تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 556 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 556

555

هي ثمان عشرة آية وهي مدنية في قول الأكثر. وقال الضحاك: هي مكية. وقال الكلبي: هي مدنية ومكية. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة التغابن بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وأخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة التغابن بمكة إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم" إلى آخر السورة. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار نحوه. وأخرج ابن حبان في الضعفاء، والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن عبد الله ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من سورة التغابن" قال ابن كثير: وهو غريب جداً بل منكر. وأخرج البخاري في تاريخه عن عبد الله بن عمرو قال: ما مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من أول سورة التغابن. قوله: 1- "يسبح لله ما في السموات وما في الأرض" أي ينزهه سبحانه جميع مخلوقاته التي في سماواته وأرضه عن كل نقص وعيب "له الملك وله الحمد" يختصان به ليس لغيره منهما شيء، وما كان لعباده منهما فهو من فيضه وراجع إليه "وهو على كل شيء قدير" لا يعجزه شيء.
2- "هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن" أي فبعضكم كافر وبعضكم مؤمن. قال الضحاك: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كعمار بن ياسر ونحوه ممن أكره على الكفر. وقال عطاء: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب. قال الزجاج: إن الله خلق الكافر وكفره فعل له وكسب مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب مع أن الله خالق الإيمان، والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه، لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه، لأن وجود خلاف المقدر عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل. قال القرطبي: وهذا أحسن الأقوال وهو الذي عليه جمهور الأمة، وقدم الكافر على المؤمن لأنه الأغلب عند نزول القرآن "والله بما تعملون بصير" لا تخفى عليه من ذلك خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم.
ثم لما ذكر سبحانه إلى خلق العالم الصغير أتبعه بخلق العالم الكبير فقال: 3- "خلق السموات والأرض بالحق" أي بالحكمة البالغة. وقيل خلق ذلك خلقاً يقيناً لا ريب فيه، وقيل الباء بمعنى اللام: أي خلق ذلك لإظهار الحق، وهو أن يجزي المحسن بإحسانة والمسيء بإساءته. ثم رجع سبحانه إلى خلق العالم الصغير فقال: "وصوركم فأحسن صوركم" قيل المراد آدم خلقه بيده كرامة له، كذا قال مقاتل، وقيل المراد جميع الخلائق وهو الظاهر: أي أنه سبحانه خلقهم في أكمل صورة وأحسن تقويم وأجمل شكل. والتصوير: التخطيط والتشكيل. قرأ الجمهور "فأحسن صوركم" بضم الصاد، وقرأ زيد بن علي والأعمش وأبو زيد بكسرها "وإليه المصير" في الدار الآخرة، لا إلى غيره.
4- "يعلم ما في السموات والأرض" لا تخفى عليه من ذلك خافية "ويعلم ما تسرون وما تعلنون" أي ما تخفونه وما تظهرونه، والتصريح به مع اندراجه [فيما] قبله لمزيد التأكيد في الوعد والوعيد "والله عليم بذات الصدور" هذه الجملة مقررة لما قبلها من شمول علمه لكل معلوم، وهي تذييلية.
5- "ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل" وهم كفار الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود، والخطاب لكفار العرب "فذاقوا وبال أمرهم" بسبب كفرهم، والوبال: الثقل والشدة، والمراد بأمرهم هنا ما وقع منهم من الكفر والمعاصي، وبالوبال ما أصيبوا به من عذاب الدنيا "ولهم عذاب أليم" وذلك في الآخرة وهو عذاب النار.
والإشارة بقوله: 6- "ذلك" إلى ما ذكر من العذاب في الدارين، وهو مبتدأ وخبره "بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات" أي بسبب أنها كانت تأتيهم الرسل المرسلة إليهم بالمعجزات الظاهرة "فقالوا أبشر يهدوننا" أي قال كل قوم منهم لرسولهم هذا القول منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر متعجبين من ذلك، وأراد بالبشر الجنس، ولهذا قال يهدوننا "فكفروا وتولوا" أي كفروا بالرسل وبما جاءوا به وأعرضوا عنهم ولم يتدبروا فيما جاءوا به، وقيل كفروا بهذا القول الذي قالوه للرسل "واستغنى الله" عن إيمانهم وعبادتهم. وقال مقاتل: استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه من المعجزات، وقيل استغنى بسلطانه عن طاعة عباده "والله غني حميد" أي غير مختاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له، محمود من كل مخلوقاته بلسان المقال والحال. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض، فيقول: أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق، وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله: "وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير"". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العبد يولد مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت مؤمناً، والعبد يولد كافراً ويعيش كافراً ويموت كافراً، وإن العبد يعمل برهة من دهره بالسعادة ثم يدركه ما كتب له فيموت شقياً، وإن العبد يعمل برهة من دهره بالشقاء ثم يدركه ما كتب له فيموت سعيداً".
قوله: 7- "زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا" الزعم: هو القول بالظن ويطلق على الكذب. قال شريح: لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا، و"أن لن يبعثوا" قائم مقام مفعول زعم، وأن هي المخففة من الثقيلة لا المصدرية لئلا يدخل ناصب على ناصب، والمراد بالكفار كفار العرب، والمعنى: زعم كفار العرب أن الشأن لن يبعثوا أبداً. ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم ويبطل زعمهم فقال: " قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن " بل هي التي لإيجاب النفي، فالمعنى: بل تبعثون. ثم أقسم على ذلك، وجواب القسم لتبعثن: أي لتخرجن من قبوركم لتبؤن "بما عملتم" أي لتخربن بذلك إقامة للحجة عليكم ثم تجزون به "وذلك" البعث والجزاء "على الله يسير" إذ الإعادة أيسر من الابتداء.
8- "فآمنوا بالله ورسوله" الفاء هي الفصيحة الدالة على شرط مقدر: أي إذا كان الأمر هكذا فصدقوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم "والنور الذي أنزلنا" وهو القرآن لأنه نور يهتدي به من [ظلمة] الضلال "والله بما تعملون خبير" لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم فهو مجازيكم على ذلك.
9- "يوم يجمعكم ليوم الجمع" العامل في الظرف لتنبؤن، قاله النحاس. وقال غيره: العامل فيه خبير، وقيل العامل فيه محذوف هو اذكر. وقال أبو البقاء: العامل فيه ما دل عليه الكلام: أي تتفاوتون يوم يجمعكم. قرأ الجمهور "يجمعكم" بفتح الياء وضم العين، وروي عن أبي عمرو إسكانها، ولا وجه لذلك إلا التخفيف وإن لم يكن هذا موضعاً له كما قرئ في "وما يشعركم" بسكون الراء، وكقول الشاعر: فاليوم أشرب غير مستحقب إثماً من الله ولا واغل بإسكان باء أشرب، وقرأ زيد بن علي والشعبي ويعقوب ونصر وابن أبي إسحاق والجحدري نجمعكم بالنون، ومعنى "ليوم الجمع" ليوم القيامة فإنه يجمع فيه أهل المحشر للجزاء، ويجمع فيه بين كل عامل وعمله، وبين كل نبي وأمته، وبين كل مظلوم وظالمه "ذلك يوم التغابن" يعني أن يوم القيامة هو يوم التغابن، وذلك أنه يغبن فيه بعض أهل المحشر بعضاً، فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، ويغبن فيه أهل الإيمان أهل الكفر وأهل الطاعة أهل المعصية، ولا غبن أعظم من غبن أهل الجنة أهل النار عند دخول هؤلاء الجنة وهؤلاء النار، فنزلوا منازلهم التي كانوا سينزلونها لو لم يفعلوا ما يوجب النار، فكأن أهل النار استبدلوا الخير بالشر والجيد بالرديء والنعيم بالعذاب، وأهل الجنة على العكس من ذلك. يقال غبنت فلاناً: إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة، كذا قال المفسرون، فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة " ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته " أي من وقع منه التصديق مع العمل الصالح استحق تكفير سيئاته، قرأ الجمهور "يكفر" "ويدخله" بالتحتية، وقرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما، وانتصاب "خالدين فيها أبداً" على أنها حال مقدرة، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما ذكر من التكفير والإدخال، وهو مبتدأ وخبره "الفوز العظيم" أي الظفر الذي لا يساويه ظفر.