تفسير الطبري تفسير الصفحة 546 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 546
547
545
 الآية : 3-6
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذّبَهُمْ فِي الدّنْيَا وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابُ النّارِ * ذَلِكَ بِأَنّهُمْ شَآقّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقّ اللّهَ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىَ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ * وَمَآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـَكِنّ اللّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ عَلَىَ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
26181ـ حدثنا ابن حَميد, قال: حدثنا سلمة, قال: ثني محمد بن إسحاق, عن يزيد بن رومان وَما أفاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ يعني بني النضير فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ الله يُسَلّط رُسُلَه على مَنْ يَشاءُ وَالله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
26182ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال حدثنا ورقاء جمعيا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ قال: يذكر ربهم أنه نصرهم, وكفاهم بغير كراع, ولا عدّة في قريظة وخيبر, ما أفاء الله على رسوله من قريظة, جعلها لمهاجرة قريش.
26183ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله وَما أفاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ الله يُسَلّط رُسُلَه على مَنْ يَشاءُ وَالله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال: أمر الله عزّ وجلّ نبيه بالسير إلى قريظة والنضير وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب فجعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم فيه ما أراد, ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها. قال: والإيجاف: أن يوضعوا السير وهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان من ذلك خيبر وَفدَك وقُرًى عَرَبيةً, وأمر الله رسوله أن يعد لينبع, فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاحتواها كلها, فقال ناس: هلا قسّمها, فأنزل الله عزّ وجلّ عذره, فقال: ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أهْل القُرَى فَلِلّهِ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبى وَاليتَامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ ثم قال: وَما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا... الآية.
26184ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ يعني يوم قُرَيظة.
وقوله: وَلَكِنّ اللّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَنْ يَشاء أعلمك أنه كما سلّط محمدا صلى الله عليه وسلم على بني النضير, يخبر بذلك جلّ ثناؤه أن ما أفاء الله عليه من أموال لم يُوجِفِ المسلمون بالخيل والركاب, من الأعداء مما صالحوه عليه له خاصة يعمل فيه بما يرى. يقول: فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما صار إليه أموال بني النضير بالصلح إلا عنوة,, فتقع فيها القسمة وَاللّه على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول: والله على كلّ شيء أراده ذو قدرة لا يَعجزه شيء, وبقُدرته على ما يشاء سلّط نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على ما سلط عليه من أموال بني النضير, فحازه عليهم.
الآية : 7
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {مّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىَ فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى الذي ردّ الله عزّ وجلّ على رسوله من أموال مشركي القرى.
واختلف أهل العلم في الذي عني بهذه الآية من الألوان, فقال بعضهم: عني بذلك الجزية والخراج. ذكر من قال ذلك:
26185ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن أيوب, عن عكرمة بن خالد, عن مالك بن أوس بن الحدثان, قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ حتى بلغ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ثم قال: هذه لهؤلاء, ثم قال: وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فأنّ لِلّهِ خُمْسَهُ وللرّسُول وَلِذِي القُرْبَى... الآية, ثم قال: هذه الآية لهؤلاء, ثم قرأ: ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى حتى بلغ للْفُقَراءِ والّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ والّذِينَ جاءوا مِنْ بَعْدِهُمْ ثم قال: استوعبت هذه الآية المسلمين عامة, فليس أحد إلا له حق, ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو يسير حُمُرَه نصيبُه, لم يعرق فيها جبينه.
26186ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, قال: حدثنا معمر في قوله: ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى حتى بلغني أنها الجزية, والخراج: خَراج أهل القرى.
وقال آخرون: عني بذلك الغنيمة التي يصيبها المسلمون من عدوّهم من أهل الحرب بالقتال عنوة. ذكر من قال ذلك:
26187ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن يزيد بن رومان ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ ما يوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب, وفتح بالحرب عنوة, فَلِلّهِ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى والْيَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ كَيْلا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرّسُولَ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْه فانْتَهُوا قال: هذا قسم آخر فِيما أصيب بالحرب بين المسلمين على ما وضعه الله عليه.
