تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 557 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 557

556

10- "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير" المراد بالآيات إما التنزيلية أو ما هو أعم منها، ذكر سبحانه حال السعداء وحال الأشقياء هاهنا لبيان ما تقدم من التغابن، وأنه سيكون بسبب التفكير وإدخال الجنة للطائفة الأولى، وبسبب إدخال الطائفة الثانية النار وخلودهم فيها.
11- "ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله" أي ما أصاب كل أحد من مصيبة من المصائب إلا بإذن الله: أي بقضائه وقدره ، قال الفراء إلا بإذن الله : أي بأمر الله ، وقيل إلا بعلم الله . قيل وسبب نزولها أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " أي من يصدق ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما قدره الله عليه يهد قلبه للصبر والرضا بالقضاء . قال مقاتل بن حيان يهد قلبه عند المصيبة فيعلم أنها من الله فيسلم لقضائه ويسترجع . وقال سعيد بن جبير يهد قلبه عند المصيبة فيقول " إنا لله وإنا إليه راجعون " وقال الكلبي هو إذا ابتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر ، وإذا ظلم غفر . قرأ الجمهور " يهد" بفتح الياء وكسر الدال : أي يهده الله ، وقرأ قتادة و السلمي و الضحاك و أبو عبد الرحمن بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول ، وقرأ طلحة بن مصرف و الأعرج و سعيد بن جبير و ابن هرمز و الأزرق نهد بالنون ، وقرأ مالك بن دينار و عمرو بن دينار و عكرمة يهدأبهمزة ساكنة ورفع قلبه : أي يطمئن ويسكن " والله بكل شيء عليم " أي بليغ العلم لا تخفى عليه من ذلك خافية .
12- "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول" أي هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله وطاعة رسوله "فإن توليتم" أي أعرضتم عن الطاعة "فإنما على رسولنا البلاغ المبين" ليس عليه غير ذلك وقد فعل، وجواب الشرط محذوف والتقدير فلا بأس على الرسول، وجملة "فإنما على رسولنا" تعليل للجواب المحذوف.
ثم أرشد إلى التوحيد والتوكل فقال: 13- "الله لا إله إلا هو" أي هو المستحق للعبودية دون غيره فوحدوه ولا تشركوا به "وعلى الله فليتوكل المؤمنون" أي يفوضوا أمورعم إليه ويعتمدوا عليه، لا على غيره. وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبيهقي وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قيل له: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا؟ قال: سمعته يقول: بئس مطية الرجل. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه كره زعموا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: يوم التغابن من أسماء يوم القيامة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه في قوله: "ذلك يوم التغابن" قال: غبن أهل الجنة أهل النار، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود في قوله: "ما أصاب من مصيبة" قال: هي المصيبات تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "يهد قلبه" قال: يعني يهد قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
قوله: 14- "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم" يعني أنهم يعادونكم ويشغلونكم عن الخير، ويدخل في ذلك سبب النزول دخولاً أولياً، وهو أن رجالاً من مكة أسلموا وأرادوا أن يهاجروا فلم يدعهم أزواجهم ولا أولادهم، فأمر الله سبحانه بأن يحذروهم فلا يطيعوهم في شيء مما يريدونه منهم مما فيه مخالفة لما يريده الله، والضمير في "فاحذروهم" يعود إلى العدو، أو إلى الأزواج والأولاد لكن لا على العموم، بل إلى المتصفين بالعداوة منهم، وإنما جاز جمع الضمير على الوجه الأول، لأن العدو يطلق على الواحد والاثنين والجماعة. ثم أرشدهم الله إلى التجاوز فقال: "وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا" أي تعفوا عن ذنوبهم التي ارتكبوها وتتركوا التثريب عليها وتستروها "فإن الله غفور رحيم" بالغ المغفرة والرحمة لكم ولهم، وقيل كان الرجل الذي ثبطه أزواجه وأولاده عن الهجرة إذا رأى الناس قد سبقوه إليها وفقهوا في الدين هم أن يعاقب أزواجه وأولاده، فأنزل الله "وإن تعفوا" الآية، والآية تعم وإن كان السبب خاصاً كما عرفناك غير مرة. قال مجاهد: والله ما عاودهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن اتخذوا لهم الحرام فأعطوهم إياه. أن
ثم أخبر الله سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال: 15- "إنما أموالكم وأولادكم فتنة" أي بلاء واختبار ومحنة يحملونكم على كسب الحرام ومنع حق الله فلا تطيعوهم في معصية الله "والله عنده أجر عظيم" لمن آثر طاعة الله وترك معصيته في محبة ماله وولده.
ثم أمرهم سبحانه بالتقوى والطاعة فقال: 16- "فاتقوا الله ما استطعتم" أي ما أطقتم وبلغ إليه جهدكم. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله سبحانه: " اتقوا الله حق تقاته " ومنهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد، وقد أوضحنا الكلام في قوله: " اتقوا الله حق تقاته " ومعنى "واسمعوا وأطيعوا" أي اسمعوا ما تؤمرون به وأطيعوا الأوامر. قال مقاتل اسمعوا: اقبلوا ما تسمعون لأنه لا فائدة في مجرد السماع "وأنفقوا خيراً لأنفسكم" أي أنفقوا من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير ولا تبخلوا بها، وقوله: "خيراً لأنفسكم" منتصب بفعل مضمر دل عليه أنفقوا، كأنه قال: ائتوا في الإنفاق خيراً لأنفسكم، أو قدموا خيراً لها، كذا قال سيبويه: وقال الكسائي والفراء: هو نعت لمصدر محذوف: أي إنفاقاً خيراً. وقال أبو عبيدة: هو خبر لكان المقدرة: أي يكن الإنفاق خيراً لكم. وقال الكوفيون: هو منتصب على الحال، وقيل هو مفعول به لأنفقوا: أي فأنفقوا خيراً. والظاهر: في الآية الإنفاق مطلقاً من غير تقييد بالزكاة الواجبة، وقيل المراد زكاة الفريضة، وقيل النافلة، وقيل النفقة في الجهاد "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" أي ومن يوق شح نفسه فيفعل ما أمر به من الإنفاق ولا يمنعه ذلك منه فأولئك هم الظافرون بكل خير الفائزون بكل مطلب، وقد تقدم تفسير هذه الآية.
17- "إن تقرضوا الله قرضاً حسناً" فتصرفون أموالكم في وجوه الخير بإخلاص نية وطيب نفس "يضاعفه لكم" فيجعل الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وقد تقدم تفسير هذه الآية واختلاف القراءة في في قراءتها في سورة البقرة وسورة الحديد "ويغفر لكم" أي يضم لكم إلى تلك المضاعفة غفران ذنوبكم "والله شكور حليم" يثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة، ولا يعاجل من عصاه بالعقوبة.
18- "عالم الغيب والشهادة" أي ما غاب وما حضر لا تخفى عليه منه خافية، وهو "العزيز الحكيم" أي الغالب القاهر ذو الحكمة الباهرة. وقال ابن الأنباري: الحكيم هو المحكم لخلق الأشياء. وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم" في قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم، فنزلت إلى قوله: "فإن الله غفور رحيم". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه وابن مردويه عن بريدة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما واحداً من ذا الشق وواحداً من ذا الشق، ثم صعد المنبر فقال: صدق الله "إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما". وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله استقرضت عبدي فأبى أن يقرضني وشتمني عبدي وهو لا يدري، يقول: وادهراه وادهراه وأنا الدهر، ثم تلا أبو هريرة "إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم"".