تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 547 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 547

546

ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار، ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم، فقال: 10- " والذين جاؤوا من بعدهم " وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وقيل هم الذين هاجروا بعد ما قوي الإسلام، والظاهر شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة المتأخر إسلامهم في عصر النبوة، ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوة إلى يوم القيامة، لأنه يصدق على الكل أنهم جاءوا بعد المهاجرين الأولين والأنصار، والموصول مبتدأ وخبره "يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان" ويجوز أن يكون الموصول معطوفاً على قوله: " والذين تبوؤوا الدار والإيمان "، فيكون يقولون في محل نصب على الحال، أو مستأنف لا محل له، والمراد بالأخوة هنا أخوة الدين، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم ولمن تقدمهم من المهاجرين والأنصار "ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا" أي غشاً وبغضاً وحسداً. أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أولياً لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غلاً لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه والاستغاثة به، بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم، فقد انقاد للشيطان بزمام ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان وزين لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر، والله من ورائهم محيط "ربنا إنك رؤوف رحيم" أي كثير الرأفة والرحمة بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك. وقد أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؟ أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً فقال: ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه الله، فقال رجل من الأنصار، وفي رواية فقال أبو طلحة الأنصاري: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله، فقال لامرأته أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئاً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت، ثم غدا الضيف على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة، وأنزل فيهما "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة". وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول، فنزلت فيهم "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة". وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أن رجلاً قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله يقول: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء، فقال له ابن مسعود: ليس ذلك بالشح، ولكنه البخل ولا خير في البخل. وإن الشح الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، ولكنه البخل وإنه لشر، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له. وأخرج ابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال: من أدى زكاة ماله فقد وقي شح نفسه. وأخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما محق الإسلام محق الشح شيء قط. وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم". وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم الشح. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: الناس على ثلاث منازل قد مضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ " والذين جاؤوا من بعدهم " الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه عن عائشة قالت: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم، ثم قرأت هذه الآية " والذين جاؤوا من بعدهم ". وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه "للفقراء المهاجرين" الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت؟ قال لا، ثم قرأ عليه " والذين تبوؤوا الدار والإيمان " الآية. ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم؟ قال لا، ثم قرأ عليه " والذين جاؤوا من بعدهم " الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال أرجو، قال: ليس من هؤلاء من سب هؤلاء.
لما فرغ سبحانه من ذكر الطبقات الثلاث من المؤمنين، ذكر ما جرى بين المنافقين واليهود من المقاولة لتعجيب المؤمنين من حالهم، فقال: 11- "ألم تر إلى الذين نافقوا" والخطاب لرسول الله، أو لكل من يصلح له، والذين نافقوا هم عبد الله بن أبي وأصحابه، وجملة "يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب" مستأنفة لبيان المتعجب منه، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة أو للدلالة على الاستمرار، وجعلهم إخواناً لهم لكون الكفر قد جمعهم، وإن اختلف نوع كفرهم فهو إخوان في الكفر، واللام في لإخوانهم هي لام التبليغ، وقيل هو من قول بني النضير لبني قريظة، والأول أولى، لأن بني النضير وبني قريظة هم يهود، والمنافقون غيرهم، واللام في قوله: "لئن أخرجتم" هي الموطئة للقسم: أي والله لئن أخرجتم من دياركم "لنخرجن معكم" هذا جواب القسم: أي لنخرجن من ديارنا في صحبتكم "ولا نطيع فيكم" أي في شأنكم، ومن أجلكم "أحداً" ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم وإن طال الزمان، وهو معنى قوله: "أبداً" ثم لما وعدوهم بالخروج معهم وعدوهم بالنصرة لهم، فقالوا: "وإن قوتلتم لننصرنكم" على عدوكم. ثم كذبهم سبحانه فقال: "والله يشهد إنهم لكاذبون" فيما وعدوهم به من الخروج معهم والنصرة لهم.
ثم لما أجمل كذبهم فيما وعدوا به فصل ما كذبوا فيه فقال: 12- " لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم" وقد كان الأمر كذلك، فإن المنافقين لم يخرجوا مع من أخرج من اليهود وهم بنو النضير ومن معهم ولم ينصروا من قوتل من اليهود وهم بنو قريظة وأهل خيبر "ولئن نصروهم" أي لو قدر وجود نصرهم إياهم، لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده. قال الزجاج: معناه لو قصدوا نصر اليهود "ليولن الأدبار" منهزمين "ثم لا ينصرون" يعني اليهود لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم، وهم المنافقون، وقيل يعني لا يصير المنافقون منصورين بعد ذلك، بل يذلهم الله ولا ينفعهم نفاقهم، وقيل معنى الآية: لا ينصورنهم طائعين ولئن نصروهم مكرهين ليولن الأدبار، وقيل معنى لا ينصرونهن: لا يدومون على نصرهم، والأول أولى، ويكون من باب قوله: " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ".