وقال آخرون: عني بذلك الغنيمة التي أوجف عليها المسلمون بالخيل والركاب, وأخذت بالغلبة, وقالوا كانت الغنائم في بدوّ الإسلام لهؤلاء الذين سماهم الله في هذه الاَيات دون المرجفين عليها, ثم نسخ ذلك بالآية التي في سورة الأنفال. ذكر من قال ذلك:
26188ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, في قوله: ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى والْيَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ قال: كان الفيء في هؤلاء, ثم نسخ ذلك في سورة الأنفال, فقال: وَاعْلَمُوا أنّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى والْيَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ فنسخت هذه ما كان قبلها في سورة الأنفال, وجعل الخمس لمن كان له الفيء في سورة الحشر, وكانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس, فأربعة أخماس لمن قاتل عليها, ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس, فخمس لله وللرسول, وخمس لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته, وخمس لليتامى, وخمس للمساكين, وخمس لابن السبيل فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما هذين السهمين: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسهم قرابته, فحملا عليه في سبيل الله صدقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: عني بذلك: ما صالح عليه أهل الحرب المسلمين من أموالهم, وقالوا قوله ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرّسُولِ... الاَيات, بيان قسم المال الذي ذكره الله في الآية التي قبل هذه الآية, وذلك قوله: ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكاب وهذا قول كان يقوله بعض المتفقهة من المتأخرين.
والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه الآية حكمها غير حكم الآية التي قبلها, وذلك أن الآية التي قبلها مال جعله الله عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيره, لم يجعل فيه لأحد نصيبا, وبذلك جاء الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
26189ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الزهري, عن مالك بن أوس بن الحدثان, قال: أرسل إليّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فدخلت عليه, فقال: إنه قد حضر أهل أبيات من قومك وإنا قد أمرنا لهم برضخ, فاقسمه بينهم, فقلت: يا أمير المؤمنين مر بذلك غيري, قال: اقبضه أيها المرء فبينا أنا كذلك, إذ جاء يرفأ مولاه, فقال: عبد الرحمن بن عوف, والزبير, وعثمان, وسعد يستأذنون, فقال: ائذن لهم ثم مكث ساعة, ثم جاء فقال: هذا عليّ والعباس يستأذنان, فقال: ائذن لهما فلما دخل العباس قال: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الغادر الخائن الفاجر, وهما جاءا يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من أعمال بني النضير, فقال القوم: اقض بينهما يا أمير المؤمنين, وأرح كلّ واحد منهما من صاحبه, فقد طالت خصومتهما, فقال: أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السموات والأرض, أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نُورَثُ ما تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» قالوا: قد قال ذلك ثم قال لهما: أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك؟ قالا: نعم قال: فسأخبركم بهذا الفيء إن الله خصّ نبيه صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعطه غيره, فقال: وَما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكاب فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة, فوالله ما احتازها دونكم, ولا استأثر بها دونكم, ولقد قسمها عليكم حتى بقي منها هذا المال, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله منه سنتهم, ثم يجعل ما بقي في مال الله.
فإذَا كانت هذه الآية التي قبلها مضت, وذكر المال الذي خصّ الله به رسوله صلى الله عليه وسلم, ولم يجعل لأحد معه شيئا, وكانت هذه الآية خبرا عن المال الذي جعله الله لأصناف شتى, كان معلوما بذلك أن المال الذي جعله لأصناف من خلقه غير المال الذي جعله للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة, ولم يجعل له شريكا.
وقوله: وَلِذي القُرْبى يقول: ولذي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب واليتامى, وهم أهل الحاجة من أطفال المسلمين الذين لا مال لهم والمساكين: وهم الجامعون فاقة وذلّ المسئلة وابن السبيل: وهم المنقطع بهم من المسافرين في غير معصية الله عزّ وجلّ.
وقد ذكرنا الرواية التي جاءت عن أهل التأويل بتأويل ذلك فيما مضى من كتابنا.
