تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 546 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 546

545

والإشارة بقوله: 4- "ذلك" إلى ما تقدم ذكره من الجلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة "بأنهم شاقوا الله ورسوله" أي بسبب المشاقة منهم لله ولرسوله بعدم الطاعة والميل مع الكفار ونقض العهد "ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب" اقتصر هاهنا على مشاقة الله. لأن مشاقته مشاقة لرسوله. قرأ الجمهور "يشاق" بالإدغام. وقرأ طلحة بن مصرف ومحمد بن السميفع يشاق بالفك.
5- "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله" قال مجاهد: إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل فنهاهم بعضهم، وقالوا: إنما هي مغانم للمسلمين، وقال الذين قطعوا: بل هو غيظ للعدو، فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع النخل وتحليل من قطعه من الإثم فقال: "ما قطعتم من لينة" قال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات. وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، فقال بنو النضير وهم أهل كتاب: يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض، فشق ذلك على رسول الله صلى الله علي وسلم ووجد المسلمون في أنفسهم فنزلت الآية. ومعنى الآية: أي شيء قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله، والضمير في تركتموها عائد إلى ما لتفسيرها باللينة، وكذا في قوله: "قائمة على أصولها" ومعنى على أصولها: أنها باقية على ما هي عليه. واختلف المفسرون في تفسير اللينة، فقال الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل: إنها النخل كله إلا العجوة. وقال مجاهد: إنها النخل كله ولم يستثن عجوزة ولا غيرها. وقال الثوري: هي كرام النخل. وقال أبو عليدة: إنها جميع أنواع التمر سوى العجوة والبرني. وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة، وقيل هي ضرب من النخل، يقال لتمره اللون، تمره أجود التمر. وقال الأصمعي: هي الدقل، وأصل اللينة لونة فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وجمع اللينة لين، وقيل ليان. وقرأ ابن مسعود ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماً على أصولها أي قائمة على سوقها، وقرئ على أصلها قائماً على أصوله " وليخزي الفاسقين " أي ليذل الخارجين عن الطاعة ، وهم اليهود ويغيظهم في قطعها وتركها لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف شاءوا من القطعو الترك ازدادوا غيظاً. قال الزجاج: وليخزي الفاسقين أذن في ذلك، يدل على المحذوف قوله: "فبإذن الله" وقد استدل بهذه الآية على جواز الاجتهاد وعلى تصويب المجتهدين، والبحث مستوفى في كتب الأصول.
6- "وما أفاء الله على رسوله منهم" أي ما رده عليه من أموال الكفار، يقال قد يفيء إذا رجع، والضمير في منهم عائد إلى بني النضير "فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب" يقال وجف الفرس والبعير يجف الفرس والبعير يجف وجفا: وهو سرعة السعير، وأوجفه صاحبه: إذا حمله على السير السريع، قول تميم بن مقبل: مذ [أو بد] بالبيض الحديد صقالها عن الركب أحياناً إذا الركب أوجفوا وقال نصيب: ألا رب ركب قد قطعت وجيفهم إليك ولولا أنت لم يوجف الركب وما في "فما أوجفتم" نافية، والفاء جواب الشرط إن كانت ما في قوله: "ما أفاء الله" شرطية وإن موصولة فالفاء زائدة، ومن في قوله: "من خيل" زائدة للتأكيد، والركاب ما يركب من الإبل خاصة، والمعنى: أن ما رد الله على رسوله من أموال بني النضير لم والركاب ما يركب من الإبل خاصة، والمعنى: أن مما رد الله على رسوله من أموال بني النضير لم تركبوا لتحصيله خيلاً ولا إبلاً ولا تجشمتم لها شقة ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين، فجعل الله سبحانه أموال بني النضير لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة لهذا السبب. فإنه افتتحها صلحاً وأخذ أموالها، وقد كان سأله المسلمون أن يقسم لهم فنزلت الآية "ولكن الله يسلط رسله على من يشاء" من أعدائه، وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أصحابه لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، بل مشوا إليها مشياً، ولم يقاسوا فيها شيئاً من شدائد الحروب "والله على كل شيء قدير" يسلط من يشاء على من أراد، ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون".