13- "لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله" أي لأنتم يا معاشر المسلمين أشد خوفاً وخشية في صدور المنافقين، أو صدور اليهود، أو صدور الجميع من الله: أي من رهبة الله، والرهبة هنا بمعنى المرهوبية، لأنها مصدر من المبني للمفعول، وانتصابها على التمييز "ذلك بأنهم قوم لا يفقهون" أي ما ذكر من الرهبة الموصوفة بسبب عدم فقههم لشيء من الأشياء ولو كان لهم فقه لعلموا أن الله سبحانه هو الذي سلطكم عليهم، فهو أحق بالرهبة منه دونكم.
ثم أخبر سبحانه بمزيد فشلهم وضعف نكايتهم فقال: 14- "لا يقاتلونكم جميعاً" يعني لا يبرز اليهود والمنافقون مجتمعين لقتالكم ولا يقدرون على ذلك "إلا في قرى محصنة" بالدروب والدور "أو من وراء جدر" أي من خلف الحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم. قرأ الجمهور "جدر" بالجمع، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وابن كثير وأبو عمرو "جدار" بالإفراد. واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم لأنها موافقة لقوله قرى محصنة. وقرأ بعض المكيين جدر بفتح الجيم وإسكان الدال، وهي لغة في الجدار "بأسهم بينهم شديد" أي بعضهم غليظ فظ على بعض، قلوبهم مختلفة ونياتهم متباينة. قال السدي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد. وقال مجاهد: بأسهم بينهم شديد بالكلام والوعيد ليفعلن كذا. والمعنى: أنهم إذا انفردوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، وإذا لاقوا عدواً ذلوا وخضعوا وانهزموا، وقيل المعنى أن بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد، وإنما ضعفهم بالنسبة إليكم لما قذف الله في قلوبهم من الرعب، والأول أولى لقوله: "تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى" فإنه يدل على أن اجتماعهم إنما هو في الظاهر مع تخالف قلوبهم في الباطن، وهذا التخالف هو البأس الذي بينهم الموصوف بالشدة، ومعنى شتى متفرقة، قال مجاهد: يعني اليهود والمنافقين تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى. وروي عنه أيضاً أنه قال: المراد المنافقون. وقال الثوري: هم المشركون وأهل الكتاب. قال قتادة: تحسبهم جميعاً: أي مجتمعين على أمر ورأي، وقلوبهم شتى متفرقة، فأهل الباطل مختلفة آراؤهم مختلفة شهادتهم مختلفة أهواؤهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق. وقرأ ابن مسعود وقلوبهم أشت أي أشد اختلافاً "ذلك بأنهم قوم لا يعقلون" أي ذلك الاختلاف والتشتت بسب أنهم قوم لا يعقلون شيئاً ولو عقلوا لعرفوا الحق واتبعوه.
15- "كمثل الذين من قبلهم" أي مثلهم كمثل الذين من قبلهم، والمعنى: أن مثل المنافقين واليهود كمثل الذين من قبلهم من كفار المشركين "قريباً" يعني في زمان قريب، وانتصاب قريباً إلى الظرفية: أي يشبهونهم في زمن قريب، وقيل العامل فيه ذاقوا: أي ذاقوا في زمن قريب، ومعنى "ذاقوا وبال أمرهم" أي سوء عاقبة كفرهم في الدنيا بقتلهم يوم بدر، وكاذن ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، قاله مجاهد وغيره، وقيل المراد بنو النضير حيث أمكن الله منهم، قاله قتادة. وقيل قتل بني قريظة، قاله الضحاك. وقيل هو عام في كل من انتقم الله منه بسبب كفره، والأول أولى "ولهم عذاب أليم" أي في الآخرة.
ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً آخر فقال: 16- "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر" أي مثلهم في تخاذلهم وعدم تناصرهم، فهو إما خبر مبتدأ محذوف، أو خبر آخر للمبتدأ المقدر قبل قوله: "كمثل الذين من قبلهم" على تقدير حذف حرف العطف كما تقول: أنت عاقل، أنت عامل، أنت كريم. وقيل المثل الأول خاص باليهود، والثاني خاص بالمنافقين، وقيل المثل الثاني بيان للمثل الأول. ثم بين سبحانه وجه الشبه فقال: "إذ قال للإنسان اكفر" أي أغراه بالكفر وزينه له وحمله عليه، والمراد بالإنسان هنا جنس من أطاع الشيطان من نوع الإنسان، وقيل هو عابد كان في بني إسرائيل حمله الشيطان على الكفر فأطاعه "فلما كفر قال إني بريء منك" أي فلما كفر الإنسان مطاوعة للشيطان، وقبولاً لتزيينه قال الشيطان إني بريء منك، وهذ يكون منه يوم القيامة، وجملة "إني أخاف الله رب العالمين" تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره، وقيل المراد بالإنسان هنا أو جهل، والأول أولى. قال مجاهد: المراد بالإنسان هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم، قيل وليس قول الشيطان "إني أخاف الله" على حقيقته، إنما هو على وجه التبري من الإنسان فهو تأكيد لقوله: "إني بريء منك" قرأ الجمهو "إني" بإسكان الياء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتحها.