمُبَشّرا وَنَذِيرا يقول: شاهدا على أمته على أنه قد بلغهم ومبشرا بالجنة لمن أطاع الله, ونذيرا من النار.
وقوله: وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ اختلف أهل التأويل في تأويله, فقال بعضهم: تجلّوه, وتعظموه. ذكر من قال ذلك:
24345ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس وَيُعَزّرُوهُ يعني: الإجلال وَيُوَقّرُوهُ يعني: التعظيم.
24346ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَيُعَزّرُوهُ وَيُوَقّرُوهُ كل هذا تعظيم وإجلال.
وقال آخرون: معنى قوله: وَيُعَزّرُوهُ: وينصروه, ومعنى وَيُوَقّرُوهُ ويفخموه. ذكر من قال ذلك:
24347ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَيُعَزّرُوهُ: ينصروه وَيُوَقّرُوهُ أمر الله بتسويده وتفخيمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: وَيُعَزّرُوهُ قال: ينصروه, ويوقروه: أي ليعظموه.
24348ـ حدثني أبو هريرة الضّبَعيّ, قال: حدثنا حرميّ, عن شعبة, عن أبي بشر, جعفر بن أبي وحشية, عن عكرِمة وَيُعَزّرُوهُ قال: يقاتلون معه بالسيف.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثني هشيم, عن أبي بشر, عن عكرِمة, مثله.
حدثني أحمد بن الوليد, قال: حدثنا عثمان بن عمر, عن سعيد, عن أبي بشر, عن عكرِمة, بنحوه.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى ومحمد بن جعفر, قالا: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن عكرِمة, مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: ويعظموه. ذكر من قال ذلك:
24349ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَيُعَزّرُوهُ وَيُوَقّرُوهُ قال: الطاعة لله.
وهذه الأقوال متقاربات المعنى, وإن اختلفت ألفاظ أهلها بها. ومعنى التعزير في هذا الموضع: التقوية بالنّصرة والمعونة, ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال.
وقد بيّنا معنى ذلك بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
فأما التوقير: فهو التعظيم والإجلال والتفخيم.
وقوله: وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلاً يقول: وتصلوا له يعني لله بالغدوات والعشيات. والهاء في قوله: وَتُسَبّحُوهُ من ذكر الله وحده دون الرسول. وقد ذُكر أن ذلك في بعض القراءات: «وَيُسَبّحُوا اللّهَ بُكْرَةً وأصِيلاً». وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24350ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة «وَيُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلاً» في بعض القراءة «ويسبّحوا الله بكرة وأصيلاً».
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة في بعض الحروف «وَيُسَبّحُوا اللّهَ بُكْرَةً وَأصِيلاً».
24351ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: «وَيُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلاً» يقول: يسبحون الله رجع إلى نفسه