7- "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى" هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، والتكرير لقصد التقرير والتأكيد، ووضع أهل القرى موضع قوله: منهم أي من بني النضير للإشعار بأن هذا الحكم لا يختص ببني النضير وحدهم، بل هو حكم على كل قرية يفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحاً ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب. قيل والمراد بالقرى: بنو النضير وقريظة وفدك وخيبر. وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها؟ هل معناهما متفق أو مختلف، فقيل معناهما متفق كما ذكرنا، وقيل مختلف، وفي ذلك كلام لأهل العلم طويل. قال ابن العربي: لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات. أما الآية الأولى، وهي قوله: "وما أفاء الله على رسوله منهم" فهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم له وهي أموال بني النضير وما كان مثلها. وأما الآية الثانية، وهي قوله: "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى" فهذا كلام مبتدأ غير الأول بمستحق غير الأول وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئاً أفاءه الله على رسوله واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال، وهي الآية الثالثة أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثانية، وهي قوله: "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى" عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال، فنشأ الخلاف من هاهنا، فطائفة قالت هي ملحقة بالأولى وهي مال الصلح. وطائفة قالت هي ملحقة بالثالثة وهي آية الأنفال. والذين قالوا إنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا هل هي منسوخة أو محكمة هذا معنى حاصل كلامه. وقال مالك: إن الآية الأولى من هذه السورة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية الثانية هي في بني قريظة، ويعني أن معناها يعود إلى آية الأنفال. ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الغنيمة، وأن أربعة أخماسه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وهي بعده لصالح المسلمين "فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل" المراد بقوله: لله أنه يحكم فيه بما يشاء وللرسول يكون ملكاً له ولذي القربى وهو بنو هاشم وبنو المطلب لأنهم قد منعوا من الصدقة فجعل لهم حقاً في الفيء. قيل تكون القسمة في هذا المال على أن يكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخمسه يقسم أخماساً. للرسول خمس، ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس، وقيل يقسم أسداساً. السادس سهم الله سبحانه ويصرف إلى وجوه القرب، كعمارة المساجد ونحو ذلك " كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم " أي كيلا يكون الفيء دولة بين الأغنياء دون الفقراء، والدولة اسم للشيء يتداوله القوم بينهم، يكون لهذا مرة، ولهذا مرة. قال مقاتل: المعنى أنه يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم. قرأ الجمهور "يكون" بالتحتية "دولةً" بالنصب: أي كيلا يكون الفيء دولة. وقرأ أبو جعفر والأعرج وهشام وأبو حيان "تكون" بالفوقية " دولة " بالرفع: أي كيلا تقع أو توجد دولة، وكان تامة. وقرأ الجمهور دولة بضم الدال. وقرأ أبو حيوة والسلمي بفتحها. قال عيسى بن عمر ويونس والأصمعي هما لغتان بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة بالفتح الذي يتداول من الأموال، وبالضم الفعل. وكذا قال أبو عبيدة. ثم لما بين لهم سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" أي ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه. وما نهاكم عن أخذه فانتهوا عنه ولا تأخذوه. قال الحسن والسدي: ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه. وقال ابن جريح: ما آتاكم من طاعتي فافعلوا، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. والحق أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر أو نهي أو قول أو فعل. وإن كان السبب خاصاً فالاعتبار بعموم اللغظ لا بخصوص السبب. وكل شيء أتانا به من الشرع فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا. وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها. ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم به الرسول وترك ما نهاهم عنه أمرهم بتقواه وخوفهم شدة عقوبته. فقال: "واتقوا الله إن الله شديد العقاب" فهو معاقب من لم يأخذها ما آتاه الرسول ولم يترك ما نهاه عنه. وقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت: كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة: يعني السلاح، فأنزل الله فيهم "سبح لله ما في السموات وما في الأرض" إلى قوله: "لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا" فقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى صالحهم على الإجلاء وجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم ذلك، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، وأما قوله: "لأول الحشر" فكان إجلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام. وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: "من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر" قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: اخرجوا، قالوا إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر". وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن هلم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، وأن يسيروا إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء. وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة، ولها يقول حسان: لهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير فأنزل الله: "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين"". وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: اللينة النخلة "وليخزي الفاسقين" قال: استنزلوهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل فحك في صدورهم، فقال المسلمون: قد قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لنا فيما قطعنا أجر، وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله: "ما قطعتم من لينة" الآية، وفي الباب أحاديث، والكلام في صلح بني النضير مبسوط في كتب السير. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، ومما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب" فجعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم فيه ما أراد، ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها. قال: والإيجاف أن يوضعوا السير، وهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من ذلك خيبر وفدك وقرى عرينة. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمد لينبع، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتواها كلها، فقال ناس: هلا قسمها الله فأنزل الله عذره فقال: "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى" الآية. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: كان ما أفاء الله على رسوله من خيبر نصف لله ورسوله، والنصف الآخر للمسلمين، فكان الذي لله ورسوله من ذلك الكثيبة والوطيح وسلالم و[وحدوه]، وكان الذي للمسلمين الشق، والشق ثلاثة عشر سهماً، ونطاة خمسة أسهم، ولم يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية، ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري. وأخرج أبو داود وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفايا في النضير وخيبر وفدك، فأما بنو النضير فكانت حسباً لنوائبه، وأما فدك فكانت لابن السبيل، وأما خيبر فجزأها ثلاث أجزاء: قسم منها جزءين بين المسلمين، وحبس جزءاً لنفسه ولنفقة أهله، فما فضل عن نفقة أهله ردها على فقراء المهاجرين. وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن أبي شيبة وابن زنجويه في الأموال وعبد بن حميد وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال: ما على وجه الأرض مسلم إلا وله في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: "لعن الله الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت ابن مسعود، فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، قال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟ قالت: لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت فيه شيئاً من هذا، قال: لئن كنت قرأته لقد وجدته، أما قرأت "ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" قالت بلى، قال: فإنه قد نهى عنه".