وقوله: كَيْلا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأغْنِياءِ مِنْكُمْ يقول جلّ ثناؤه. وجعلنا ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى لهذه الأصناف, كيلا يكون ذلك الفيء دُولة يتداوله الأغنياء منكم بينهم, يصرفه هذا مرّة في حاجات نفسه, وهذا مرّة في أبواب البرّ وسُبُل الخير, فيجعلون ذلك حيث شاءوا, ولكننا سننا فيه سنة لا تُغير ولا تُبدّل.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى أبي جعفر القارىء كَيْلا يَكُونَ دُولَةً نصبا على ما وصفت من المعنى, وأن في يكون ذكر الفيء. وقوله: دُولَةً نصب خبر يكون, وقر ذلك أبو جعفر القارىء: «كَيْلا يَكُونَ دُولَةٌ» على رفع الدولة مرفوعة بيكون, والخبر قوله: بين الأغنياء منكم وبضمّ الدال من دُولة قرأ جميع قرّاء الأمصار, غير أنه حُكي عن أبي عبد الرحمن الفتح فيها.
وقد اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك, إذا ضمت الدال أو فُتحت, فقال بعض الكوفيين: معنى ذلك: إذا فتحت الدولة وتكون للجيش يهزم هذا هذا, ثم يهزم الهازم, فيقال: قد رجعت الدولة على هؤلاء قال: والدولة برفع الدال في الملك والسنين التي تغير وتبدّل على الدهر, فتلك الدولة والدول. وقال بعضهم: فرق ما بين الضمّ والفتح أن الدولة: هي اسم الشيء الذي يتداول بعينه, والدولة الفعل.
والقراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك: كَيْلا يَكْونَ بالياء دُولَةً بضم الدال ونصب الدولة على المعنى الذي ذكرت في ذلك لإجماع الحجة عليه, والفرق بين الدّولة والدّولة بضم الدال وفتحها ما ذكرت عن الكوفيّ في ذلك.
وقوله: وَما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ يقول تعالى ذكره: وما أعطاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء عليه من أهل القرى فخذوه وَما نهاكُمْ عَنْهُ من الغَلول وغيره من الأمور فانْتَهُوا وكان بعض أهل العلم يقول نحو قولنا في ذلك غير أنه كان يوجه معنى قوله وَمَا آتاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ إلى ما آتاكم من الغنائم. ذكر من قال ذلك:
26190ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, عن عوف, عن الحسن, في قوله: وَمَا آتاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا قال: يؤتيهم الغنائم ويمنعهم الغلول.
وقوله: وَاتّقُوا اللّهَ يقول: وخافوا الله, واحذروا عقابه في خلافكم على رسوله بالتقدّم على ما نهاكم عنه, ومعصيتكم إياه إنّ الله شَدِيدُ العِقابِ يقول: إن الله شديد عقابه لمن عاقبه من أهل معصيته لرسوله صلى الله عليه وسلم.
الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: كيلا يكون ما أفاء الله على رسوله دُولة بين الأغنياء منكم, ولكن يكون للفقراء المهاجرين. وقيل: عُني بالمهاجرين: مهاجرة قريش. ذكر من قال ذلك:
26191ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ من قريظة جعلها لمهاجرة قريش.
26192ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جُبَير, وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى, قالا: كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو, فنسبهم الله إلى أنهم فقراء, وجعل لهم سهما في الزكاة.
26193ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله للْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ الّذِينَ أُخُرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ... إلى قوله أولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ قال: هؤلاء المهاجرون تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر, خرجوا حبا لله ولرسوله, واختاروا الإسلام على ما فيه من الشدّة, حتى لقد ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع, وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ماله دثار غيرها.
وقوله: الّذِينَ أخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وأمْوَالِهِمْ, وقوله: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللّهِ وَرِضْوَانا موضع يبتغون نصب, لأنه في موضع الحال وقوله: وَيَنْصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ يقول: وينصرون دين الله الذي بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم. وقوله: أولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ يقول: هؤلاء الذين وصف صفتهم من الفقراء المهاجرين هم الصادقون فيما يقولون.
الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ والإيمَانَ يقول: اتخذوا المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم, فابتنوها منازل, وَالإيمَانَ بالله ورسوله مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: من قبل المهاجرين, يُحِبّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ: يحبون من ترك منزله, وانتقل إليهم من غيرهم, وعُنِي بذلك الأنصار يحبون المهاجرين. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26194ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال: الأنصار نعت. قال محمد بن عمرو: سفاطة أنفسهم. وقال الحارث: سخاوة أنفسهم عند ما روى عنهم من ذلك, وإيثارهم إياهم ولم يصب الأنصار من ذلك الفيء شيء.
26195ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مِنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ, وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا يقول: مما أعطوا إخوانهم هذا الحيّ من الأنصار, أسلموا في ديارهم, فابتنوا المساجد والمسجد, قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم, فأحسن الله عليهم الثناء في ذلك وهاتان الطائفتان الأوّلتان من هذه الآية, أخذتا بفضلهما, ومضتا على مَهَلهما, وأثبت الله حظهما في الفيء.
26196ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله الله عزّ وجلّ: وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ قال: هؤلاء الأنصار يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين.
وقوله: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا يقول جلّ ثناؤه: ولا يجد الذين تبوّءوا الدار من قبلهم, وهم الأنصار في صدورهم حاجة, يعني حسدا مما أوتوا, يعني مما أوتي المهاجرين من الفيء, وذلك لما ذُكر لنا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأوّلين دون الأنصار, إلا رجلين من الأنصار, أعطاهما لفقرهما, وإنما فعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26197ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا سلمة, قال: ثني محمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبي بكر, أنه حدّث أنّ بني النضير خَلّوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فكانت النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء, فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار, إلا أن سهل بن حُنَيف وأبا دُجانة سِماك بن خَرَشة ذكرا فقرا, فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
26198ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُتُوا المهاجرون. قال, وتكلم في ذلك يعني أموالَ بني النضير بعضُ من تكلّم من الأنصار, فعاتبهم الله عزّ وجلّ في ذلك فقال: وَما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ اللّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: «إنّ إخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا الأمْوَالَ والأولاد وَخَرَجُوا إلَيْكُمْ» فقالوا: أموالنا بينهم قطائع, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟» قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: «هُمْ قَوْمٌ لا يَعْرِفُونَ العَمَلَ فَتَكْفُونهُمْ وَتُقاسِمُونَهُمْ الثّمَرَ», فقالوا: نعم يا رسول الله.
وبنحو الذي قلنا في قوله وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26199ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا سليمان أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أوتُوا قال: الحسد.
قال: ثنا عبد الصمد, قال: حدثنا شعبة, عن أبي رجاء, عن الحسن حاجَةً فِي صُدُورِهِمْ قال: حسدا في صدورهم.
حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, قال: أخبرنا أبو رجاء عن الحسن, مثله.
وقوله: وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ يقول تعالى ذكر: وهو يصف الأنصار الذين تبوّءُوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهمْ يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثارا لهم بها على أنفسهم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم. والخَصاصة مصدر, وهي أيضا اسم, وهو كلّ ما تخلّلته ببصرك كالكوّة والفرجة في الحائط, تجمع خَصاصات وخِصاص, كمال قال الراجز:
قَدْ عَلِمَ المَقاتِلاتُ هَجّا
والنّاظراتُ مِنْ خَصَاصٍ لَمْجا
لأَوْرِيَنْها دُلَجا أوْ مُنْجَا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26200ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا ابن فضيل, عن أبيه, عن أبي حازم, عن أبي هريرة, قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليضيفه, فلم يكن عنده ما يضيفه, فقال: «ألا رجلٌ يضيفُ هذا رَحِمَهُ اللّهُ؟» فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة, فانطلق به إلى رحله, فقال لامرأته: أكرمي ضيفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم, نوّمي الصبية, وأطفئي المصباح وأريه بأنك تأكلين معه واتركيه لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت فنزلت وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, عن فضيل, عن غزوان, عن أبي حازم, عن أبي هريرة, أن رجلاً من الأنصار بات به ضيف, فلم يكن عند إلا قوته وقوت صبيانه, فقال لامرأته: نَوّمي الصّبْية وأطفئي المصباح, وقرّبي للضيف ما عندك, قال: فنزلت هذه الآية وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ.