قوله: 8- "للفقراء" قيل هو بدل من "لذي القربى" وما عطف عليه، ولا يصح أن يكون بدلاً من الرسول وما بعده لئلا يستلزم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، وقيل التقدير "كي لا يكون دولة" ولكن يكون للفقراء، وقيل التقدير: اعجبوا للفقراء، وقيل التقدير: والله شديد العقاب للفقراء: أي شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء، وقيل هو عطف على ما مضى بتقدير الواو كما تقول المال لزيد لعمر ولبكر، والمراد بـ"المهاجرين" الذين هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في الدين ونصرة له. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون هم الذين تركوا الديار والأموال والأهلين، ومعنى "أخرجوا من ديارهم" أن كفار مكة أخرجوهم منها واضطروهم إلى الخروج، وكانوا مائة رجل "يبتغون فضلاً من الله ورضواناً" أي يطلبون منه أن يتفضل عليهم بالرزق في الدنيا، وبالرضوان في الآخرة "وينصرون الله ورسوله" بالجهاد للكفار، وهذه الجملة معطوفة على يبتغون، ومحل الجملتين النصب على الحال، الأولى مقارنة، والثانية مقدرة: أي ناوين لذلك، ويجوز أن تكون حالاً مقارنة لأن خروجهم على تلك الصفة نصرة لله ورسوله، والإشارة بقوله: "أولئك" إليهم من حيث اتصافهم بتلك الصفات، وهو مبتدأ وخبره "هم الصادقون" أي الكاملون في الصدق الراسخون فيه.
ثم لما فرغ من مدح المهاجرين مدح الأنصار فقال: 9- " والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم " المراد بالدار المدينة، وهي دار الهجرة، ومعنى تبوئهم الدار والإيمان أنهم اتخذوها مباءة: أي تمكنوا منها تمكناً شديداً، والتبوأ في الأصل إنما يكون للمكان، ولكنه جعل الإيمان مثله لتمكنهم فيه تنزيلاً للحال منزلة المحل، وقيل إن الإيمان منصوب بفعل غير الفعل المذكور، والتقدير: واعتقدوا الإيمان أو وأخلصوا الإيمان كذا قال أبو علي الفارسي. ويجوز أن يكون على حذف مضاف: أي تبوأوا الدار وموضع الإيمان، ويجوز أن يكون تبوأوا مضمنا لمعنى لزموا، والتقدير: لزموا الداء والإيمان، ومعنى من قبلهم: من قبل هجرة المهاجرين فلا بد من تقدير مضاف، لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين، والموصول مبتدأ وخبره "يحبون من هاجر إليهم" وذلك لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم "ولا يجدون في صدورهم حاجة" أي لا يجد الأنصار في صدورهم حسداً وغيظاً وحزازة "مما أوتوا" أي مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء، بل طابت أنفسهم بذلك. وفي الكلام مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين من إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبين المهاجرين، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم والمشاركة لكم في أموالكن، وإن أحببتم أعطيتهم ذلك وخرجوا من دياركم، فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين وطابت أنفسهم "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" الإيثار خصصته، والمعنى: ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا "ولو كان بهم خصاصة" أي حاجة وفقر، والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت، وهي الفرج التي تكون فيه، وجملة لو كان بهم خصاصة في محل نصب على الحال، وقيل إن الخصاصة مأخوذة من الاختصاص، وهو الانفراد بالأمر، فالخصاصة الانفراد بالحاجة، ومنه قول الشاعر: إن الربيع إذا يكون خصاصة عاش السقيم به وأثري المقتر "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" قرأ الجمهور "يوق" بسكون الواو وتخفيف القاف من الوقاية. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة بفتح الواو وتشديد القاف. وقرأ الجمهور "شح نفسه" بضم الشين. وقرأ ابن عمر وابن أبي عبلة بكسرها. والشح: البخل مع حرص، كذا في الصحاح، وقيل الشح أشد من البخل. قال مقاتل: شح نفسه: حرص نفسه. قال سعيد بن جبير: شح النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة. قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ولم يمنع شيئاً أمره الله بأدائه فقد وقي شح نفسه. قال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام لا يقنع. وقال ابن عيينة: الشح الظلم. وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شح النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشح بها شرعاً من زكاة أو صدقة أو صلة رحم أو نحو ذلك كما تفيده إضافة الشح إلى النفس، والإشارة بقوله: "فأولئك" إلى من باعتبار معناها، وهو مبتدأ وخبره "هم المفلحون" والفلاح الفوز والظفر بكل مطلوب.