يقول تعالى ذكره: من وقاه الله شحّ نفسه فأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ المخلّدُونَ في الجنة. والشحّ في كلام العرب: البخل, ومنع الفضل من المال ومنه قول عمرو بن كلثوم:
تَرَى اللّحِزَ الشّحيحَ إذَا أُمِرّتْعَلَيْهِ لِمَالِهِ فِيها مُهينا
يعني بالشحيح: البخيل, يقال: إنه لشحيح بين الشحّ والشحّ, وفيه شحة شديدة وشحاحة. وأما العلماء فإنهم يرون أن الشحّ في هذا الموضع إنما هو أكل أموال الناس بغير حقّ.
26201ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا المسعودي, عن أشعث, عن أبي الشعثاء, عن أبيه, قال: أتى رجل ابن مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت, قال: وما ذاك؟ قال: أسمع الله يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء, قال: ليس ذاك بالشحّ الذي ذكر الله في القرآن, إنما الشحّ أن تأكل مال أخيك ظلما, ذلك البخل, وبئس الشيء البخل.
26202ـ حدثني يحيى بن إبراهيم, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن جده, عن الأعمش, عن جامع, عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود, فقال يا أبا عبد الرحمن, إني أخشى أن تكون أصابتني هذه الآية وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ والله ما أعطي شيئا أستطيع منعه, قال: ليس ذلك بالشحّ, إنما الشحّ أن تأكل مال أخيك بغير حقه, ولكن ذلك البخل.
26203ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن, قالا: حدثنا سفيان, عن طارق بن عبد الرحمن, عن سعيد بن جُبَير, عن أبي الهياج الأسدي, قال: كنت أطوف بالبيت, فرأيت رجلاً يقول: اللهمّ قني شحّ نفسي, لا يزيد على ذلك, فقلت له, فقال: إني إذا وقيت شحّ نفسي لم أسرق, ولم أزن, ولم أفعل شيئا, وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف.
26204ـ حدثني محمد بن إسحاق, قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي, قال: حدثنا إسماعيل بن عياش, قال: حدثنا مجمع بن جارية الأنصاري, عن عمه يزيد بن جارية الأنصاري, عن أنس بن مالك, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَرِىءَ مِنَ الشّحّ مَنْ أدّى الزّكاةَ, وَقَرَى الضّيْفَ, وأعْطَى في النّائِبَةِ».
26205ـ حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا زياد بن يونس أبو سلامة, عن نافع بن عمر المكي, عن ابن أبي مليكة, عن عبد الله بن عمر, قال: إن نجوت من ثلاث طمعت أن أنجو. قال عبد الله بن صفوان ما هنّ أنبيك فيهنّ, قال: أخرج المال العظيم, فأخرجه ضرارا, ثم أقول: أقرض ربي هذه الليلة, ثم تعود نفسي فيه حتى أعيده من حيث أخرجته, وإن نجوت من شأن عثمان, قال ابن صفوان: أما عثمان فقُتل يوم قُتل, وأنت تحبّ قتله وترضاه, فأنت ممن قتله وأما أنت فرجل لم يقك الله شحّ نفسك, قال: صدقت.
26206ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله عزّ وجلّ: وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ قال: من وقى شحّ نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئا, ولم يقربه, ولم يدعه الشحّ أن يحبس من الحلال شيئا, فهو من المفلحين, كما قال الله عزّ وجلّ.
وحدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ قال: من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله عزّ وجلّ عنه, ولم يدعه الشحّ على أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به, فقد وقاه الله شحّ نفسه, فهو من المفلحين